من حقوق الشريعة وواجباتها – طاعة ولي الأمر
قال الله -تعالى-: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، إن الإنسان يحتاج إلى تذكير دائما بما عليه من الواجباتِ لكي يؤديَها فيَسلم، ولا يُقصرَ فيها فيأثم، وأما الحقوقُ فعادةُ النفسِ البشريةِ أن تطلُبَها دون أن يُطلبَ منها ذلك؛ ولذلك جاءت النصوص الشرعيةُ تُذكّرُ الرجالَ بحقوق النساء عليهم، وجاءت تُذكّرُ النساءَ بحقوق أزواجِهن عليهن، وجاءت تُذكّرُ الوالدين بحقوق أولادهم، وتُذكّرُ الأولادَ بحقوق الوالدين عليهم، وهكذا.
ومن أعظم الحقوقِ التي جاءت شريعتنا الكاملةُ التامةُ ببيانها، والتأكيدِ عليها، والتذكيرِ بها، والتحذيرِ من مخالفتها: حقُّ ولي الأمر؛ فقد جعل اللهُ طاعةَ ولي الأمرِ تابعةً لطاعته -سبحانه- وطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(النساء: 59)، قال الإمامُ النوويُّ -رحمه الله-: «المراد بأولي الأمر مَنْ أوجبَ اللهُ طاعتَه من الولاةِ والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرِهم»؛ فالخطابُ موجه إلى الرعية؛ فأمر اللهُ بطاعته -عز وجل-، وهي امتثالُ أوامره ونواهيه، وأمر بطاعة رسولِه صلى الله عليه وسلم ، وأمر بطاعة الأمراء.
ضرورةٌ دينية ودنيوية
لقد اتفق العقلاء في كل الأمم على ضرورة الائتمام بإمام يقود الأمة، اتفقت على هذا الأمر المجتمعاتِ والأمم جميعا، بل حتى في عالم الحيوان الوحوشُ تسير، والطيور تطير بقائد يقودها، إنها الفطرةُ الصحيحة؛ ولذلك جاءت هذه الشريعةُ المطهرةُ تؤكد عليها؛ فالإمامةُ ضرورةٌ دينية ودنيوية؛ فطاعةُ ولي الأمر أصل من أصول العقيدة الصحيحة؛ لأنه لا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلا بإمامة، ولا إمامةَ إلا بسمع وطاعة.
اهتمام خاص
وقد كان السلف يولون هذا الأمر اهتماما خاصا نظرا لما يترتب عليه من حفظ البلاد وأمن العباد وصلاحهم، وهو تطبيق عملي لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيما أحَبَّ وكَرِهَ، إلَّا أنْ يُؤْمَرَ بمَعْصِيَةٍ»(متفق عليه)؛ فطاعة ولي الأمر واجبة على كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه أم لم يوافقه، بشرط ألا يأمره بمعصية، وقال صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكَ السَّمْعَ والطَّاعَةَ في عُسْرِكَ ويُسْرِكَ، ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ، وأَثَرَةٍ عَلَيْكَ»(رواه مسلم). أي: تجبُ طاعةُ ولي الأمر فيما تحبه النفوسُ وتكرهه؛ مما ليس بمعصية.
أصلَ عظيم
إن سلف هذه الأمة كانوا يدركون هذا الأصلَ العظيم، ويطبقون هذا المنهجَ القويم مع ولاةِ أمرِ المسلمين، وكانوا ينظرون إلى المصلحة العامة، وعواقبِ الأمور.
الإمام أحمدُ بنُ حنبلَ
فهذا الإمام أحمدُ بنُ حنبلَ -رحمه الله- يُسجن ويؤذى لكي يقولَ ببدعةٍ في دين الله، ومع ذلك عندما جاءه نفر من الوجهاء يشاورونه في تركِ طاعةِ وليِّ الأمرِ آنذاك، أنكر عليهم الإمامُ أحمدُ ونهاهم عن ذلك، وقال: «لا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءَكم، ولا دماءَ المسلمينَ معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا.
شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ
وهذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله- قد أوذي في الله، وسجن مرارا، ومع ذلك كان يُحَذِّرُ من الخروج على ولي الأمر، ويُحَذِّرُ من نزع اليد من طاعة ولي الأمر، وكان -رحمه الله- يقول: «المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة»، وقال -رحمه الله-: «لا يكاد يُعرفُ طائفةٌ خرجت على ذي سلطانٍ إلا وكان في خروجها من الفسادِ ما هو أعظمُ من الفسادِ الذي أزالته».
الدِّينُ النَّصِيحَةُ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قالوا: لِمَنْ؟ قالَ: «لِلَّهِ، ولِكِتابِهِ، ولِرَسولِهِ، ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»(رواه مسلم)، قال الحافظ ابنُ رجب -رحمه الله- عن معنى النصيحةِ لأئمةِ المسلمين: «حبُّ اجتماعِ الأمةِ عليهم، وكراهةُ افتراقِ الأمةِ عليهم، والتدينُ بطاعتِهم في طاعةِ الله -عز وجل».
إعانتُهم على ما حُمِّلوا
ومن النصيحةِ لأئمة المسلمين، إعانتُهم على ما حُمِّلوا القيامَ به، وجمعُ الكلمة عليهم، وإسداءُ المشورةِ النافعةِ لهم، والدعاءُ لهم بالصلاح والتسديدِ في الأمر؛ فإن الدعاء لهم هو من أعظم النصحية، وهو دأب السلف الصالح؛ قال الفضيلُ بنُ عياض -رحمه الله-: «لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان».
القوة والمنعة
إن الاجتماعَ حول ولي الأمر فيه القوة والمنعة، كما أن التفرق والتنازع فيه الضعف والفشل -والعياذ بالله- قال -تعالى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال 46)، أي تذهبَ قوتُكم ودولتُكم؛ فوحدة المجتمعِ أمانةٌ في أعناقنا، ويجب علينا جميعا أن نحرس هذه النعمة، وأن نستشعر نعمة الأمن والأمان، والوحدةِ والتماسك، ويد الله مع الجماعة.
الدعاء له بالصلاح
ومن حقوق ولي الأمر، الدعاء له بالصلاح والمعافاة, كما قال الفضيل: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ فيلح أهل السنة في أوقات الإجابة في الدعاء له بالهداية والصلاح والمعافاة، وقال الشيخ أبوإسماعيل الصابوني في كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص92ـ93): ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرهما مِن الصلوات خلف كلِّ إمامٍ مسلمٍ، برًّا كان أم فاجرًا، ويرون جهادَ الكفرة معهم وإن كانوا جوَرَةً فجَرةً، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصّلاح وبسط العدل في الرَّعيَّة.
ترك غيبته
كذلك من حقوق ولي الأمر ترك غيبته، وترك إسقاط هيبته التي تجر إلى الخروج عليه, بل يُربى الناس على الدعاء له والصبر على جوره وظلمه, وعلى النصيحة له بالأساليب الصحيحة, ويخبرونهم أن ظلمه بسبب ذنوب العباد؛ فليشتغلوا مع نصيحته بإصلاح نفوسهم, ولا يشتغلوا بسب السلاطين.
التعاون معه على البر والتقوى
ومن حقوق ولي الأمر، التعاون معه على البر والتقوى, ومشاركته في الخير كالحج والجهاد والجماعة ونحو ذلك كما فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- مع الحجاج، قال الخطّابي -رحمه الله-: ومِن النَّصيحة لهم الصلاةُ خلفَهم، والجهادُ معهم، وأداءُ الصّدقات إليهم.
الصبر على جوره وظلمه
الصبر على جوره وظلمه, وإن جلد ظهرك وأخذ مالك, وسجنك بغير حق, وهذه السنة تكاد تنسى عند كثير من الفضلاء ممن تعرض لشيء من الظلم؛ فيخرجون إلى البدعة، وربما أحبطوا أعمالهم السابقة, ولم يتذكروا مسألة الإيمان بالقدر, وأن هذا ابتلاء لهم واختبار ليعرف صبرهم ولتكفر سيئاتهم, مع أن الظالم سيلقى جزاءه العادل؛ فيجب معرفة منهج السلف مع مثل هذه المسائل .
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في الأمراء: «هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلاَّ بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأن فرقتهم لكفر».
فليصبر عليه
«وقال ابن أبي جمرة كما في فتح الباري لابن حجر (13/7) في شرح حديث: «مَن رأى مِن أميره شيئاً يكرهُه؛ فليصبر عليه؛ فإنَّه مَن فارق الجماعةَ شبرًا فمات إلا مات مِيتةً جاهليّة»، قال: «المرادُ بالمفارقة السعيُ في حلّ عقد البيعة التي حصلتْ لذلك الأمير ولو بأدنى شيء؛ فكنَّى عنها بمقدار الشِّبر؛ لأنَّ الأخذَ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حقٍّ».
كفر بواح
قال ابن باز: «ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور وشق العصا، إلا إذا وجد منهم كفر بواح عند الخارجين عليه من الله برهان، ويستطيعون بخروجهم أن ينفعوا المسلمين، وأن يزيلوا الظلم، وأن يقيموا دولة صالحة، أما إذا كانوا لا يستطيعون فليس لهم الخروج ولو رأوا كفرًا بواحًا؛ لأن خروجهم يضر الناس، ويفسد الأمة، ويوجب الفتنة والقتل بغير الحق، ولكن إذا كانت عندهم القدرة والقوة على أن يزيلوا هذا الوالي الكافر؛ فليزيلوه وليضعوا مكانه واليًا صالحًا، ينفذ أمر الله؛ فعليهم ذلك إذا وجدوا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، وعندهم قدرة على نصر الحق، وإيجاد البديل الصالح وتنفيذ الحق».
لاتوجد تعليقات