رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. حماد عبدالجليل البريدي 14 مايو، 2023 0 تعليق

من التجاوزات المالية في الإسلام – الرشوة

 

حظي المال بمكانة رفيعة في الإسلام؛ حيث وصفه الله -تعالى- بأنه زينة الحياة الدنيا، مساويًا بينه، وبين نعمة الذرية، قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ووصف الله -عز وجل- المال بأنه قوام الحياة، فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، ولم يتوقف اهتمام الإسلام بقضية المال عند جعله مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بها، بل وضع من التشريعات ما يضبط وسائل إيجاد المال وتحصيله من الانحراف، وما يحفظ بقاء المال واستمراره من التعدي أو الضياع، واليوم مع نوع من أنواع التجاوزات المالية التي حرمها الإسلام وهي الرِّشْوَةُ.

      والرِّشْوَةُ لغة: بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَالضَّمُّ فِيهَا لُغَةٌ - وَسُكُونِ الشِّينِ: مَصْدَرُ رَشَا يَرْشُو. وَهِيَ لُغَةً الإْعْطَاءُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لآِخَرَ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، أو هي: مَا يُعْطَى لإِبْطَال حَقٍّ، أَوْ لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ.

حكم الرشوة

      تعد جریمة الرشوة من أخطر الجرائم التي تقع من بعض الموظفین، وضررها یظهر في كونها تقع من الأشخاص الذین یمثلون السلطة الحكومیة في البلاد، ويعظم خطرها في مصدر الإجرام الذي یأتي من الداخل، أي من أولئك الذین عینوا في وظائف الدولة لیكونوا حماة لها، ویسهروا على وقایتها من الخطر هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن انتشار عملیة الارتشاء بین الموظفین یسبب بلبلة في النفوس، ویوهي بسمعة الدولة والثقة في أعضائها، كما یمس بشرف الوظیفة العمومیة.

خلل یصیب جهاز الدولة

     وأضف إلى ذلك الخلل الذي یصیب جهاز الدولة، فتصبح الحقوق والمصالح تباع وتشترى؛ ذلك أن جریمة الارتشاء قد خلقتها وسببتها ظروف اجتماعیة خاصة، ظهرت في نظم سیاسیة معینة ساد فیها الاستغلال والانحلال كالنظم الاستعمارية التي تقوم على أساس استغلال الإنسان للإنسان؛ لذا جاء تحريم الرشوة تحريماً قطعيا، دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

تحريم الرشوة في القرآن

     قال -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَال النَّاسِ بِالإْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، قال القرطبي:» الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَيَدْخُلُ فِي هَذَا: الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ، وَمَا لَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ، أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَإِنْ طَابَتْ به نفس مالكه، كهر الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

     إلى أن قال: «الْمَعْنَى لَا تُصَانِعُوا بِأَمْوَالِكُمُ الْحُكَّامَ وَتَرْشُوهُمْ لِيَقْضُوا لكم على أكثر منها، فالياء إِلْزَاقٌ مُجَرَّدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَرَجَّحُ، لِأَنَّ الْحُكَّامَ مَظِنَّةُ الرِّشَاءِ إِلَّا مَنْ عُصِمَ وَهُوَ الْأَقَلُّ»، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ولا شك أن قبول الرشوة لإِبْطَال حَقٍّ، أَوْ لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ هو نوع من خيانة المانة، وهو أيضاً من أكل أموال الناس بالباطل.

ذم اليهود لأكلهم السحت

      ولقد ذم الله اليهود لأكلهم السحت وقولهم الإثم،فقال -تعالى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، والسحت هو الرشوة، قَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ، وقال القرطبي: «وأصل السحت كَلَبُ الْجُوعِ، يُقَالُ رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ أَيْ أَكُولٌ، فَكَأَنَّ بِالْمُسْتَرْشِي وَآكِلِ الْحَرَامِ مِنَ الشَّرَهِ إِلَى مَا يُعْطَى مِثْلَ الَّذِي بِالْمَسْحُوتِ الْمَعِدَةِ مِنَ النَّهَمِ.

     قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: السُّحْتُ الرُّشَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنَ السُّحْتِ. وَعَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: «الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ». وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: السُّحْتُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ حَاجَةً فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَيَقْبَلُهَا».

تحريم الرِّشْوَة في السنة النبوية

     وردت أحاديث كثيرة تبين حرمة الرشوة، وأنها كبيرة من الكبائر، فقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن العاص -رضي الله عنهما-، وفي حديث كعب بن عجرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ».

تحريم الرشوة بالإجماع

     وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على تحريم الرشوة، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم، وعدها ابن حجر الهيتمي في الزواجر من الكبائر، وقال القرطبي: «ولا خلاف بين السلف على أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام».

     وأما المعقول فالرشوة فيها فساد المجتمعات؛ إذ تضييع بسببها حقوق الفقراء؛ لأنهم عاجزون عن دفع المال لإنجاز أعمالهم، ثم هي دافع لكل عامل ضعيفة نفسه أن يتخلى عن واجباته إذا تيقن أنه بتأخير عمله سيتلقى دعماً ماديا من صاحب الحاجة، وإذا حصل ذلك صار أفراد المجتمع كالذئاب ينهش بعضهم بعضاً.

أمر خطير في الرشوة

     وثم أمر خطير من آثار الرشوة ألا وهو عدم استقامة أمور الدولة؛ إذ أكثر الأنظمة في الدولة يمكن أن يتجاوزها الإنسان بطريق الرشوة، وأيضاً فإن وليّ الأمر إذا أكل هذا السحت- أعني الرشوة المسماة بالبرطيل، وتسمى أحيانا بالهدية وغيرها- احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية. وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوّك فأعان عدوّك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين، وعلى ذلك فإنه يَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ، وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَل الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.

من أنواع الرشوة: هدايا العمال

     ومن أنواع الرشوة التي حرمها الإسلام، ما يسمى بهدايا العمال، وهي من أكل أموال الناس بالباطل، وإن كانت في صورة هدية ولو كانت بطيب نفس من المعطي، والحكمة في هذا أنها بمثابة الرشوة، وعلى فرض أنه ربما كان الأمر في بدايتِه يتمُّ بسلامة صدر، فإنه بعد ذلك تَستشرِف النفس وتتطلَّع للحرام، ولذلك أغلق الله -تعالى- الطريق على الناس، وأغلَقَ عليهم أبواب الشر، وحرم هذا الفعل، وشدد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ».

     ومعنى الحديث: من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك، فإن أخذ فهو غلول، والغلول هو الخيانة في الغنيمة وفي مال بيت مال المسلمين ففي هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن كان موظفاً يأخذ راتباً من دائرته أن يقبل مالاً أو هدية من أحدٍ بسبب وظيفته، فإن فعل كان غلولاً.

الهدية للعامل رشوة وللقاضي سحت

     والهدية للعامل رشوة وللقاضي سحت لقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «هَدَايَا الْعُمَّال غُلُولٌ»، وَفِي لَفْظٍ: «هَدَايَا السُّلْطَانِ سُحْتٌ»، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - «اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنَ الأْسْدِ يُقَال لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَال: «مَا بَال عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُول: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَنَال أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَتَيْ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ».

     قال الإمام النووي في شرح على مسلم: «وفي هذا الحديث بيانُ أنَّ هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه خانَ في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحملِه ما أُهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغالِّ، وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم [- في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامِل، فإنها مُستحَبَّة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك