من أرشيـف علماء الدعوة السلفية في الكويت – الشيخ عبد الله السبت- رحمه الله (الحلقة الأخير
هذه محاضرات ألقاها الشيخ عبدالله السبت -رحمه الله- على أوقات متفرقة ومجالس متنوعـة، دارت حول إيضاح مفهـوم المنهج السلفي الصافي، وكشف عُوار الدعوات المشوهة له، أثراها بالأمثلة الحية التي تُلامس الواقع، بأسلوبٍ موجز لا حشو فيه، سهل ميسّر، بقوة حجة، واطلاعٍ تام بحال الجماعات الإسلامية المعاصرة، موجَّهٌ إلى أفهام عُموم الناس، غير مختَصٍ بنخبةٍ معينة، قام بجمعها وترتيبها الأخ بدر أنور العنجري، في كتاب (ملامح أهل الحديث) المطبوع حديثاً، ومنه استقينا مادة هذه السلسلة.
من الأسئلة المهمة التي يسألها بعض الناس: لماذا أهل الدين وأهل الطاعة حريصون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: اكتمال الإيمان
لقد علمنا شَرْعاً أنه لا يكتمل فينا الإيمان إلا إذا أحببنا الخير للناس كما نُحبّه لأنفسنا، وهذا معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه»، إذاً لا يكتمل إيمان العبد المؤمن إلا إذا أحب لإخوانه ما أحب لنفسه؛ فالإنسان منا يحب لأهله الستر والعفة، ويحب لنفسه أن يكون طاهرًا، فكذلك يحبه لإخوانه، ويحب لنفسه أن يكون من أهل الجنة، فكذلك يحبه لإخوانه، إذا المنطلق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شعور عميق في قلوب الطائعين يجعلهم يحبون الخير لإخوانهم المسلمين كما يحبونه لأنفسهم، وعلى هذا فهم يتحركون.
حب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخير للناس
وعلى هذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الخير للناس، حتى الكفار منهم، كما يحب الخير لنفسه، وهذا الشعور لابد أن يكون شعور الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأننا إذا ما أمرنا ونهينا بشعور التكبر والغطرسة، وأننا مهتدون وهؤلاء عصاة، ضاعت الثمرة.
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا حتى ننال فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد أن نتذكر كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألم إذا لم يسلم اليهودي، ويتألم إذا قريش ردّت الدين، فيهون عليه ربُّه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَلَعَلَّكَ بَحْعُ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: ٦)، هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا يجب أن يكون كل داعية.
الدعاة لايضمرون شراً
فإذا علم الناس، وعلم العصاة، وعلم أهل البدع، وعلمت اليهود والنصارى وغيرهم؛ أن الدعاة لا يضمرون لهم شراً، فإذا جاء هذا في قلوب العامة، تغير الحال، فإن الجائع لو قَدَّمت له طعامًا في إناء غير نظيف ما أكله، والشّبعان لو قدَّمت له طعامًا في إناء جميل تذوقه.
الوجه الثاني: حماية لأنفسنا وأعراضنا
إننا نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر حماية لأنفسنا، ولأعراضنا، ولبيوتنا؛ لأنه لو انتشرت الفضيلة تأمن على أولادك إذا خرجوا في الشارع، وتأمن على بناتك وعلى زوجك وعلى أهلك، وإذا انتشرت الرذيلة تخاف، ويتحول الإنسان بعد ذلك إلى ذئب، ومن رأى ما يجري في الدنيا يعرف هذه الحقيقة.
فلو فُتح الأمر لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يأمروا وينهوا بالرفق وبالحكمة؛ لتغير الحال، وعلى ولاة الأمر أن يعلموا أنه لا صلاح للمجتمعات إلا إذا فتح الباب لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك هذا هو الدرب الوحيد لإغلاق التَّطرُّف؛ لأنك إذا قلت للناس هذا الأمر (وهو وجود المنكرات) لا ينبغي ولا يجوز؛ بعد فترة يضج الناس، لكن لو فتحت قنوات شرعية للآمرين والناهين، يتغير الحال.
ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتقوم على ثلاث ركائز:
الركيزة الأولى: العلم
والعلم يقتضي أمرين: العلم بالحكم الشرعي، والعلم بحال الفاعل نفسه، فقد يكون متأولاً، أو له دليل آخر لا نعرفه، أو لو أنكرت عليه يترتب عليه منكر أكبر منه، وهذا من البصيرة؛ ولذلك نقول لهؤلاء الذين ينادون بالخروج على حكامهم قد ترون أن الخروج يحقق مصلحة، لكنه يُلحق دماراً، وما رأيناه في بلاد المسلمين القريبة حولنا من جراء ذلك كثير.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -معلقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، قال: «أما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ، فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور، كما هي عادة أكثر النفوس؛ تُزيل الشر بما هو شر منه، وتُزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليه يوجِبُ مِنَ الظلم والفساد أكثر من ظُلمهم، فيُصبر عليه كما يُصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».ا.هـ.
الركيزة الثانية: الرفق
بأن يكون القائم بهذا الأمر رفيقًا بالناس، لأن الناس جبلت على، المحسن إليها، كما قال الله -تَعَالَى-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: ٣٥-٣٤)، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه».
لكن هل معنى الرفق -كما يُصوّر لنا- أن نكون رفيقين مع أهل البدع ومع العصاة ولا يرون منا إنكاراً؟! لا، وإنما الرفق أن نكون ربانيين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتتذكر حالنا قبل الهداية، ولاسيما لمن كان فاسقاً فهداه الله لهذا الدرب، فتتلطف بالإحسان إليهم، والدفع بالحسنى، ومجاملة إخوانك حتى تتألفهم، فيقبلوا هذا الحق الذي عندك لأنك أنت المحتاج إليهم، فإذا اهتدى، فكل أجره لك، فقد تموت أنتَ وأجورهم تكتب لك.
الركيزة الثالثة: الصبر
من يصبر هو الذي يعرف الثمرة والأجر، والله -تعالى- وصف أهل الإيمان في سورة العصر: {وَتَوَاصَوْا بالصبر}. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وجاء في بعض الآثار: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه»، هل لابد أن يكون المرء فقيهًا إمامًا كي يأمر وينهى؟ لا، فإذا علمت جزئية صغيرة من الدين فبلغها، فلا يلزم أن تكون إماماً في الدين حتى تُبلغ، فإذا بلغت ما تعلمه كُن رفيقاً به، صابراً على الأذى فيه.
لاتوجد تعليقات