من أصول أهل السنَّة والجماعة – الكفُّ عمَّا شجر بين الصَّحابة (2)
مذهبُ أهل السُّنة والجماعة في الصَّحابة مذهبٌ واضحٌ متَّسق مع النَّقل الصحيح والعقل الصَّريح ووقائع التاريخ، وتعاطي أهل السنة للموضوعات التي تتعلق بالصَّحابة الكرام تعاطٍ ينمُّ عن منهجيَّة واضحة في التعامل مع المسائل الشرعية؛ فلم يكفِّروا الصَّحابة الكرام، ولم يجعلوهم كأي أحدٍ بعد جيل الصحابة، ولا يدَّعون لهم العصمة، وإنَّما هم بشرٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهم خصائص ليست لأيِّ جيل بعدهم؛ لذلك نبيَّن في هذا المقال الأصول التي اعتمد علها أهل السنة والجماعة وانطلقوا منها في عقيدتهم، وهي إجابة عن السؤال: لماذا نكفُّ عمَّا شجر بين الصحابة؟ وذكرنا في الحلقة الماضية الأصل الأوَّل: علوُّ مكانة الصَّحابة ومنزلتهم وفضلهم، والأصل الثَّاني: أنَّ الصَّحابة كانوا مجتهدين فيما وقع بينهم، واليوم مع باقي تلك الأصول.
الأصل الثالث:
أنَّ الصَّحابة مع اجتهادهم كانت
لهم حسناتٌ كبيرة
أصلٌ عظيم من الأصول التي يعتمد عليها أهل السنة والجماعة في كثير من قضايا الصحابة، وقد أصَّل لذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصَّة حاطب - رضي الله عنه - حين قال: «لعلَّ الله اطَّلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
فالصَّحابة الكرام حسناتُهم أعظم من سيئاتِهم، ويكفي سبقُهم إلى الإسلام، ونصرتُهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهودُهم معه المشاهد، ورؤيتُهم له، وصلاتُهم خلفه، وإقامتُهم لهذا الدِّين، فهم الذين نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورفعوا رايةَ التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، ووقفوا يدافعون عن الإسلام في أحلك المواقف، وهم مع ذلك نقَلَة القرآن والسُّنة، وهذا -بل جزءٌ منه- كافٍ في أن نكفَّ عمَّا شجر بينهم، ونعتقد أنَّ الله غفر لهم، وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في الكفِّ عما شجر بينهم.
كانوا غير متهمين في الدين
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: «قتالٌ شهده أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وغِبنا، وعلموا وجهِلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا». قال المحاسبي: «فنحنُ نقول كما قال الحسن، ونعلم أنَّ القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منَّا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا منَّا، ونعلم أنَّهم اجتهدوا وأرادوا الله -عزوجل-؛ إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق».
كانوا مجتهدين
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: «وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين، إما مصيبين لهم أجران؛ أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات -وقد سبق لهم من الله الحسنى- فإنَّ الله يغفرها لهم، إمَّا بتوبة، أو بحسناتٍ ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك؛ فإنَّهم خير قرون هذه الأمَّة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» وهذه خير أمة أخرجت للناس».
آثار ذمه م مكذوبة
ويقول -معتمدًا على هذا الأصل والأصل الذي قبله-: «ويقولون: إنَّ هذه الآثار المرويَّة في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أنَّ كل واحدٍ من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذُّنوب في الجملة، ولهم من السَّوابق والفضائل ما يُوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّهم خير القرون، وإنَّ المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم.
الأصل الرَّابع:
أنَّ الأخبار الواردة في وقائعهم كثيرةٌ مضطربة
قد بينَّا سابقًا أنَّ ما ينقل عن الصحابة الكرام في تلك الوقائع يجب أن تكون شروطنا في تلقيها أشدَّ من شروطنا في تلقي سائر الأخبار؛ ذلك أنَّها تتعلَّق بقومٍ فضلاء، وتفاوتت الكتب التي نقلت الأخبار والوقائع، ووقع في ذلك خلطٌ كبير وكذبٌ كثير وتحريفٌ للأحداث، فينبغي على المسلم أن يحتاط غاية الاحتياط في حكايتِها والاختيار منها والاعتماد عليها، ومن هذا الباب كان أهل السنة والجماعة لا يذكرون ذلك، وإنَّما يكفون عمَّا شجر بينهم، فما وجد في الكتب عن تلك الوقائع بعضُه كذبٌ صريح، وبعضه زيد فيه ونقص، والصَّحيح منه اجتهادٌ اجتهده الصحابة كما بينَّا، فهو دائر بين الأجر والأجرين مع اختيارنا للمصيب والمخطئ من خلال الروايات الصحيحة الثابتة.
أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب
يقول الذهبي -رحمه الله-: «كما تقرَّر الكفُّ عن كثيرٍ ممَّا شجر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم- أجمعين، وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيُّه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب، وتتوفر على حبِّ الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعيِّن عن العامَّة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف، العريّ من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علَّمنا الله -تعالى».
اليقين لا يزول بالشك
ويقول ابن تيمية -رحمه الله في قاعدةٍ عامَّة في التَّعامل مع قضايا الصحابة خاصة-: «ما عُلم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يُدفع بنقولٍ بعضُها منقطع، وبعضها محرَّف، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإنَّ اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقَّنَّا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدّق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلَّة العقل من أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوكٌ فيها، فكيف إذا علم بطلانها؟!».
ويقول -رحمه الله-: «ويمسكون عمَّا شجر بين الصَّحابة، ويقولون: إنَّ هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطئون».
الأصل الخامس:
النَّهي عن الخوض في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
فقد ورد النَّهي عن الخوض فيما وقع بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا»، يقول محمَّد بن إسماعيل الصنعاني: «إذا ذكر أصحابي» أي: ذكر ما شجر بينهم من الاختلافات، «فأمسكوا» عن الخوض في ذلك، فإنَّه ينشأ عنه ما لا يحمد من الخوض»، وإنَّما أخرت ذكر هذا الأصل لأنَّ الحديث مختلف في صحته، وسواء رأينا صحته أم ضعفه فإنَّ العقيدة ثابتة بالأصول السَّابقة التي ذكرناها، وعليها اعتمد أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه.
المراد بالكف: فإن قال قائل: كيف نكفُّ عمَّا شجر بينهم وهو من كتمان العلم، فضلًا عن أنَّ كبار العلماء قد ذكروا تلك الوقائع في كتبهم؟
يقال: ليس المراد من الكفّ عمَّا شجر بين الصحابة ألا تُدرس تلك الوقائع، ولا تذكر إطلاقًا، بل بيَّن العلماء أن دراستها وتدريسها وتعليمها مرغوب، وإنَّما النهي عن ذكر ذلك عند عوامِّ المسلمين دون حاجة، أو ذكر ذلك ابتذالًا، أو تنقّصًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قدحًا فيهم، كل هذا ممَّا لا ينبغي.
مقام العلم واستنباط الأحكام الشرعية
وإنَّما يجوز الخوض فيما وقع بينهم، ويتأكَّد ذلك في مقام العلم، واستنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة أنواع القتال، وأحكام كل نوعٍ منها، فليس قتال البغاة مثل قتال الخوارج، وليس هو مثل قتال الفتنة، فمعرفة ما وقع بين الصحابة ممَّا يساعد في فهم المسائل العلميَّة وضبطها، فتدرس وتعلَّم وتستنبط منها الأحكام.
لحفظ تاريخٍ مهمٍّ من تاريخ الأمَّة
كما أنَّه ممَّا ينبغي دراستها لحفظ تاريخٍ مهمٍّ من تاريخ الأمَّة، ومعرفة الصحيح من ذلك التاريخ، وفي ذلك حفظٌ لمقام الصحابة بلا شك، فإنَّ ترك الأمر لكل خائض ليخوض بما شاء مضرّ، ودواء ذلك إبقاء الصَّحيح وبيان ذلك، وتنقيحه من الخلط الذي وقع، وأكثر ما يشنّع على الصحابة من خلال هذه الوقائع إنَّما هو بالكذب والمبالغة، وتخمين الدوافع لا بالحقائق.
الردُّ على المخالفين
وممَّا تُدرس من أجله هذه الوقائع: الردُّ على المخالفين ممَّن يطعنون في الصحابة، أو يكفرونهم ويفسقونهم، وفي هذا يقول السفاريني -رحمه الله-: «ولأنَّ الخوض في ذلك إنَّما يصلح للتعليم، وللرد على المخالفين، أو لتدريس كتب تشتمل على تلك الآثار، فيؤوّل ذلك، ويبينه للعوام، لفرط جهلهم بالتأويل». ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا أوصوا بالإمساك عمَّا شجر بينهم؛ لأنا لا نُسأَل عن ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز: «تلك دماءٌ طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب بها لساني»، وقال آخر: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134)، لكن إذا ظهر مبتدعٌ يقدح فيهم بالباطل، فلابدَّ من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل».
من أعظم المقاصد
ومن أعظم المقاصد التي من أجلها حرص أهل السنة والجماعة على الكفِّ عمَّا شجر بين الصحابة: حفظ قلوب عامة المسلمين من أن يدخلها ريبٌ أو سوء فهم تجاه الصحابة الكرام، ذلك أنَّ العوام من المسلمين لا يميزون بين الحق والباطل في تلك الوقائع، ولا يفرقون بين الصحيح والضعيف، وحكاية كل ذلك لهم ممَّا يثير في نفوسهم ما هم في غنى عنه، فإن فُصِل الصحيح عن الباطل وكان لذكر ذلك حكمة ذُكر ذلك لعامة الناس، وإلا فالأصل عدم ذكر ذلك، ويدخل ذلك في قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما أنت بمحدّثٍ قوما حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
الأصل الذي سار عليه أ هل السنة والجماعة
فهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة، يقول الآجري -رحمه الله في كلام طويلٍ نافع-: «ينبغي لمن تدبر ما رسمناه من فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أهل بيته -رضي الله عنهم- أجمعين أن يحبهم ويترحم عليهم ويستغفر لهم.
فإن قال: وما الذي يضرُّنا من معرفتنا لما جرى بينهم والبحث عنه؟
قيل له: ما لا شكَّ فيه وذلك أنَّ عقول القوم كانت أكبر من عقولنا، وعقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عمَّا شجر بينهم، فنزلّ عن طريق الحق، ونتخلّف عما أمرنا فيهم.
فإن قال: وبم أمرنا فيهم؟
قيل: أمِرنا بالاستغفار لهم، والترحُّم عليهم، والمحبة لهم، والاتباع لهم، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وقول أئمة المسلمين، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم، قد صحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاهرهم وصاهروه، فبالصحبة يغفر الله الكريم لهم، وقد ضمن الله -عزوجل- في كتابه ألا يخزي منهم واحدًا، وقد ذكر لنا الله -تعالى- في كتابه أن وصفهم في التوراة والإنجيل، فوصفهم بأجمل الوصف، ونعتهم بأحسن النَّعت، وأخبرنا مولانا الكريم أنَّه قد تاب عليهم، وإذا تاب عليهم لم يعذب واحدًا منهم أبدًا، -رضي الله عنهم- ورضوا عنه، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22).
فإن قال قائل: إنَّما مرادي من ذلك لأن أكون عالمًا بما جرى بينهم، فأكون لم يذهب على ما كانوا فيه لأني أحبُّ ذلك ولا أجهله.
قيل له: أنت طالب فتنة؛ لأنَّك تبحث عمَّا يضرك ولا ينفعك، ولو اشتغلت بإصلاح ما لله -عز وجل- عليك فيما تعبَّدك به من أداء فرائضه واجتناب محارمه كان أولى بك، وقيل: ولا سيَّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضَّالة. وقيل له: اشتغالك بمطعمك وملبسك من أين هو؟ أولى بك، وتكسبك لدرهمك من أين هو وفيما تنفقه؟ أولى بك.
يوقع في النفوس بغضًا وذمًّا
وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من النَّاس بغضًا وذمًّا، ويكون هو في ذلك مخطئًا بل عاصيًا، فيضرُّ نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلَّم في ذلك، فإنَّهم تكلَّموا بكلامٍ لا يحبه الله ولا رسوله؛ إمَّا من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح».
ويقول الملا القاري: «وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» أي: عن الطعن فيهم، فإن رضا الله تعالى في مواضع من القرآن تعلق بهم، فلابد أن يكون مآلهم إلى التقوى ورضا المولى وجنة المأوى، وأيضا لهم حقوق ثابتة في ذمة الأمة، فلا ينبغي لهم أن يذكروهم إلا بالثناء الجميل والدعاء الجزيل».
لاتوجد تعليقات