رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 18 سبتمبر، 2022 0 تعليق

من أرشيـف علماء الدعوة السلفية في الكويت – الشيخ عبد الله السبت- رحمه الله (18) الموقف من التقليد وا

هذه محاضرات ألقاها الشيخ عبدالله السبت -رحمه الله- في أوقات متفرقة ومجالس متنوعـة، دارت حول إيضاح مفهـوم المنهج السلفي الصافي، وكشف عُوار الدعوات المشوهة له، وأثراها بالأمثلة الحية التي تُلامس الواقع، بأسلوبٍ موجز لا حشو فيه، وسهل ميسّر، بقوة حجة، واطلاعٍ تام بحال الجماعات الإسلامية المعاصرة، موجَّهٌ إلى أفهام عُموم الناس، غير مختَصٍ بنخبةٍ معينة، قام بجمعها وترتيبها الأخ بدر أنور العنجري، في كتاب (ملامح أهل الحديث) المطبوع حديثاً، ومنه استقينا مادة هذه السلسلة.

     قضية التقليد والمذهبية مرتبطة بقضية كبرى وهي قدسية الرجال، ونحن نعتقد أن الأمة إذا وصلت إلى أن تقديس الرجال لأنهم رجال، دون النظر إلى الحق أو الباطل الذي يحملونه، ودون النظر إلى الصواب في فكر هؤلاء الرجال، فعند ذلك تكون هذه الأمة قد بدأت بداية الانهيار.

ديننا يجعل الناس مرتبطة بالله تعالى

     والذي حرص عليه ديننا أن يجعل الناس يرتبطون بالله -تعالى- ربا، ويرتبطون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعا عن الله -سبحانه وتعالى-، ويعتقدون في النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يضر ولا ينفع ولا يملك شيئا، وإنما هو ناقل ومبلغ عن الله -تعالى-، وأنه إذا اجتهد في أمر من الأمور وأصاب: اتبع، وإذا اجتهد في أمر من الأمور وخطأه القرآن: رجع الناس واتبعوا الصواب الذي جاء به القرآن، ومعنى هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو، معرض للخطأ إذا لم يصوبه القرآن.

     كذلك الأمر في الصحابة أنهم كان ينظر إليهم أنهم بشر، وأن هؤلاء البشر غير معصومين، وأننا غير ملزمين باتباعهم مطلق الاتباع، وإنا نتبعهم بمقدار مايصيبون به من الحق.

قدسية الرجال لا تعرف في الإسلام

     وقدسية الرجال لا يعرف في الإسلام، وإنما يعظم الأبطال، يقدر أهل العلم، بمقدار معين، وبطريقة ونظام معين، وذكرنا فيما سبق عن الاتباع، فعندما تتلفظ بالشهادة: (أشهد أن لا إله إلا الله) أردفها بقول: (وأشهد أن محمدا رسول الله)، ومعنى ذلك: اتباع أنني لا أستطيع أن أعبد الله -عز وجل- إلا على طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم .

      وسبق أن قلنا بأننا لا نستطيع أن نتوصل إلى معرفة مراد الله -عز وجل- بعقولنا أو بقلوبنا، وهذا رد على العقلانيين وعلى الباطنيين، وإنما نتوصل لمعرفة مراد الله -عز وجل-، وما يحب ربنا -سبحانه- وما يبغضه عن طريق الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ولذلك أرسل -سبحانه وتعالى- الرسل على تقادم الزمان، حتى جاءت هذه الأمة، فأكرمها الله -سبحانه وتعالى- بأن جعل تبليغ الدين من وظيفتها، فقد كانت في الأمم السابقة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن بني إسرائيل (أنهم كانت تسوسهم الأنبياء). فإذا انحرف الإنسان عن الإسلام فبمقدار انحرافه عن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاقب، وقليلا قليلا حتى يخرج، فلا يتم إسلام أحد إلا أن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم .

لا إيمان دون اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم

     الله -عز وجل- أخبر بأنه لا يمكن للعبد أن يؤمن إلا أن يتبع النبي -[-؛ كما قال -جل وعلا- {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65)، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7)، وقال -جل شأنه-: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63).

     وفسر المفسرون (الفتنة) هنا بمعنى الشرك؛ لأن الذي يبتعد عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - یكون متبعا لهدي آخر أو لهوی.

     وجمع - صلى الله عليه وسلم - هذا كله بكلمة جامعة مانعة عندما قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، فأصبحت القضية محصورة باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم .

الاتباع واجب في العقيدة

     لا شك أن هذا الاتباع واجب في العقيدة بالدرجة الأولى، وواجب في الفقه، وواجب في كل شيء، فنتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل شأن من شؤون حياتنا.

     هذه القضية -ولله الحمد- واضحة عند أهل السنة سلف هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فما الذي طرأ عليها؟ وكيف نشأ التقليد؟

     الناس كا تعلمون كانوا على الجادة في كل شيء عقيدة وفقها وسلوكا؛ لأن التلقي كان من مصدر واحد وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة يأخذون هذا العلم ويبلغونه، فأتي بعد الصحابة جيل التابعين، الذي أصبح يأخذ علمه منهم، ولأن الصحابة تفرقوا في الأمصار مع الفتوح، حتى وصلوا إلى بلاد ما يسمى الآن بـ(الجمهوريات الإسلامية)، ووصلوا إلى بلاد بخاری وأذربيجان وما حولها وما بعدها، ووصلوا إلى إفريقيا، ولذلك قبر (قثم بن العباس) لا يزال موجودا في أطراف سمرقند إلى يومنا هذا، فصار الناس يأخذون العلم من الصحابة، وما كان يعرف لا مذهب عمري ولا مذهب بكري ولا مذهب عثماني ولا مذهب علوي -كما ذكرنا سابقا، والناس يسمعون من الصحابة العقيدة، ويسمعون منهم القرآن، ويسمعون منهم الفقه، ويسمعون منهم حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله، كل هذا يتلقونه من الذين عاشروا النبي - صلى الله عليه وسلم .

      ومع التقادم والتوسع صار في الصحابة التخصص، أناس جلسوا للتدريس وصاروا أئمة أعلام، فصار ابن مسعود - رضي الله عنه - يفتي من جهة، وصار ابن عمر -رضي الله عنهما- من جهة، وصار ابن عباس -رضي الله عنهما- من جهة، وصارت عائشة -رضي الله عنها- تفتي من جهة، وهكذا، فجاء بعد ذلك التابعون، وليس عندهم تعصب، ولا إلغاء للدليل، وإنما كانت الفتوى تقوم على أساس الدليل، فكان الرجل العامي يأتي فيسأل: ما تحفظ من حديث رسول الله -صلي الله علي وسلم ؟ أيكم أدرك النبي -[-؟ أيكم أدرك الصحابة -رضوان الله عليهم؟ فيأخذ الجواب ويذهب، فكان هذا واقع الأمة.

هل الأمة في ذلك الوقت كلهم علماء؟

     الجواب: لا، فيهم العالم، وفيهم الوسط، وفيهم الجاهل، وهذا حال الأمة اليوم كا حالها في ذلك الوقت، وفيهم العربي وفيهم الأعجمي، دخلوا في هذا الإسلام ولا يعرفون منه شيئا.

     وموقف الدعوة السلفية من التقليد والاجتهاد هي أن نلغي الفترة الحرجة (مرحلة التعصب المذهبي والتقليد الأعمى)، وترجع الناس إلى ذلك العصر.

     فالناس كانوا ثلاثة أصناف لا رابع لهم الصنف الأول: رجل قد أوتي علما وفهما وحفظا كالبخاري ومسلم وسفيان والأوزاعي والليث، واقرأ إن شئت (سير أعلام النبلاء) ترى في ذلك العجب، فهؤلاء أئمة مجتهدون، ليس بعقولهم وإنا بما يحفظون من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، وينظرون إلى المسائل الطارئة في عصرهم، فينزلون عليها الأحكام التي حفظوها من الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة وفهمهم ، وكانت الأمة سليمة مائة في المائة، لا فيها عصبية ولا أحقاد في العقيدة وفي الفقه، قبل أن يولد (الأشعري) وقبل أن يولد (المعتزلي) وقبل أن يولد (الماتريدي)، نعم هناك فرق ظهرت في عهد الصحابة كالخوارج والمرجئة والقدرية، لكنها منبوذة.

طبقة طلاب العلم

     الصنف الثاني: طبقة طلاب العلم، الذين لم يصلوا إلى طبقة العلماء، وإنما يسمع ويحفظ ويفهم، فهو في طور أن يكون إماما مجتهدأ، وهذا يسمونه متبعا، هذا يقرأ كلام أبي حنيفة وكلام سفيان وكلام أحمد ثم يقارن، مثاله ما يعرض على طالب علم - مثلنا- مسألة فيقرأ كلام الشوكاني من جهة، ويقرأ كلام صاحب المغني من جهة، ويقرأ كلام الألباني من جهة، ويقرأ كلام ابن باز من جهة، ثم ينظر في الأقوال، فيستقر عنده شيء ويرجحه.

طبقة المقلدة

     ثم يأتي الصنف الثالث: وهي الطبقة الأكثر شيوعا في الأمة وهم المقلدة، والمقلد ليس بشرط أن يكون جاهلا مطلقا، وإنما قد یكون عالما في دنياه، كأن يكون طبيبا أو مزارعا أو طيارا أو متخرجا من الدراسة الجامعية، وهكذا، لكن ما أتيحت له فرصة أن يطلع على الأدلة والعلوم الشرعية، فماذا يفعل؟ في عهد الصحابة كان يسأل الصحابي، وفي عهد التابعين یدخل المسجد ويرى الأئمة جالسين فيسألهم، الآن النتيجة نفسها، العامي الذي لا مذهب له لا يعرف أن يرجح، ولذلك أكبر خطأ شائع أن العامي يكون له مذهب يلتزم به؛ لأنه لا بد أن يعرف أن هذا المذهب أقرب إلى الصواب من ذلك المذهب، فإذا استطاع أن يرجح؛ لم یكن عاميا، ولذلك حتى المذهبيين في فترة «التعصب المذهبي» يقولون: إن العامي لا مذهب له.

الوضع الطبيعي الفطري

     هذه المراتب الثلاث التي كانت، ويريد السلفيون إحياءها من جديد في الأمة، وهو الوضع الطبيعي الفطري، الذي لا تكلف فيه، والتقليد وعند قيام دولة بني العباس ودخول الأمم في الإسلام بدأ العلم يقل، فأصبح مجموعة من الناس يبرزون في العلم، ومن ثم مع مرور الزمن صار العلماء وطلاب العلم يشتغلون بفقه أربعة أئمة، وكلهم سلفيون عقيدة ومنهجا وسلوكا وفقها، وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، لكن أصبح لهم تلامذة كثر؛ ولذلك يقولون: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه ضيعوه»، أي لم يكن له تلاميذ ينقلون ويشهرون علمه، فصار لهؤلاء الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم وأرضاهم- أتباع جمعوا ودرسوا مسائلهم، وهم أنفسهم لو رجعت إليهم- يقولون: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولكن خذ من حيث أخذوا»، وكلمة أبي حنيفة -رحمه الله- مشهورة: «لا يحل لامرئ أن يقول بقولي ولم يعرف دليلي».

     فالأئمة ما أمروا أحدا بالتقليد، ولا قال أحمد إنني أفضل من الشافعي - حاشا لله-، جاء بعد ذلك عصور من عصور الظلام حصل فيها تعصب، فقالوا: لا يجوز أن يعبد الله -سبحانه وتعالى- إلا على هذه المذاهب الأربعة!

التعصب المذهبي

      فنشأ ما يسمى بـ(التعصب المذهبي)، ولذلك قالوا: إذا خالف الحديث قول الإمام نأخذ بقول الإمام ونترك الحديث، فإن الإمام ما قال هذا القول إلا وعنده فيه تصور! وقد أنصف ابن تيمية -رحمه الله- الأئمة -رضوان الله عليهم أجمعين- بأن ذكر في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام الأسباب التي يعتذر فيها للأئمة.

     لأنه قد يأتي ناشئ ویری فتوى لإمام كبير مخالفا حديثا في البخاري، فيظن هذا المسكين أنه قد أوتي علما أكثر من مالك أو أكثر من الشافعي؛ فذكر ابن تيمية -رحمه الله- الأسباب البيئية والعقلية التي جعلت هؤلاء الأعلام يخالفون حديث النبي الله - صلى الله عليه وسلم .

     وفي هذه المرحلة من التعصب المذهبي أفتى بعضهم بوجوب التقليد، وإغلاق باب الاجتهاد، ولذلك كان في الشام -إلى عهد قريب- يصلي كل مذهب الصلاة على حدة، وفي الحرم المكي كان أيضا كذلك، ولا شك أن تلك كانت ظاهرة مرضية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك