رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 16 يونيو، 2024 0 تعليق

من فضائل الحج الدينية والدنيوية

  • مِنْ أعظمِ الطاعاتِ وأفضلِ القُرُباتِ: حجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ وهو أحدُ أركانِ الإسلامِ وأصلٌ مِنْ أصولِه العظامِ
  • في الحجِّ تواضُع لله ولخَلْقه وإقرارٌ بأن الكِبْرَ للهِ وحدَه وذلك بالتكبير عندَ الرميِ والطوافِ وفي يومِ النحرِ وأيامِ التشريقِ لتبقى القلوبُ متعلقةً بالله نقيةً عن كل ما سواه
  • في الحج تربية للنفس على ترك الرغبات باجتناب بعض المباحات
 

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ: 16 من ذي القعدة 1445 هـ، الموافق 24 مايو 2024م، بعنوان (من فضائل الحج الدينية والدنيوية) التي ألقاها فضيلة الشيخ د: عبدالمحسن القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي، الذي تحدث -في بداية خطبته- عن أن الله -عز وجل- خلق الخلق لعبادته، وأنه -سبحانه- أمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وافترَض عليهم فرائضَ متفاوتةً في الفضل..

حج البيت من أعظم الطاعات

       ومِنْ أعظمِ الطاعاتِ، وأفضلِ القُرُباتِ: حجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، الذي هو أحدُ أركانِ الإسلامِ، وأصلٌ مِنْ أصولِه العظامِ، سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ ورسولِه، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهادٌ في سبيلِ اللهِ، قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ»(مُتفَق عليه).

أقسم الله بزمان الحج ومكانه

        وقد أقسَم اللهُ بالزمان الذي هو فيه فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(الْفَجْرِ:2)، وأقسَم بالمكان الذي يؤدَّى فيه، فقال: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}(الْبَلَدِ:1)، واختار -سبحانه- خيرَ بلادِه، وأحبَّها إليه، لتُقامَ على عرصاتها مناسكُ الحجِّ، فلا يُطاف على بقعة من الأرض سوى الكعبة المُشرَّفة. فرض الله على الناس أداءه على المستطيع، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناسُ، قد فرَض اللهُ عليكم الحجَّ، فَحُجُّوا»(رواه مسلم).

فضل التلبية

        وفضائلُه متتابعةٌ على الحاجِّ مِنْ حينِ دخولِه في النُّسُكِ؛ فإذا لبَّى: وافَقَه في التلبية كلُّ شجر وحجر حوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إلَّا لبَّى ما عن يمينِه وعَنْ شمالِه من شجر وحجر، حتى تنقطع الأرضُ هَهُنا وهَهُنا»، يعني: عن يمينه وعن شماله.(رواه ابن خزيمة).

الحج يهدم ما كان قبله

        وأخذ يعدد الشيخ بعض فضائل الحج؛ حيث قال وبه تُمحى أدرانُ الذنوب والخطايا، قال -صلى الله عليه وسلم -: «الحجُّ يَهدِمُ ما كان قبلَه»(رواه مسلم)، وهو طُهرةٌ للحاجِّ من الذنوب، إِنْ سَلِمَ من جميع المعاصي والوطء والتعريض به، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حجَّ لله فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رجَع كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(مُتفَق عليه)، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «المحوُ يكون للصغائر تارةً، ويكون للكبائر تارةً، باعتبارِ الموازَنةِ، والنوعُ الواحدُ مِنَ العملِ قد يفعلُه الإنسانُ على وجهٍ يَكْمُلُ فيه إخلاصُه وعبادتُه للهِ، فيغفِرُ اللهُ له به كبائرَ».

وفد الله

        كما بين فضيلته أن الحُجَّاج هم وفدُ اللهِ القادمون عليه لطلب كرامته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «وفدُ اللهِ ثلاثةٌ: الغازي، والحاجُّ، والمعتمِرُ»(رواه النسائي)، ويُباهِي اللهُ ملائكتَه بهم يومَ عرفة، قال -صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ يومٍ أكثرَ مِنْ أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا مِنَ النارِ مِنْ يومِ عرفةَ، وإنَّه لَيدنو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ فيقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ؟»(رواه مسلم)، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «وهذا يدل على أنهم مغفور لهم، لأنَّه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب، إلا من بعد التوبة والغفران». ومن أتى بجميع أركانِه وواجباتِه معَ إخلاصِ النيةِ، ولم يُخالِطْه بمأثمٍ، فجزاؤُه الجنةُ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةُ»(مُتفَق عليه).

التلبية إظهار للتوحيد

         الحجُّ طاعةٌ يَصحَبُها طاعاتٌ، مليءٌ بالمنافع والعِبَر والآيات، قال -سبحانه-: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}(الْحَجِّ:28)، قال القرطبي -رحمه الله-: «منافع لهم من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دُنيا وأخرى»، وأعظمُ منافِعِه ما يتقرَّب به العبادُ في حجهم من إخلاص العمل لله، قال جلَّ شأنُه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}(الْبَقَرَةِ:196). ومِنْ منافعِه إظهارُ التوحيدِ في تلبيتهم، «لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك له لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»(مُتفَق عليه). ومن منافعه تسليم النفس لله عبوديةً ورِقًّا، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «الحج مبناه على الذل والخضوع لله، ولهذا خص باسم النسك».

الحج تحقيق لاتباع النبي ومخالفة للمشركين

        ومِنْ مقاصدِ الحجِّ تحقيقُ الاتِّباع والتأسِّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا نُسُكَ ولا عبادةَ إلا بما وافَق هديَه، قال -صلى الله عليه وسلم -: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»(رواه مسلم)، والاتباعُ دليلُ الصدقِ والإيمانِ والمحبةِ لله، قال -عز وجل-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آلِ عِمْرَانَ:31)، وكلُّ عبادةٍ على خلاف هديه -صلى الله عليه وسلم - فإن الله لا يقبلها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»(رواه مسلم). والمسلم يتمسَّكُ بدِينه وينأى بنفسِه عن أفعال الجاهليَّة وسلوكهم، وفي الحجِّ تأكيدٌ على ذلك تِلْوَ تأكيدٍ، قال ابن القيم -رحمه الله-: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لاسيما في المناسك».

في الحج تواضع وتوحيد للشعوب

         ثم تناول الشيخ أن في عقدِ نيةِ الإحرامِ دعوةٌ للنفس إلى عصيان الهوى، فلا لُبْسَ مَخِيطٍ، ولا مَسَّ طِيبٍ، ولا تقليمَ أظافرَ، ولا خطبةَ نكاحٍ، وبلباس الإحرام تزول فوارقُ زخرفِ الدنياِ، ويظهر الخَلْقُ سواسيةً لا تَمايُزَ بينَهم في المظهَرِ. وفي الحجِّ تواضُع لله ولخَلْقه، وإقرارٌ بأن الكِبْرَ للهِ وحدَه، وذلك بالتكبير عندَ الرميِ والطوافِ وفي يومِ النحرِ وأيامِ التشريقِ، لتبقى القلوبُ متعلقةً بالله، نقيةً عن كل ما سواه. في الحج تظهر عظمة الإسلام في توحيد الشعوب على الحق وجمعهم على كلمة الإسلام، يقصدون مكانًا واحدًا، ويدعون ربًّا واحدًا، ويتَّبِعون نبيًّا واحدًا، ويتلون كتابًا واحدًا، وفيه تتلاشى فواصلُ الأجناس واللغات، والأقطار والألوان، ويظهر فيه ميزانُ التقوى والإيمانِ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الْحُجُرَاتِ:13). وفيه يأتلِف المسلمون وتَقْوَى أواصرُ المحبةِ بينَهم، فيَظهَر للخَلْقِ عظمةُ الإسلام وفضلُه، وعزُّ هذه الأمةِ وعلوُّ شأنها، قال -سبحانه-: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(الْأَنْفَالِ:63).

فيه إكثار من ذكر لله

         كما بين فضيلته أن من منافع الحج أن الحجيج يتقربون إلى ربهم بالإكثار من ذكره -تعالى- كلما أقاموا أو ارتحلوا، وإذا صعدوا أو هبطوا، بل حتى بعد فراغهم من نسكهم، قال -جلَّ شأنُه-: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}(الْبَقَرَةِ:200)، قال ابن القيم -رحمه الله-: «أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكرًا».

زينة الحجاج

         وزينة الحُجَّاج: إظهارُ مكارم أخلاقهم ومحاسن أعمالهم، وطيب الكلام بينهم، قال -جلَّ شأنُه-: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ}(الْبَقَرَةِ:197)، بل يتسابقون إلى خدمة بعضهم بعضًا، قال مجاهد -رحمه الله-: «صحبت ابن عمر -رضي الله عنهما- في السفر لأخدمه، فكان يخدمني»، قال ابن رجب -رحمه الله-: «وكان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم، اغتناما لأجر ذلك».

فيه حث على إتقان العمل

         في الحج تربية للنفس على ترك الرغبات، باجتناب بعض المباحات، كلُبْس المخيط والطِّيبِ، ومَنْ كفَّ نفسَه عن محظورات الإحرام في حَجِّه، حريٌّ به أن يَكُفَّها عن المعاصي في كل زمان ومكان، وفيه حثٌّ على إتقان العمل وأهمية الوقت في الحياة، فبغروب الشمس تحوُّل من بقعة إلى بقعة، وانتقالٌ من مَنسَكٍ إلى مَنسَكٍ، لا يَسبِقُ فعلٌ فعلًا، نظامٌ عامرٌ في الحياة والشعائر، منه المنطلَقُ في الإخلاص والاتباع. ويتأمل الحاج في مواطن رمي الجمار ذل إبليس حين ظهر على إبراهيم -عليه السلام- ليمنعه عن امتثال أمر ربه بذبح ابنه إسماعيل، فرماه الخليل بالحجر مهينا له ومظهرًا له العداوة، وعودة خروجه على الخليل ثلاث مرات تذكير لنا بأن إبليس يعاود وسوسته لبني آدم وفي عدة مواطن.

من لبى وجب عليه الوفاء

ومَنْ لبَّى في حجه بالتوحيد وكبَّره في العيد وجَب عليه الوفاء بوعده مع الله بألَّا يدعو سواه، ولا يلجأ إلى غيره ولا يطوف بغير الكعبة، قال -سبحانه-: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}(فَاطِرٍ:13).

الحج تذكير بالاستعداد للرحيل

         فاللهُ عظَّم المسجدَ الحرامَ وسمَّاه بيتَه، وليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف بها، والحج تذكير بالاستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة، فهو آخر أركان الإسلام، وأداؤه في آخر شهر في العام، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته، والحاج يترك ماله وأهله ويرحل للحج، ويلبس إحراما كلباس الأكفان، واجتماع العباد والوقوف بالمشاعر تذكير باجتماعهم في المحشر ووقوفهم بين يدي الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}(الْحَجِّ:27-28).

من حال العذر  بينه وبين الحج

         ثم وضح فضيلته أن القاعدُ لِعُذرٍ عن العمل الصالح شريكٌ للعامل إذا صدقَتْ نيتُه، وربمَّا سبَق السائرُ بقلبِه السائرينَ بأبدانهم، وقد شُرِعَ لغير الحُجَّاج صيامُ يومِ عرفةَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ على اللهِ أن يكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه»(رواه مسلم)، فشَارِكُوا الحجيجَ في أيام عشر ذي الحجة بالدعاء والتهليل والتكبير والتحميد وسائر أنواع الذِّكْر، وأكثِرُوا منها كلَّ حين، قال -صلى الله عليه وسلم -: «مَا ‌الْعَمَلُ ‌فِي ‌أَيَّامٍ ‌أَفْضَلَ ‌مِنْهَا ‌فِي ‌هَذِهِ»، قَالَوا: وَلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ، إِلَا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»(رواه البخاري)، فاغتَنِمُوا مواسمَ العبادةِ قبلَ فواتها، فالحياةُ مغنمٌ، والأيامُ معدودةٌ، والأعمارُ قصيرةٌ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك