رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد أحمد العباد 15 أغسطس، 2011 0 تعليق

من تراجعات الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (4)

 

باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فها نحن نستكمل هذه السلسلة (في تراجعات الفقيه العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله)، ولا أخفي أن هذه المقالة سأظل أعتبرها من أمتع المقالات التي كتبتها؛ حيث تواصلت وتعرفت بسببها على عدد من الإخوة الأطباء الذين حرصت على الاستفادة منهم لكتابة تصور صحيح لهذه المسألة ومعرفة الجوانب التي ينبني عليها الحكم بالتفطير من عدمه، فلهم مني جزيل الشكر.

      ثم من المعلوم أن استعمال حقن (أو نقل) الدم قد أصبح في العصر الحالي علاجاً لأمراض وحالات متعددة؛ والمسألة التي سنتطرق إليها في هذه المقالة تدور حول مدى اعتبار نقل الدم مفطراً للصائم كما يقول به عدد من الفقهاء المعاصرين (وهو القول الأول للشيخ ابن عثيمين رحمه الله)؛ أو عدم اعتباره مفطراً  إلا إذا خضع لعلاج آخر (غير حقن الدم) يستلزم الإفطار كما هو القول الأخير للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ووافقه عليه غيره من الفقهاء .

      ولكن قبل أن نشرع في الكلام حول المسألة لا بد من التذكير  والتأكيد على: أن كونه غير مفطر بذاته – وفق الترجيح الأخير للشيخ رحمه الله- لا يمنع إباحة الفطر للمريض الذي نقل إليه الدم، بل له أن يفطر بتناول الأطعمة أو الأدوية ثم عليه القضاء، كحال المسافر وغيره من ذوي الأعذار الذين يباح لهم الفطر.

1 - حالات تستدعي التداوي بحقن الدم:

      تقدم أول الفقرة السابقة أن الحالات التي تستدعي العلاج بحقن الدم متعددة ولعل من أشهرها: الحالات التي يفقد الجسد فيها الدم كالنزيف فيتم نقل الدم لتعويض ما فقده الجسد، ومنها أيضاً مرض (الثلاسيميا) وهو مرض وراثي يسبب فقر الدم المزمن ؛ لذا يستدعي نقل الدم كل ثلاثة أسابيع تقريباً، وكذلك في مرض «تشظي الطحال» الذي ينتج عنه تضخم للطحال، وأيضاً في حالات الإصابة بسرطان الدم وبعد أخذ العلاج الكيماوي يتم تمرير سائل عبر الوريد ويتم كذلك إضافة الدم والبلازما.

      وذكر أحد الأطباء أنه أمكن لحقن الدم أن يصبح علاجاً لتآكل وتكلس غضروف الركبة من خلال أخذ (50 ملم) من الدم تُعالج في أجهزة ضمن ظروف تعقيم شديد ثم تُحقن بشكل دوري في ركبة المريض.

      فنسأل الله الذي وسعت رحمته وقدرته كل شيء أن يشافي ويعافي كل مبتلى بشيء من هذه الأمراض – وغيرها – وأن يجعل ذلك كفارة للسيئات ورفعة في الدرجات.. آمين آمين.

2 – قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في المسألة:

أ - قوله الأول الذي تراجع عنه:

      وهو القول بالتفطير، قال الشيخ رحمه الله «في مجموع الفتاوى والرسائل (20 / 62)»: ((المفطرات ثمانية وهي:.... - ثم قال -: وحقن الدم، مثل أن يحصل للصائم نزيف فيحقن به دم تعويضاً عما نزف منه)). اهـ.

      ويقول رحمه الله في «مجالس شهر رمضان (المجلس: 14 في المفطر رقم (4)»: ((حقن الدم في الصائم...؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب، وقد حصل ذلك بحقن الدم فيه)). اهـ.

ب - قوله الثاني الذي ذهب إليه أخيراً:

      يقول رحمه الله: «الذي يُحقن به الدم وهو صائم، هل يفطر أم لا ؟ كنتُ أرى أنه يفطر، وأقول: (إذا كان الطعام والشراب مفطراً فإنه يتحول إلى دم فالدم هو لبابة الطعام والشراب فهو يفطر مثلها)، ثم بدا لي أنه لا يفطر ؛ لأنه وإن أعطى البدن قوة لكن لا يغنيه عن الطعام والشراب وليس من حقنا أن نلحق فرعاً بأصل لا يساويه». اهـ «أشرطة شرح بلوغ المرام /كتاب الصيام ح17» .

      ويقول رحمه الله في إحدى حواشيه على كتابه «مجالس شهر رمضان» (المجلس: 14 المفطر: 4): «هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر ؛ لأنه ليس أكلا ولا شربا ولا بمعناهما، والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده ؛ لأن من القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك». اهـ.

3 – هل نقل الدم يقوم مقام الغذاء؟

      الذي ثبت لدي بعد سؤال عدد من الأطباء أن من نُقل إليه الدم «لن يشعر بالشبع وستظل معدته خاوية ؛ لأن الشبع يأتي من المعدة»، ولكنه في نفس الوقت ستكون «لديه القدرة على مقاومة الجوع أكثر من غيره»، فبناءً على ذلك اختلف حتى الأطباء – أعني من سألتهم -  في  مدى اعتباره يقوم مقام الغذاء أو لا يقوم، وقد تبع هذا الاختلاف الطبي اختلاف بين الفقهاء المعاصرين.

      أما الشيخ ابن عثيمين فاختار – أخيراً - عدم التفطير، ويمكن أن يُستدل لصحة هذا الرأي بقوله [ كما في صحيح البخاري (1922) وصحيح مسلم (1102)  من حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل النبي [ عن مواصلة الصوم فقال: «إني لست كهيئتكم - وفي رواية الإسماعيلي قال:  إنما هي رحمة الله بها إني لست كهيئتكم - إني أظل أطعم وأسقى». ومعلومٌ أنَّ هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذى يأكله الإنسانُ بفمه أو الذي يملأ جوفه، وإلا لم يكن مواصلاً ولا صائماً أصلاً، وإنما هو – على ترجيح ابن القيم وغيره – شيءٌ آخر  يشغله عن الجوع الحسي، كما قيل:

لها أحاديثُ من ذكراكَ تشغَلها

                                                        عن الشرابِ وتُلهِيها عن الزادِ

لها بوجهِكَ نورٌ تَستضيءُ بِه

                                                        ومن حَدِيثك في أَعقابِها حادي

إذا اشتكت من كَلالِ السَّير أَوعَدَها

                                                        روحَ اللِّقاءِ فتَحيا عند ميعادي

      والشاهد من الحديث: إمكانية الاستدلال به على أن حصول القدرة والقوة للبدن والتي تعينه على مقاومة الجوع لا يستلزم الإفطار، والله أعلم.

      ولذلك أيضاً يقول فضيلة الشيخ - والطبيب – د. أحمد حطيبة حفظه الله في شرحه لكتاب «الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان» (شريط: 3، وجه: ب) ما نصه:
      «نقل الدم للمريض: الراجح أنه ليس فيه مادة للتغذية للإنسان، وإنما هو كعضو من الأعضاء التي تُنقل إلى الإنسان، هذا الدم في الإنسان ناقل للأغذية وناقل للأملاح وناقل للأشياء من مكان إلى مكان في الإنسان، ولا يعيش بدونه، فيحتاج إليه، فإذا نقل إليه دم فهذا ليس غذاءً وليس يجري مجرى الطعام والشراب، فالراجح أنه أيضاً لا يفطره». اهـ.

      فهذا ما تيسر إيراده في هذه المقالة والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك