من أرشيـف علماء الدعوة السلفية في الكويت – الشيخ عبد الله السبت- رحمه الله (15) وظيفة أهل الحديث
هذه محاضرات ألقاها الشيخ عبدالله السبت -رحمه الله- في أوقات متفرقة ومجالس متنوعـة، دارت حول إيضاح مفهـوم المنهج السلفي الصافي، وكشف عُوار الدعوات المشوهة له، أثراها بالأمثلة الحية التي تُلامس الواقع، بأسلوبٍ موجز لا حشو فيه، سهل ميسّر، بقوة حجة، واطلاعٍ تام بحال الجماعات الإسلامية المعاصرة، موجَّهٌ إلى أفهام عُموم الناس، غير مختَصٍ بنخبةٍ معينة، قام بجمعها وترتيبها الأخ بدر أنور العنجري، في كتاب (ملامح أهل الحديث) المطبوع حديثاً، ومنه استقينا مادة هذه السلسلة.
الوظيفة التي التزم بها أهل الحديث هي حماية الدين، وأجمع وصف لهم هو ما صححه مرفوعا إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل -رحمه الله-: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه: تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».
الصفة اللازمة لهم
والصفة اللازمة لهم ولأعدائهم هي العدل، فهم عدول في كل ما فعلوا وما كتبوا، حتى أنهم وصفوا بأنهم: أرحم بأهل البدع من أهل البدع والأهواء بأنفسهم، فالعدل لابد من أن يكون صفتهم؛ لأنهم سيتولون جهاد الناس والحكم على الناس في الدنيا والآخرة، فلابد لمن أعطي هذه المنزلة العظيمة أن يكون عدلا؛ لأنها ستكون شاهدة على الناس في الدنيا وفي الآخرة، وشهادتهم في الدنيا أنهم إذا شهدوا على إنسان أنه مهتد فهو مهتد، وإن شهدوا عليه بأنه ضال فهو ضال، ولكن هذه الشهادة ليست شهادة هوى، وإنما شهادة علم وبصيرة وبينات، ولذلك ما وجد من أتباع المذاهب والطرق والفرق من سلمت له الأمة مقاليد الجرح والتعديل، زمام الجرح والتعديل ومقاليده أعطيت لأهل الحديث، للطائفة الناجية المنصورة، لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في وصفهم: «أنهم يصلحون ما أفسد الناس»، كما هي إحدى روايات حديث الغرباء.
إذاً وظيفة من اتصف بأنه من أهل السنة والجماعة من سلف الأمة أن يحمي الدين، والله -عز وجل- قادر على حماية دينه، لا خلاف على ذلك، فهو -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، ولكن لحكمة عظيمة أرادها ربنا -جل وعلا- وارتضاها أن جعل من عباده من يقوم بمقام الرسل.
الدين مستقر، لكن يحول دون دخول الناس فيه عوائق، هذه العوائق أحيانا تكون بشرية، ففرض الله -عز وجل- الجهاد، والجهاد في الإسلام ليس دفاعا فقط، بل هو إنشاء، أي أنه جهاد طلب، فالذي يدرس ويفهم على أن الجهاد أو القتال في الإسلام فقط دفاع عن النفس وعن بلاد المسلمين فهذا افتراء، وإلا ما علاقة المسلمين في بلاد الهند والسند وبلاد الترك وبلاد الفرس وبلاد الشرق والغرب، فإذا الجهاد في الإسلام جهاد طلب، أي أن الله -عز وجل- أوكل إليهم حماية الدين، وأوجب عليهم -جل وعلا- نشره، فوجب عليهم أن يجاهدوا.
يحمون الدين عن طريق الجهاد
فإذاً يحمون الدين عن طريق الجهاد، بفرضه على الناس، ومثاله كأن تضرم نار في مكان، فيأتي أهل الصلاح ليطفئوها، ولكن جاءت مجموعة من الناس أو حاكم البلد ووضع الجيش وقال: اتركوا الناس تموت وتحترق! شعبي وأنا أريد أن أحرقه! فهنا وجب على العقلاء وعلى المصلحين أن يقاتلوا هؤلاء، الذين يمنعون الناس من إطفاء النار، هذا هو حال الجهاد، فالذي يقف أمام دخول الإسلام إلى هذه البلدان، والذي يقف أمام انتشار الإسلام فإنه يجاهد.
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
هذا لا يفهم منه على أنه إكراه في الدين، فإن الله -عزوجل- قال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256)، فلا يرغم أحد بالسيف أن يكون مسلما؛ لأنه قد يسلم نفاقا، لكن تفتح البلدان، ويقاتل الكفار، ويجاهد المبتدعة، ويعزرون وتقام عليهم الحدود، ولكن فرق بين هذا وبين إدخال الناس في دين الله -عزوجل- كرها. هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن الله -تعالى- أخبر بأن هذا الدين قد كمل، وهذا أمر بدهي معروف: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3)، ولذلك قالت اليهود: لو نزلت علينا هذه الآية لجعلناها يوم عيد، فكان جواب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أنها نزلت علينا في يوم عيد»، لكن ما الذي جرى فيه؟ دخله تحريف وزيادة وتأويل والله لا شك حافظه-، والذين عبثوا في الدين طائفتان: طائفة مسلمة طيبة فاضلة لكنها جاهلة، وطائفة عاقلة مدركة لكنها مدبرة حاقدة فاسدة، ويعدون كل الثنتين والسبعين فرقة يدخلون في هذين النوعين، والفرقة الواحدة قد يكون فيها من هذا ومن هذا.
المبطلون المفسدون
هناك مبطلون في الأرض مفسدون، فهؤلاء جاؤوا بنحل وأديان ألصقوها في الدين، كما جاء عبدالله بن سبأ بوصية من اليهود وأدخلها في دين المسلمين، فهؤلاء ألصقوا الأهواء في الإسلام فأخذها الجاهل، والتقادم ينسي الناس الأصل، ولهذا السبب فإن السلفيين ليل نهار يدندنون على أصولهم، فلا تجد درسا للسلفيين إلا ويتكلم عن خطر الأحاديث الضعيفة، وعن التحذير من الشرك، ومن البدعة، وعن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن وجوب التزام السنة، فالتقادم ينسي الناس الحق، ويألفون الباطل، وأكبر دليل على ذلك قصة قوم نوح -عليه السلام-، عندما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا رجالا صالحين، وإبليس ما جاء للناس الأولين الذين يعرفونهم وقال اعبدوهم، لا، قال اجعلوا لهم صورة، حتى إذا رأيتموهم تذكرتم الأولين والعبادة، فالجيل الأول كانت عنده العقيدة واضحة، فوجود الصور ما ضرت، أما الجيل الثاني والثالث رأى أن الموجودين على الأقل لا ينكرون وجود هذه الصور ولا ينكرون من يأتي إليها، وبالتقادم والموت نسي الجيل ما كان أصل هذه القضية.
أحوال أهل البدع
القضية نفسها تجدها في أحوال أهل البدع، فمعظم ما جاءنا من احتفالات في الشجرة والمولد وعیسی وغيرها، والاحتفال بالمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاحتفال في رجب، وفي وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، تجد له قبول وله رواج! فالتقادم أنسى الناس أن هذا أمر محدث، والتقادم يميت السنة ويحيي البدعة؛ فلذلك فإن المنتحل (إبليس أو أبالسة الإنس) يلقون الفكرة والشبهة وهم لا يريدون منا - نحن الذين ألقيت علينا- أن نتبناها، وإنما ليأتي الجيل الثاني أو الثالث فيتبناها! وستنسى الأجيال ما كانت عليه من قبل.
وترى الشعوب التي أهملت ذكر فضائل الصحابة والتبرؤ ممن عاداهم ضاعت المعالم بينهم وبين غيرهم، بل نسي المسلمون في بعض البلاد مسألة الولاء والبراء، والموقف من الكفار ومعاداتهم؛ فضاعت هذه المعالم عند المسلمين، فأصبحت ترى المسلم متزوجا من هندوكية والعكس!.
إذن يتلقف الجهال النحلة التي طرحت عليهم فيسيرون فيها، فيأتي أهل السنة فيقولون للناس أنتم تسيرون إلى طريق هاوية؛ لأن وظيفتهم هي النفي عن كتاب الله ما أدخل فيه من تحريف ونحلة، وهذا ليس ادعاء، وانظر في واقع المسلمين منذ عهد انتشار البدع من عهد الصحابة وإلى اليوم، من يرد عليها؟ انظر إلى كتب الصوفية وإلى كتب المعتزلة وإلى كتب الأشاعرة، لاترى في كتبهم ردودا على أهل البدع، بل لاتری لأئمتهم أقوالا في أهل البدع والتحذير منها.
إذاً هذا اصطفاء من الله -عز وجل- ونعمة ومنة منه أن جعل أتباع هذه الطائفة (أتباع السلف) يقومون بهذا الدور، وهذا كما هو معروف من فضل الله على هذه الأمة «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله..».
ونحن لا نفترض في كل قائم في الدين أنه مفسد، وأن نيته فاسدة؛ ولذلك الإمام أحمد -رحمه الله- جعلهم أصنافا: غلاة، ومبطلين، وجاهلين؛ فالغالي قد يكون جاهلا وقد یكون متعمدا، لكن جاءه الغلو والمبالغة والتنطع، والرسول -[- يقول: «هلك المتنطعون» و«إياكم والغلو في الدين!»، والمبطل ينتحل النحلة يؤسسها على شفا جرف هار، فيتلقفها الجاهل ويركض بها.
ويأتي دور السلفيين وأئمة أهل السنة بأنهم عدوا الطائفة الأولى - من أهل البدع - أساس البلاء، فركزوا عليهم سهامهم، وعندما كانت الدولة لهم أقاموا الحدود عليهم، ثم بينوا للناس التحذير من أهل البدع، وقالوا: «الراد على هؤلاء كالمجاهد في سبيل الله»، ولذلك كان كشف عوار هؤلاء الناس ديدنهم.
إذاً هم ساروا بخطين:
- أولا: أنهم حموا الأمة من هؤلاء الناس، بأن حذروا من مجالستهم.
- وثانيا: طبقوا هذا عمليا، فتجده من سير علمائنا، فلا يأتي علماؤنا كالحسن البصري وغيره ويسكت إذا مر بأهل البدع، أو إذا جاء رجل إلى مالك يقول: تعال اجلس أتكلم معك، فيقول مالك: «لا أتكلم معك، أو كلما جاء رجل أجدل حجة من رجل تركت دينك!».
فهل الإمام مالك أو الحسن البصري أو سفيان أو حماد -رحمهم الله- ليس عندهم قدرة على رد الشبهة؟! بلى، قطعا، وإنما ليقتدي به الصغار، فإذا جاءهم صاحب الهوى قالوا: والله ماضيع أوقاتنا معك، بعكس دعاة هذه الأيام يأتون بصاحب الهوى ويشغلون الناس بالفتن، وإلا فمنهج السلف عدم إشغال الناس بالأقوال الفاسدة والفتن حتى لا يضلوهم.
ولذلك نقول: إنه لابد من الدندنة على الأصول الصحيحة في قضايا الشرك، وقضايا البدعة، وقضايا الأحاديث الضعيفة، وقضايا الخلاف الذي عليه أهل الأهواء، حتى يتعلم الصغير ما ألفه الكبير، وأما إذا حصل عندنا ترهل -كما حصل عند قوم نوح- فتضرنا كما ضرت بقية الجماعات، فنحن علينا تبعة عظيمة، فيجب على كل موحد أن يحمي الدين.
هذا الواجب يلزمنا معه واجبات: أهمها العلم؛ لأنك ستحمي الدين من عبث العابث فيه، فلابد أن تعرف أولا ما الدين؟ ثم تعرف ما العبث؟ فلابد من معرفة الإسلام كاملا، ومعرفة ما دخل فيه لينقى منه، وطبعا هذا من فروض الكفاية، لكن يجب على من يريد أن يتصدى للدعوة إلى الله -عز وجل- أن يقوم بهذا.
لاتوجد تعليقات