رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 1 ديسمبر، 2010 0 تعليق

من روائع أوقاف المسلمين (4-4) «عين زبيدة»

الأوقاف الإسلامية من أشرف معالم الحضارة الإسلامية، والجوانب الإنسانية في أوقاف المسلمين خلدها التاريخ، وبلغت في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغاً لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب، وعملت على إسعاد البشر بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم.

ومن عظمة أوقاف المسلمين أنها تعدت حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وقد وجدنا في ثبت التأريخ أوقافاً خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافاً لرعي الحيوانات المسنة العاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق، وفي الشام وقف للقطط الضالة يطعمها ويسقيها سمي بمدرسة القطّاط، وهي في القيمرية الذي كان حي التجار في دمشق، ووقف للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي اسماً غريباً (محكمة الكلاب)، وهو في حي (العمارة) .

لقد تتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يوقفون الأراضي والبساتين والدور وأعمال الخير والبر؛ مما ملأ الدولة الإسلامية بالمنشآت والمؤسسات التي بلغت حداً من الكثرة يصعب إحصاؤه والإحاطة به، وكان في مقدمة تلك البيوت المساجد التي تنافس المسلمون وما زالوا في إقامتها؛ لتكون ذخراً لهم في آخرتهم.

 وتنوعت الأوقاف وبلغت الآفاق، وجرى التنافس بين أهل الغنى لإقامة الجديد من الأوقاف، ورحم الله السيوطي حيث نظم منشداً للوقف الذي يجري فيه الأجر والمثوبة للعبد يعد مماته، قائلاً بكلمات جامعة:

إذا مات ابن آدم ليس يجري

عليه من فعـــال غير عشر

علوم بثها ودعـــاء نجلٍ

وغرس النخل والصدقات تجري

وراثـة مصحف ورباط ثغر

وحفر البئر أو إجــــراء نهر

وبيت للغريـب بنـاه يأوي

إليه أو بنـاء محـــل ذكـر

وقف (عين زبيدة) :

من الأوقاف التي وثقها التاريخ وقف «عين زبيدة»، الذي سمى باسم زبيدة بنت جعفر، زوجة هارون الرشيد وابنة عمه؛ عُرفت بحبها لعمل الخير، وقد وصفها ابن تغري بردي - المؤرخ المصري في العصر المملوكي (813-874هـ) - قائلا: أعظم نساء عصرها ديناً وأصلا وجمالاً وصيانة ومعروفاً .

وقال عنها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (433/14): كانت معروفة بالخير والإفضال على أهل العلم، والبر للفقراء والمساكين، ولها آثار كثيرة في طريق مكة من مصانع حفرتها وبرك أحدثتها، وكذلك بمكة والمدينة.

وكانت زبيدة أثناء حجها قد رأت ما يعانيه الحجاج من نقص المياه؛ لهذا أمرت بحفر نهر جار يتصل بمساقط مياه المطر , ودرس أمهر المهندسين المشروع, وقرروا أنه يحتاج لأموال عظيمة لإنشاء هذه العين, فكان جوابها: اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً.

وبذلت الكثير من أموالها وجواهرها لهذا الوقف، وبلغ طول تلك العين عشرة أميال. جاء في الأعلام لخير الدين الزركلي(3/42): «زبيدة بنت جعفر بن المنصور الهاشمية العباسية، أم جعفر زوجة هارون الرشيد وبنت عمه.. وإليها تنسب «عين زبيدة» في مكة، جلبت إليها الماء من أقصى وادي النعمان شرقي مكة، وأقامت له الأقنية حتى أبلغته مكة».

فقد مهّدت طريقاً للحجاج من بغداد إلى مكة، ورصفته في بعض المواضع الوعرة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع ظل يفيدُ منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلي وقت قريب.

وعرفت زبيدة باهتمامها بالعمران، فعلى امتداد الطريق من بغداد إلى مكة المكرمة  بنت المساجد والبرك والآبار والمنازل والمرافق وجعلتها للنفع العام، وأقامت الأقنية حتى وصل الماء إلى مكة وعرفة ومزدلفة صافياً نقياً.

وزائر بيت الله الحرام، الصاعد إلى الطائف أو النازل منها يشاهد في شقاق الجبال، بقايا بناء قناة «زبيدة» الإبداعية التي نفذتها السيدة زبيدة بعد حجها عام 186هجرية، فقد أدركت مدى الصعوبات التي تواجه الحجاج خلال طريقهم إلى مكة من نقص المياه، وما يعانونه من جراء حملهم لقِرَب الماء من آلام وإرهاق، وكان الكثير منهم يموتون من جراء ذلك.

ولمعالجة هذا الواقع المرير قررت زبيدة حفر نهر جار يتصل بمساقط المطر، فاشترت (حائط حنين)، وأمرت بأن تشق للمياه قناة في الجبال؛ وأثناء مرور القناة بالجبال، جعلت لها فتحات لأقنية فرعية أقامتها في المواضع التي تكون مظنة لاجتماع مياه السيول؛ لتكون هذه المياه روافد تزيد في حجم المياه المجرورة إلى مكة المكرمة عبر القناة الرئيسة.

وذكر ابن جبير - الرحالة الأديب - في وصف طريقه إلى مكة: «وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها حتى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق».

وأمرت بإجراء (عين وادي نعمان إلى عرفة)، وهى مياه تنبع من ذيل جبل (كرا) بأرض الطائف أيضًا. وأمرت بجر هذه المياه في قناة إلى موضع يقال له (الأوجر) في وادي نعمان، وفيه إلى أرض عرفة.

وأمرت كذلك أن تدار القناة على جبل (الرحمة)، وأن تجعل منها فروع إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، ثم أمرت أن تمتد القناة من أرض عرفة إلى خلف الجبل، إلى منطقة يسميها أهل مكة (المظلمة)، ومنها تصل إلى (المزدلفة) إلى جبل خلف (منى)، ثم تصب في بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جدًا تسمى (بئر زبيدة).

وتصل قناة عين زبيدة إلى مشعر مزدلفة؛ حيث يوجد مقر لعين زبيدة مجاور للمشعر الحرام، لتصب العين في برك وأحواض خُصصّ بعضها لسقيا الحجّاج، وبعضها الآخر للدواب. ثم تنحـدر القناة فوق سطح الأرض، متجهة إلى منطقة العزيزية المتاخمة لمنى، فوق سلسلة من الجبال لتزويد مشعر منى بالماء وتصب أيضاً في برك عديدة، تسقي الظامئ وتزوِّد المتزوِّد بالماء الزلال. وتستمر هذه القنوات متجهة نحو مكّة المكرّمة، لكنها تعود لتأخذ مسارها مدفونة على أعماق قريبة من سطح الأرض، حتى تصب في بئر عظيمة مطوية بأحجار كبيرة جدا تسمي (بئر زبيدة)، في منطقة تسمى اليوم بمحبس الجن، إليها ينتهي امتداد عمل قناة (عين زبيدة).

ووصف اليافعي عين زبيدة بـ «عين الشماس» في القرن الثامن للهجرة فقال: «إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة، ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جداً لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهاراً فضلاً عن الليل».

وتعرضت (عين زبيدة) للانقطاع لقلة الأمطار، وطرأ في بعض الأحوال على قنواتها تخريب من أثر السيول، وتوالي الأزمان، وتحركت همم بعض الخلفاء والسلاطين في الأقطار الإسلامية لترميم تلك العين، وحافظوا على ما قام به المهندسون من إعمار الطابع الجمالي، فبرعوا في تنضيد الحجارة في القنوات المُعلقة، وأقاموا الأقواس على أعمدة حجريّة جميلة مطعمة بحجارة صغيرة غاية في الجمال والدقة، أخذت شكل الفسيفساء الجميلة، بألوان تتنـــاسب مع البيئة الصحراويّة المحيطة؛ مما يُعطي منظراً خلاباً ممتعا يدل على رقي علميّ في الدراسة والتصميم والتنفيذ آنذاك.

ويوجد إلى الآن آثار مكونة من طرق ومساجد وعيون مقامة بين العراق ومكة وهي من الأعمال التي قامت بها زبيدة، وقام بإصلاحها منذ إنشائها حتى زمن السلطان سليمان العثماني - يرحمة الله- العديد من الملوك والأمراء، وما زالت الأبحاث والدراسات مستمرة لإنهاض عين زبيدة فـ(دارة الملك عبد العزيز) تنسق في دراساتها مع جهات عدة ذات علاقة بالثروة المائية في منطقة مكة المكرمة منها مركز المياه ومشروع مياه عين زبيدة ومصلحة المياه بمكة ومحطة تحلية المياه بالشعيبة، ومصنع مبرة خادم الحرمين الشريفين، وذلك بغرض الحصول على نسخ من الوثائق وكافة المعلومات الخاصة بعين زبيدة ومشروعات ترميمها وصيانتها.

ما أروع تلك الأوقاف وما قدمته من خدمات جليلة ليقف القارئ أمامها وقفة تقدير واحترام لما بلغته الأمة من فضل وخيرية: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}، وما بلغ أسلافنا من امتثال لقوله[: «خير الناس أنفعهم للناس».

أوقاف قدمت رسالتها ليرى العالم أجمع محاسن ديننا ومعالم حضارتنا، وحددت مصارفها حسب رغبة الواقف ، وفي كثير من الأحيان لم تكن تلك الأوقاف مقتصرة على لون دون آخر، ولا على عرق دون غيره؛ فهي لكل كبدٍ رطبة تدب على الأرض، رجا مُوقِفُها الأجر والمثوبة من الله تعالى، بل كثير من الأوقاف التي وثقها التاريخ لا يعرف من حبسها وأنفق عليها، فحفظ اسمه عن الخلق ليذكر عند رب البرية.

ومما يبهر القارئ حجم المبالغ التي أنفقت على هذا الوقف من مال وذهب وكنوز، وما استخدم في إقامته وإمداده من رجال؛ فالآبار المحفورة بين بغداد ومكة يشهد لها التاريخ، وما زالت آثارها قائمة تحكي قصة وقف خفف معاناة الملايين ممن شد الرحال إلى المسجد الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة، ومن كثرة الآبار قل أن يتعرض المسافرون في تلك الأيام وما بعدها لخطر الهلاك عطشاً؛ ولم يكتفوا بسقي الماء بل تعدوه إلى إقامة المطاعم والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي العوز، وكان من الأوقاف أن أوقفت بيوت كذلك في مكة المكرمة على الحجاج لسكناهم في موسم الحج.

توفيت (زبيدة بنت جعفر), وخلد التاريخ ذكرها ومحاسن أفعالها وهمتها ودينها ووقفها الذي سُطر في كتب الأعلام والتاريخ والسير، وظل الناس يتذكرون سيدة عظيمة خدمت سبل الحج بتأمين المياه وأنفقت أموالها في سبيل ذلك، رحمها الله رحمة واسعة بما وسعت على الناس وفرجت كرباتهم.

المراجع :

• الأعلام لخير الدين الزركلي.

• تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

• من روائع حضارتنا لمصطفى السباعي.

• رحلة ابن جبير .

• أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، لعمر كحالة. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك