من عبر وقوف الحجاج يوم عرفة- تذكير المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة
إنَّ من عبر الحجِّ العظيمة ومواقفه المؤثرة غاية التأثير ذلكم الجمعُ العظيمُ والموقف المباركُ الذي يشهده جميعُ الحُجَّاج يوم عرفة على أرض عرفة؛ حيث يقفون جميعاً ملبِّين ومبتهلين إلى الله، يرجون رحمتَه ويخافون عذابَه، ويسألونه من فضله العظيم، في أعظم تجمُّع إسلاميٍّ يُشهد، وهذا الاجتماع الكبير يذكِّر المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأوَّلون والآخرون، ينتظرون فصل القضاء ليصيروا إلى منازلهم؛ إمَّا إلى نعيم مقيم أو إلى عذاب أليم.
ولا ريب في عِظم يوم العرض، يقول الله -تعالى-: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} (الكهف:48)، ويقول -سبحانه-: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة:18)؛ ففي ذلك اليوم العظيم يجمع الله جميعَ العباد، كما قال -سبحانه-: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}(النساء:87)، وقال -تعالى-: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}(هود:103)، ويستوي في هذا الجمع الأوَّلون والآخرون؛ فالكلُّ مجموع إلى ذلك الميقات العظيم {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}(الواقعة:49-50).
ولن يتخلَّف عن هذا الجمع أحدٌ، سواء مَن هلكوا في أجواء الفضاء، ومَن ضلُّوا في أعماق الأرض، ومَن أكلتهم الطيورُ والسِّباع، الكلُّ سيُجمعُ ولا مَفَرَّ، قال -تعالى-: {وحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(الكهف:47)، وقال -سبحانه-: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة:148)، وقال -سبحانه-: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم:93-95).
أرض غير هذه الأرض
وسيُجمعون على أرض غير هذه الأرض، قال الله -تعالى-: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(إبراهيم:48)، وقد بيَّن لنا الرسولُ -صلى الله عليه وسلم - صفةَ هذه الأرض التي يُجمع عليها الناس؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُحشرُ الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقُرصة النَّقيِّ ليس فيها عَلَمٌ لأحد» أي: على أرض مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ولا جبال ولا صخور، وليس فيها علامةُ سكنى أو بناء.
حفاة عراة
ويُجمعون حُفاةً لا نعال لهم، عُراةً لا لباس عليهم، غُرْلاً أي غير مختونين؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّكم محشورون حُفاةً عُراةً غُرلاً، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها لَمَّا سمعت النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُحشر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً» قالت: يا رسول الله، الرِّجال والنساء جميعاً ينظر بعضُهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشدُّ من أن ينظرَ بعضُهم إلى بعض».
تدنو الشمس من الخلائق
وفي ذلك اليوم تدنو الشمسُ من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فلا ظلَّ في ذلك اليوم إلاَّ ظلُّ عرش الرحمن، فمن مستظلٍّ بظلِّ العرش، ومن مُضحٍ بحرِّ الشمس، قد صهرته، واشتدَّ فيها كربُه وأقلقته، وقد ازدحمت الأمم وتضايقت ودفع بعضُهم بعضاً، واختلفت الأقدامُ، وانقطعت الأعناق من العطش، قد اجتمع عليهم في موقفهم حرُّ الشمس مع وَهَج أنفاسهم وتزاحم أجسامهم، ففاض العرقُ منهم على وجه الأرض، ثم على أقدامهم على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربِّهم من السعادة والشقاء، فمنهم من يبلغ العرقُ منكبيه وحقويه، ومنهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد ألجمه العرقُ إلجاماً، نسأل الله العافية والسلامة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يَعرَقُ الناسُ يوم القيامة حتى يذهبَ عرقُهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم» رواه البخاري
وعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «تدنو الشمسُ يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كقدر ميل، فيكون الناسُ على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبيته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً»، وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه.
خمسون ألف سنة
ويكون وقوفهم في يوم مقداره خمسون ألف سنة، قال الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، وفي صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضَّة لا يُؤدِّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنَّم، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلَّما برَدت أُعيدَت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار.
ويهوِّن الله أمرَ الوقوف على أهل الإيمان، نسأل الله الكريم من فضله؛ ففي المستدرك للحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يومُ القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر»، ويُظلِّهم الله -سبحانه- في ظلِّه الظليل يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه، ويقول -سبحانه- في ذلك الموقف العظيم: «أين المتحابُّون بجلالي؟، اليوم أُظلُّهم في ظلِّي، يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلِّي».
يفزَعُ الناسُ إلى الأنبياء
وفي ذلك اليوم يفزَعُ الناسُ إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعةَ عند الله أن يبدأ في القضاء والحكم بين العباد، فيعتذرون إلاَّ نبيّنا محمداً -صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه يقول: أنا لها، فيذهبُ ويَخرُّ ساجداً تحت العرش لربِّ العالمين، ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبله ثم يقول له: ارفع رأسَك وسَلْ تُعطَ، واشفع تشفَّع، وحينئذ يجيء الربُّ -جلَّ وعزَّ- للفصل بين العباد، قال الله -تعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}(الفجر: 22- 24).
تذكَّر يوم تأتي الله فرداً وقد نُصبت موازينُ القضاء
وهُتِّكت السُّتور عن المعاصي وجاء الذنبُ منكشف الغطاء
فتفكَّر في هذا اليوم الذي وُصف لك، وفي هذا الحال الذي حُدِّثتَ عنه، وأعِدَّ له عدَّته، وعليك بتقوى الله؛ فإنَّها خيرُ زاد، وقد قال الله -تعالى- في ختام آيات الحج {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة: 203).
لاتوجد تعليقات