رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 6 نوفمبر، 2010 0 تعليق

من روائع أوقاف المسلمين (3-4) الخط الحديدي الحجازي

 

بعدبناء الخط الحجازي استطاع الحجاج قطع المسافة من دمشق إلى المدينة في خمسة أيام فقط  بدلاً من أربعين يوماً

لجأ قادة الثورة العربية تنفيذاً  لمشورة «لورانس» إلى تخريب الخط الحجازي ونسف جسوره

 

وحينما تقلب صفحات تاريخنا الإسلامي تجد نماذج رائعة من الأوقاف التي كان لها الدور الفاعل في التنمية والحضارة؛ والتي وفرت الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع المسلم، وتخفيف معاناة أهل الحاجة والعوز، ليكونوا مشاركين لا ساخطين على مجتمعهم وأوطانهم؛ فعمل ابن آدم كله زائل إلا ما قدم العبد لآخرته، والأوقاف من أفضل الأعمال التي يستمر بها الأجر والمثوبة في الحياة وبعد الممات.

ويعد الخط الحديدي الحجازي وقفا إسلامياً، وهو من الإنجازات الرائعة والنادرة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من الناحية السياسية والدينية والحضارية؛ بل هو من أعظم الأوقاف المعاصرة؛ حيث قدم هذا المشروع خدمات جليلة ولاسيما لحجاج بيت الله الحرام، الذين تخلصوا من رحلة الشقاء الطويلة التي كانت تمتد لأكثر من شهر وسط المخاطر الكثيرة، إذ تقلصت بعد إنشاء الخط إلى خمسة أيام فقط بما في ذلك فترات الاستراحة.

 

فبعد أن رأى السلطان عبد الحميد ما يعانيه الحجاج من مشاق في طريقهم إلى مكة المكرمة، عزم على مد خط حديدي ليسير عليه عربات بخارية تحمل الحجاج والمتاع، وتقيهم من متاعب السفر لأشهر في صحراء مقفرة، وشمس حارقة، وحصى ملتهبة، وأهوال لا يقدر عليها إلا الرجال الصناديد؛ خصص لمده من خزانة دولته أقصى ما تستطيع، ومن ماله الخاص ما جادت به نفسه، ورغب المسلمين في المشاركة والتبرع لهذا المشروع الإستراتيجي.

ومثل هذا المشروع لا يكفيه ذلك، وأوقف له الأوقاف، وسخر الجيش العثماني للعمل في مده، ووصف الشيخ على الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه «ذكريات»، العناء الذي أصاب الجيش ما أدى إلى «موت آلاف الجنود حتى قيل إن في كل مائة متر منه قبر شهيد».

شرع العمل في هذا المشروع العملاق سنة 1900م وامتد العمل فيه ثماني سنوات متتالية؛ فأصبحت الرحلة بعد إنشاء هذا الخط الحديدي الذي بلغ طوله (1320كم) تستغرق أيامًا معدودة ينعم فيها الركاب بالراحة والأمان.

وعاش المسلمون في البلدان كافة حلم إنشاء الخط الحجازي، وتخيل الكثيرون أن البعث والصحوة بين المسلمين اقترب زمانها، وتجلت هذه المشاعر الفياضة في حماسة العمل وسرعة إنجازه، وعندما وصل أول قطار إلى المدينة المنورة حاملا الحجاج انهمرت الدموع، وانهالت الدعوات للسلطان عبد الحميد.

وكان مما أوقف لذلك الخط الحديدي أراض في حيفا، وعكا والناصرة، واستثمار مياه وادي اليرموك، وأراض ومبان في دمشق وبيروت، ومنها كذلك استثمار الفوسفات في الأردن، وفي كل ذلك حُجج وقفية ووثائق قضائية.

وبلغ إجمالي ما صرف على الخط الحديدي أربعة ملايين ونصف المليون من الليرات الذهبية العثمانية، وقد سجل الخط وقفاً إسلاميا بعد أن لوحظت الأطماع الاستعمارية في ذلك المشروع الرائد وربط بوزارة الأوقاف العثمانية، وعينت له إدارة مستقلة، وصدر بذلك القانون رقم 488 عن مجلس النواب العثماني.

واجهت المشروع صعوبات تمويلية؛ لضخامة تكلفته في ظل الأزمة المالية التي تواجهها الدولة العثمانية، وليضفي السلطان عبد الحميد على مشروعه الطابع الإسلامي وجه نداءً إلى العالم الإسلامي عبر سكرتيره «عزت باشا العابد» للتبرع للمشروع ولقي هذا النداء استجابة تلقائية من مسلمي العالم وانهالت التبرعات، وتألفت في سائر الأقطار الإسلامية لجان لجمع التبرعات.

وأصدرت الدولة العثمانية طوابع لمصلحة المشروع، وأصدرت أوامر باستقطاع 10% من رواتب موظفي الدولة لصالح المشروع، وجمعت جلود الأضاحي وبيعت وحولت أثمانها إلى ميزانية الخط، وبذلك انتقلت حماسة إنشاء الخط الحجازي إلى العالم الإسلامي، ومسلمو الهند كانوا من أكثر المسلمين حماسة له، وهو ما أثار غضب بريطانيا، فوضعت العراقيل أمام حملات جمع التبرعات حتى إنها رفضت أن يرتدي المسلمون الهنود الذين اكتتبوا في الخط الأوسمة والنياشين العثمانية.

ولم يكن العمل في مد الخط الحديدي سهلاً؛ فقد عانى العاملون والمهندسون من نقص المياه، فحفروا الآبار وضخوا مياهها بطواحين الهواء والمضخات البخارية، ولم تكن كافية؛ فجلبوا المياه في صهاريج تسير على أجزاء الخط التي فرغ من مدّها وما أن انتهوا من نقص المياه واجهتهم مشكلة جديدة في الشتاء وهي السيول الجارفة التي قد تدمر المشروع بأكمله، فأنشأوا المصارف على طول الخط، وإذا بمشكلة الرمال المتحركة في الصحراء القاحلة التي قد تغطي الخط وتقطع الحركة، فغطوا منطقة الرمال المتحركة بطبقة من الصلصال، وبُني سد حجري ضيق يمتد موازيًا للخط الحجازي ليحول دون خطر تغطيته بالرمال المتحركة. أما مشكلة الوقود فتم حلها باستيراد الفحم من الخارج، وأقيمت مستودعات ضخمة لتخزينه.

وكانت بعض محطاته تحوي منشآت لتصليح العربات، وأنشئ معمل كبير في دمشق لصنع عربات كاملة، وكان في نهاية الخط في المدينة المنورة كذلك محطة كبيرة، وفي تبوك كذلك محطة لا تقل حجماً عن محطتي دمشق والمدينة.

ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (22 رجب 1326هـ الموافق 23 أغسطس 1908م) وأقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي، وقدم الخط الحجازي خدمات جليلة لحجاج بيت الله الحرام؛ حيث استطاع حجاج الشام والأناضول قطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط بدلاً من أربعين يومًا، مع العلم أن الوقت الذي كان يستغرقه القطار هو (72) ساعة فقط، أما بقية الأيام الخمسة فكانت تضيع في وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات(1).

وكانت القطارات البخارية تنطلق من محطة قطار «حيدر باشا» بإسطنبول إلى دمشق ومن دمشق إلى المدينة المنورة كان يسمى خط الحجاز، فتحقق الحلم الذي طالما انتظره المسلمون، وكان في خطة المشروع الحجازي أن يمتد بعد ذلك إلى مكة المكرمة ومن هناك إلى جدة، بيد أن أياً من ذلك لم يتحقق.

وساعد الخط الحجازي في نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز، وكافة المدن الواقعة على امتداد الخط، ومنها مدينة حيفا التي تحولت إلى ميناء ومدينة تجارية هامة، وكذلك المدينة المنورة. كذلك ظهرت مجتمعات عمرانية نتيجة استقرار بعض القبائل والتجمعات البدوية على جانبي الخط في بعض الجهات واشتغالهم بالزراعة.

يقول د. السيد محمد الدقن : « أما الحجاز فقد ازدهر بصفة عامة والمدينة المنورة بصفة خاصة؛ بسبب كثرة مجيء الزوار إليها نتيجة سهولة السفر على الخط الحجازي، الأمر الذي أنعش تجارتها صادراً ووارداً؛ فقد حظيت المدينة المنورة وهي المحطة النهائية للخط الحجازي بالنصيب الأكبر من التأثير الاقتصادي والعمراني والسكاني أكثر مما توافر لغيرها من المدن الواقعة على طول الخط، فعلى الرغم من قصر المدة التي استخدم فيها الخط، إلا أن هذه السنوات القليلة كانت كافية لترك بصمات واضحة في المجال الاقتصادي وغيره؛ فقد نشطت التجارة بين المدينة المنورة والشام ومصر؛ حيث كان تبادل الحاصلات الزراعية؛ فقد كانت خضر المدينة ترسل إلى الشام وفاكهة الشام وحاصلاته الزراعية ومنتجاته الصناعية تجيء إلى المدينة، فنمت الصلات التجارية نمواً جلب من الرخاء ما لا يسهل اليوم تصوره، وكثر التعامل وارتفعت الأسعار حتى إن قطعة الأرض التي كانت تباع بثلاثة جنيهات قبل السكة الحديدية صارت تباع بعشرة جنيهات بعد تشغيلها، وبعد توقف الخط هبط الثمن إلى جنيهين ولا تجد من يشتريها سنة 1931 م»(2).

واستمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة المنورة ما يقرب من تسع سنوات ( 1908 – 1918 م ) نقلت خلالها التجار والحجاج، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى ظهرت أهمية الخط وخطورته العسكرية على بريطانيا؛ فعندما تراجعت القوات العثمانية أمام الحملات البريطانية، كان الخط الحجازي عاملاً هامًا في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية المتفوقة.

وعندما نشبت الثورة العربية واستولت على معظم مدن الحجاز، لم تستطع هذه القوات الثائرة السيطرة على المدينة المنورة بسبب اتصالها بخط السكة الحديدية ووصول الإمدادات إليها، واستطاعت حامية المدينة العثمانية أن تستمر في المقاومة بعد انتهاء الحرب العالمية بشهرين؛ لذلك لجأ قادة الثورة العربية تنفيذًا لمشورة ضابط الاستخبارات البريطاني «لورانس» إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في عدة أجزاء منه.

وهذا الوقف عطلته أيادي الاستعمار المعاصر، فكان لبريطانيا الدور الأكبر في تعطيله والدفع لتوقفه، وأضحى مأساة يشهد عليها التاريخ والواقع، وسكته الممدودة على الأرض كالجثة الهامدة، لا هو حي فيرجى ولا هو ميت فينسى؛ يذكرنا بحاله وحالنا، ولسان حاله يقول : هل من رجعة لربط العالم الإسلامي بمدينة رسول الله [؟!

يقول الشيخ على الطنطاوي : «إن هذا الخط وقف إسلامي، وملك للمسلمين جميعاً؛ لأنه أنشئ :

أولاً : بأموالهم كلهم.

ثانياً لأنه يربط المسلمين بقبلتهم، وبمدينة نبيهم [.

ثالثاً : لأنه كان مستقلاً مربوطاً بوزارة الأوقاف العثمانية.

رابعاً : لأن مؤتمر الصلح في لوزان أقر هذه الوقفية بعد دراسة قانونية عميقة.

خامساً : لأن الحكومات المتعاقبة في سوريا اعترفت كلها بهذه الوقفية.

سادساً : لأن المادة الأولى من اتفاقية 18/4/1947م بين المملكة العربية السعودية وسوريا والأردن قد نصت على أن هذا الخط وقف إسلامي، وتأكد ذلك في البروتوكولين وملاحقهما المتفق عليها في مؤتمر الرياض في أول سنة 1954م» (3).

وقد كانت هناك محاولة في الستينات لإعادة فتح الخط الذي خربناه نحن العرب بأيدينا وأيدي لورانس وجماعته سنة1918م، وحالياً يستخدم الخط الذي يربط بين دمشق وعمان بشكل غير منتظم، وأعيد تأهيل بعض القاطرات التاريخية؛ حيث تعمل حالياً تسع قاطرات في سوريا وسبع في الأردن، ولا تزال العديد من العربات القديمة تستخدم كذلك.

وتتكرر الآن الدعوات على مستوى قادة الدول لإعادة هذا الخط، وقد أعيدت أجزاء منه، وأبرمت عقود لتحديث الخط والعربات بين مدينتي الزرقاء وعمان في الأردن لنقل الركاب، وكذلك في سوريا، وبدء العمل على إعادة الخط في المدينة المنورة.. وتطرح الآن فكرة مد خط قطار بين دول الخليج العربي.

نسأل الله تعالى أن يعود هذا الوقف الإسلامي الثابت بصكوك شرعية وقضائية وقرارات دولية، لا بد أن يعود كما كان وقفاً للأمة يصل بين مدن بلاد الشام وأرض الحجاز، وأن تمتد خطوطه لتصل بين العالم العربي.

الهوامش:

1- (وممن عمل سائقاً للقطار في تلك الفترة الحاج عيسى أحمد عبيد القدومي (1856- 1961م)، وهو من أجدادي وعمّر 105 سنوات، ونقل الكثير من ذكرياته عن ذلك الخط لوالدي حفظه الله).

2- (سكة حديد الحجاز الحميدية.. دراسة وثائقية، د. السيد محمد الدقن ص278، مطبعة الجبلاوي ط1-1405هـ 1985م.).

3- ( ذكريات، على الطنطاوي؛ 7/315).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك