من أرشيـف علماء الدعوة السلفية في الكويت – الشيخ عبد الله السبت- رحمه الله (14) مزية اعتقاد السلف
هذه محاضرات ألقاها الشيخ عبدالله السبت -رحمه الله- في أوقات متفرقة ومجالس متنوعـة، دارت حول إيضاح مفهـوم المنهج السلفي الصافي، وكشف عُوار الدعوات المشوهة له، أثراها بالأمثلة الحية التي تُلامس الواقع، بأسلوبٍ موجز لا حشو فيه، سهل ميسّر، بقوة حجة، واطلاعٍ تام بحال الجماعات الإسلامية المعاصرة، موجَّهٌ إلى أفهام عُموم الناس، غير مختَصٍ بنخبةٍ معينة، قام بجمعها وترتيبها الأخ بدر أنور العنجري، في كتاب (ملامح أهل الحديث) المطبوع حديثاً، ومنه استقينا مادة هذه السلسلة.
أهل السنة (سلف الأمة من الصحابة والتابعين) امتازت عقيدتهم بالثبات والوضوح، وهذه الصفة لا تجدها في بقية العقائد أبدًا، وتعطي صفة إضفاء الجانب التعبدي على الحكم، بخلاف العقائد الأخرى عبارة عن مباحث نظرية، وهذه الصفة هي مزية منهج السلف، حتى في الفقه، الذي يدرس الحكم على أنه حرام فقط أو أنه واجب فقط، يختلف تماما عن الذي يدرسه ومربوط بتخويف من الله -عز وجل- إن فعل ذلك، ومربوط بإغراء وترغيب إن هو فعل الخير.
العقيدة السلفية صفتها اليسر والوضوح
الفقه في الكتاب والسنة فقه ترغيب وترهيب، والفقه في الدراسة النظرية الجامدة عبارة عن أحكام خالية من هذه المزية التي يمتاز بها فقه الكتاب والسنة، كذلك عندما تدرس العقيدة عند الأشاعرة وعند المعتزلة تراها عبارة عن كلام مركب ومعقد ومفلسف، لكن العقيدة عن السلف تجدها آیات وأحادیث وأقوال الصحابة -رضوان الله عليهم-، إذا العقيدة السلفية صفتها اليسر والوضوح، هذا مصداق ما ذكر ربنا -جل وعلا- عندما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر:22) وقال الله -سبحانه وتعالى-: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24) إذا المزية الأساسية لهذه العقيدة -عقيدة السلف- أنها نصوص واضحة سهلة الفهم.
مسألة رؤية الله يوم القيامة
مثال ذلك: عندما طرحت مسألة رؤية الله يوم القيامة، ما جاؤوا في بحث الرؤية وتعقيداتها وأحوالها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر: «إنكم ترون ربكم يوم القيامة». الحديث، ثم بين بمثال كلهم يفهمونه ویرونه ويشاهدونه وهو القمر، فهذا يفهمه الكبير والصغير، والدكتور وراعي الغنم والصانع.
العقيدة في الكتاب والسنة
وإذا نظرت إلى العقيدة في الكتاب والسنة ترى أنها غير معقدة، «من علق تميمة فلا أتمه الله» «لعن الله من ذبح لغير الله» «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»، نصوص واضحة، وهذا الفرق الجوهري بين العقيدة عند السلف، والعقيدة عند الخلف.
ميزة العقيدة: الثبات
وميزة عقيدة السلف الأخرى: الثبات؛ لأن العقيدة عند الفرق الأخرى ناتج من تفكير، ولوازم مذاهب، ومن ثم إذا كبروا في العلم تغير الفكر عندهم، وانتقلوا من مرحلة إلى أخرى، كما وصف الرازي في أبياته المشهورة:
وأكثر سعي العالمين ضلال
نهاية إقدام العقول عقال
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ولم تستفد من بحثنا طول عمرنا
فلم نجد عند الصحابة ولا عند التابعين ولا عند من سار على هذا الدرب تغيرًا عقائديا، بل وجدناهم أمة واحدة تنتقل العقيدة عندها جيلاً بعد جيل، إلى أن وصلت إلينا، ولكي تتأكد خذ قضية (الطواف حول القبر) أو (الذبح لغير الله) واطرحها في مجتمعات أهل المذاهب والفرق في الدنيا، تجد مئات الأجوبة في الجماعة الواحدة، لكن خذ القضية واذهب إلى أقصى الهند وأقصى السند وأقصى إفريقيا واطرحها على أهل السلف؛ فسيكون الجواب لديهم واحدا؛ لأن المصدر الذي يستقون منه العقيدة واحد، أما المصدر عند أهل الفرق: الكتاب والسنة وفق هوى الناس، كما قال الشعراني: (الطريق إلى الله بعدد أنفس الخلائق) ما ينتهي!
منهج السلف
ومنهج السلف يعطي صاحبه صفة التدين، ولذلك عندما تؤمن أن الله -عزوجل- يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يختلف عن إيمانهم: بأن الله -عزوجل- يعلم الأشياء بعد وقوعها، القضية تغيرت، وعندما تعلم أن الله -عزوجل- هو المتصرف بهذا الكون، يختلف عن قولهم: إن الله ليس له سلطة على العصاة؛ فهم يقررون فعل المعصية بغير إذن الله -عز وجل-! إذاً هذا الإله ضعيف عندهم! - وحاشاه ربنا تبارك وتعالى -، وقس عليه مثلها، فعندما تربط العقائد بالتخويف والترغيب يصبح لها معنى، وأما إذا درست كما هي عند الأشاعرة والمعتزلة، تجدها قضایا نظرية تكون مثل الرياضيات ليس لها معنى، ولذلك ترى أن أتباع الفرق الأخرى يلقب بـ(أستاذ العقيدة) وإذا جلس ليس في سلوكه شي من العقيدة؛ لأن العقيدة التي يدرسها ما أثرت عليه؛ لأنها مبنية على أقوال رجال، لكن لو أتاك أستاذ عقيدة على منهج السلف ترى الأمر عنده مختلفا وأثرها واضح عليه، وكذلك عندما تنظر في كتبهم وتقرأ ما يزيد عن الأربعمائة صفحة قد لا تجد فيها آية أو حديث! أما كتب السلف فإنك تجد في الصفحة الواحدة عشرات الأدلة.
مجمل الاعتقاد
ومجمل الاعتقاد والركن الأساسي في العقائد هو حديث جبریل -عليه السلام-، الذي جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، هذه القضايا التي ذكرها من حيث العموم لا خلاف عليها، لكن من حيث التفصيل فلا شك أن الفرق الأخرى تختلف مع السلف -من الصحابة والتابعين- حتي في الله -عز وجل-، فالإيمان بالله -سبحانه وتعالى- عند أهل السنة والجماعة غير الإيمان بالله -عز وجل- عند البقية؛ لأنك تؤمن بصفات الله -سبحانه وتعالى- وتثبتها، وهم لا يؤمنون بها ولا يثبتونها، وكذلك هم يرون أنه لا أحد يمكن أن يرى الله -عز وجل- يوم القيامة، هم ينفون صفة النزول لله -سبحانه وتعالى-، هم ينفون صفة الاستواء لله -عز وجل-، هم ينفون صفة «الرضا»، صفة «الضحك»، صفات كثيرة ينفونها عن الله -سبحانه وتعالى-، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات الله -سبحانه وتعالى.
خلاف جوهري
إذاً من حيث التفصيل هناك خلاف جوهري بين الفرق الثنتين والسبعين وبين الفرقة الناجية، لكن لا شك أن هذا ليس مستلزما للتكفير، فكونهم خالفوا المنهج السلفي، أو خالفوا الصحابة في أمور، لا يعني أنهم كفار؛ لأن تعيين الكفر له ضوابط يلتزم بها، والإيمان له ضوابط يلتزم بها، فليس كل من وقع في الكفر عد كافرا، إذا لا يعني بالضرورة قولنا: إنهم يخالفون الإسلام الصحيح، ويخالفون منهج السلف، أنهم كفار وخارجون عن ملة الإسلام.
حديث النزول
ولمَّا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة، إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر»، فمعتقد السلف يدور حول البحث في الصفة لا في كيفيتها، فنثبت الصفة بمعناها، ولكن كيفية حدوثها تترك؛ لأنه خارج عن إطار البحث، ولذلك قال ابن تيمية -رحمه الله- في التدمرية بعد أن بحث المسألة هذه بحثا موسعا فقال: «إن القول في صفة واحدة يلزم القول في جميع الصفات»، فإذا قلت: إن الله يسمع بسمع يليق بجلاله، فقل: إن الله ينزل نزولا يليق بجلاله، وقل يستوي استواء يليق بجلاله، ولذلك من نفى صفة واحدة، لزمه أن ينفي جميع الصفات حتى صفة الوجود، إذاً فاعتقاد السلف يدور على التسليم بما جاء عن الله -عز وجل- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبهذا يفارقنا الآخرون.
عقولنا ليست حاكمة على كلام الله -عز وجل
فلا يجوز أن نجعل عقولنا حاكمة على كلام الله -عزوجل- في العقائد وفي غيرها؛ لأن السلف يرون أن العقيدة أساسها التسليم، فإذا جاءت الآية يرون هل توافق العقول أم لا توافق العقول؟! بالطبع لا، لا يمكن في عقولنا أن نتصور كيف ينزل الله في آخر الليل، وهل العرش یكون فارغا؟ وهذه الشبهة جاءت من بحثهم في الكيفية، وكذلك نفوا وجود الملائكة، والجن، وعذاب القبر ونعيمه، ونفوا رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ونفوا الميزان، فهم جاؤوا إلى العقائد بعقولهم، والسلف جاؤوا مسلمين، وأما التفويض فليس من عقيدة السلف لا شك في ذلك، وإن كان قال به ابن عقیل من الحنابلة، فظن الناس أن هذا هو منهج السلف.
العقيدة لها ثلاثة أمور
والعقيدة لها ثلاثة أمور: تأويل، وتفويض، وتسليم، والتسليم هو الذي عليه منهج السلف، والسلف يرون بأن العقيدة هي أن نفهم كلام الله -عز وجل- علی مراده -سبحانه وتعالى-، ونفهم المدلول، ولكننا كما قال الإمام مالك: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، مجهول الكيفية، أما المفوضة فينفون الأمرين: ينفون العلم بالشيء، والعلم بكيفيته، فلا تأتي وتقرأ: {الرحمن على العرش استوى} (طه:5)، تفهم أن الله -عز وجل- قد استقر؛ لأن معنی (استوى على): أي استقر كقوله -تعالى-: {واستوت على الجودي}(هود:44)، فهناك فرق بينها وبين (استوى إلى) أي صعد، كقوله -تعالى-: {استوى إلى السماء}، فمن خلال لغة العرب فهمنا هذا، ونفهم (السماء) بأنها إما أن تكون العلو المعهود أو العلو المطلق، هذا كله مفهوم، لكن كيف استوى؟ لاندري، أما المفوضة فيقولون أيضا معنى الاستواء لا نعرفه.
من أين جاء الانحراف؟
هذه فروق جوهرية حتی تدرك من أين جاء الانحراف؟ نحن لا نقول: إن هؤلاء الناس ليسوا مسلمين ولا يريدون الآخرة، بل هم مسلمون وعلماء ومفكرون ويريدون حماية الدين، فالمعتزلة نشأت في وقت الإلحاد، قام فكرهم في وقت فتنة الإلحاد (الكفر بالصانع) كما قالوا، فقاموا على إثبات وجود الله، ودخلوا في متاهات من الفلسفة، أما الأشاعرة فجاء مذهبهم ليعالج فتنة المعتزلة، فهؤلاء حركهم الدافع للدين، لكن كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «كم من مريد للخير لم يدركه»، فلا نبحث في نوايا العلماء والمؤسسين لهذه الفرق، ففيهم الصالح وفيهم المفسد، لكنهم جاؤوا إلى الدين بطريقتهم، لا بطريقة الصحابة -رضوان الله عليهم.
ملخص الأمر
فملخص الأمر أن عقيدة السلف تقوم على النص، ومن ثم أعطت أتباعها استقرارا وتدينا وثباتا، ثم هي إقناعها للناس سهل، فلو جئت تقنع واحداً في عقيدة المعتزلة تتعب؛ لأنك لابد أن تدخله في الفلسفة، أما لو جئت تقنعه بعقيدة السلف ترتاح، ولذلك كثير من مفكريهم القدماء تمنوا أن يموتوا على دين العجائز الذي هو التسليم.
لاتوجد تعليقات