رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 16 سبتمبر، 2021 0 تعليق

من درر الأعلام – الأمانة ضالة المؤمن

 

عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين

 سمى الله عباده مؤمنين، والمؤمن هو الذي يراعي هذه الأمانة، ويعمل بها ويوثق وثاقها،والأمانة من الأمن أو الإيمان؛ فهو مؤمن ومؤتمَن، ولأجل هذا وُصف بأنه من أهل الأمن والإيمان الذين يؤدون الأمانة حق الأداء، وذلك في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}، والأمانة هنا عامة فيما يتعلق بالعبد من حقوق ربه، ومن حقوق عباد الله. وصف الله المؤمنين بأنهم يرعونها، أي يقومون بها حق القيام، ويؤدونها حق الأداء، فإذا كانوا كذلك فإنهم من عباده المفلحين الذين ذكرهم الله في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.

    ويجب على العبد أن يكون قائمًا بهذه الأمانة في كل حالاته؛ لأنها من الحقوق التي أمرهم بها، وهي العهد المذكور في هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }، ويدخل في هذا العهد المعاهدات والعقود التي بين العبد وبين ربه، وبينه وبين العباد، وقد أكد الله أمر العهود بقوله: إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا يعني: الوفاء به، ولكن أهمها عهد الله، قال -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}، فعهد الله من أكبر الأمانات التي ائتُمِن عليها العباد، فمن كان مؤمنًا حق الإيمان فإنه يراعي هذه الأمانة في كل حالاته.

الأمانة بين العبد وربه

     إن الأمانة هي العبادات والشرائع التي كلفنا الله بها -سبحانه وتعالى- وما أعظم هذا التكليف! ولكن متى عرفنا أننا إذا قمنا بأداء هذه الأمانة حَقَّ قيام، حصل لنا الأجر وحصل لنا الثواب العظيم؛ فإنه يلزم وينبغي أن نقوم بها، فلا يجوز التكاسل والتأخر في أدائها، وهذه الشرائع والعبادات من الأمانة، وكل إنسان مؤتمن فيما بينه وبين ربه على هذه الحقوق التي لا يطلع عليها إلا رب العباد، فلا أحد يراقبك سوى ربك الذي ائتمنك على هذه العبادات: ائتمنك على الطهارة والصلاة، وائتمنك على الأذكار، وعلى القراءات التي في الصلاة، وائتمنك على الصيام، وائتمنك على أداء الحقوق المالية والزكاة، والكفارات، وائتمنك على ترك الذنوب وتجنب المعاصي التي حرمها عليك، ووكّل كل ذلك إلى قلبك ومعتقدك، ولا يطّلع عليه أحد سوى الله -تعالى- فالناس لا يعرفون، ولكنك تعرف من نفسك أن ربك لا يخفى عليه شيء.

الأمانة عامة لكل العبادات

     وبهذا نعرف أنَّ الأمانة عامة لكل العبادات التي فرضها الله على الناس، وإنما كانت تلك أمثلة، وهي على سبيل الاختصار وليست على سبيل الحصر، ومن الأمانة أيضًا الإخلاص في الأعمال -وهذا من أهم الأمانات التي يجب على العبد مراعاتها - فمثلًا: إذا أراد الإنسان الصلاة أو الحج أو الجهاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل ذلك أمام الناس، فإن الناس يمدحونه على ما ظهر منه، ويعتقدون أنه رجل صالح، لأجل هذه الأعمال الصالحة، ولكن إذا كان قلبه مُصِرًّا على شك، أو على رياء أو سمعة، أو طلب مدح الناس له، أو نحو ذلك، كان هذا العمل باطلا ولا يطلع على بطلانه سوى ربه، فالإخلاص أمانة يفسده الرياء، وكذلك العبادة تبطل بالإخلال بشيء من شروطها، وقد ذكّر الله عباده باطّلاعه عليهم حتى يراقبوه، ويراعوه فيما بينهم وبينه، فإذا خلا أحدهم عرف أنه لا يغيب عن ربه طرفة عين؛ لذلك أكّد الله تذكير الإنسان باطلاعه عليه، كما في قوله -تعالى-: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

أداء الحقوق

     ومن تذكر قُرب ربه واطلاعه عليه، فإن ذلك يحمله على أن يؤدي حقوقه التي ائتمنه عليها، ولا يخاف إلا الله، ولا يخاف من العباد أحدًا، أما إذا قام بخلاف هذا فإنما أداها للناس لا لربه، فيجب في أداء الأمانة أن يراقب الإنسان فيها ربه؛ لأنه يعلم أن ربه هو الذي فرضها عليه، وهو الذي يحاسبه ويثيبه عليها، كما أنه عالم به، قال -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، كيف لا يعلمه وهو خلقه؟! وهو الذي ركب أعضاءه، ومنحه هذا القلب، وأرسل إليه هذه الوساوس، فكيف لا يعلمه؟! إنه يعلم كل شيء، بل يعلم أخفى ما يكون! قال -تعالى-: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي: ما هو أخفى من السر، فهذه الأدلة تحمل العبد على أداء هذا الحق.

تذكير العبد برؤية ربه ومراقبته

     ولقد أكثر الله -تعالى- من تذكير العبد برؤية ربه ومراقبته، كما قال -تعالى-: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ.. الآية}، وهناك الكثير من الآيات تذكر العباد أنهم بمرأى منه ومسمع، كقوله -تعالى-: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، فإذا تذكر الإنسان هذه الخصلة (وهي قرب ربه ومعيَّته)، حمله على أن يؤدي الأمانة قاصدًا بها وجهه، سواء كان في السر أو في الجهر، أو كان فيما يطلع عليه الناس أو لا يطلعون عليه.

      وقد وكل الله أيضًا بالعبد كرامًا كاتبين، وهم الملائكة، قال -تعالى- {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وهما الملكان اللذان يكتبان حركاته وأعماله وأقواله، حتى إن الله أطلعهم على ما يعمله القلب؛ لأن للقلب أعمال، لا يُطَّلع عليها الناس فلا أحد يعرف بإخلاص قلب صاحبه أو شكه أو حسده أو محبته للمسلمين، لا يطلع على هذا إلا الله -تعالى-، وأعمال القلوب أمانة جعل للملائكة سلطانًا عليها يتصلون بها، كما في قوله -تعالى-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، والفعل شامل لفعل القلب والبدن، والأمانة فيه بين العبد وربه، وبينه وبين العباد مطلوبة.

الأمانة فيما بين العبد والعباد

     تشمل الأمانة فيما بينك وبين عباد الله، حقوق العباد وودائعهم التي يودعونكها، أو يأتمنونك عليها، سواء كانت أموالًا أم أعراضًا أم غيرها، والخيانة من أعظم خصال المنافقين، كما في الحديث المشهور وهو قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمِن خان»، فجعل من خصال المنافق خيانة الأمانة، أعني أنه إذا ائتمنه أحد لن يراعي هذا الائتمان، بل يخون ما ائتمن عليه من حقوق، كما في قوله -تعالى-: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.

رعاية حقوق الآخر

     فبعض الناس قد يعطيك حقًّا من حقوقه، ولا يُشهد عليك، ولا يكتب عليك وثائق، تصديقًا منه لك وإحسانًا للظن بك، فعليك أن تراعي حقه، وأن تحذر كل الحذر أن تخونه متى ائتمنك، فإذا اقترضت من إنسان مالًا، وكان هذا الإنسان واثقًا بك، مصدقًا لك، ولم يشهد على هذا الدين ولم يكتبه، فاعتبر هذه الأمانة هي المذكورة في قوله -تعالى-: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يعني: ائتمنه على ماله، وعلى دينه، وعلى وديعته أو نحو ذلك، {فليؤدِّ} أي: ذلك المؤتمَن الأمانة إلى صاحبها.

     وهي أيضًا المذكورة في قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قيل: إن هذه الآية نزلت في مفتاح الكعبة عندما أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عثمان بن طلحة، وكانت حجابة البيت لبني عبد الدار وهو منهم، فلما فتح الرسول مكة طلب المفتاح من عثمان فقال عثمان أمانة؟ قال: نعم، فلما أخذه النبي -  صلى الله عليه وسلم - طلبه منه العباس، وقال: أعطني إياه حتى تضم إلي السقاية والسدانة؛ فأنزل الله الآية الكريمة.

      وذلك لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قد أخذه من بني عبد الدار أمانة، فأمره الله أن يرده إليهم، وجعل ذلك من أداء الحقوق التي هي حقوق الأقدمية؛ وذلك لأن لهم الأقدمية للسدانة وخدمة وحجابة هذا البيت، فاستحقوا أن يكونوا هم أهل الحجابة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ عليهم تلك الأمانة، والآية عامة في الأمانات، وإن نزلت في هذا خاصة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

الأمانات فيما بين العباد كثيرة

     وعلى كل حال فإن الأمانات فيما بين العباد كثيرة، تدخل فيها الأسرار، وتدخل فيها الأموال، فإن ائتمنك إنسان على سر بأن أفضى إليك بكلام فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين أهله، وائتمنك عليه وحذرك من إفشائه، فإياك وإفشاءه! فإن ذلك من الأمانات؛ حيث إن هذا الإنسان قد وثق بك، ووثق بأنك لن تفشي سره، وهو بهذا قد ائتمنك، فلا تخنه في ذلك.

لا تجازِ صاحب الخيانة بمثلها

     فإذا أفشى إنسان سرك الذي ائتمنته عليه، فلا تجازِ صاحب الخيانة بمثلها، فإن هذا لا يجوز، فقد ورد ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعن الحسن بن سمرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخُن من خانك»، فأمرك أن تؤدي الأمانة إلى كل إنسان ائتمنك على مال أودعه عندك، أو أقرضك إياه ولم يُشهد، أو أدانك ولم يكتب ولم يتوثق، أو أعطاك حقًّا من حقوقه وأمرك بحفظه، وهو الوديعة، أو ما أشبه ذلك، فهذه الأمانة بينك وبينه عليك أن تؤديها.

     ولو خانك إنسان في دينك أو مالك أو عرضك، فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمّد هذه الخيانة، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعاية وسببًا لبزوغ هذا الأداء والتخلق بهذا الخلق العظيم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك