رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 29 نوفمبر، 2016 0 تعليق

منهـج ابن تيمية في كشف بدعة الخوارج (3)

لقد نبتت في بلاد المسلمين نابتة سوء ترجع بأصولها إلى بدعة الخوارج؛ فوجب تحذير المسلمين من ذلك، وحتى يتمكن المبصر – لحقائق الأشياء – التمييز عند الحكم على الأفعال بين الخطأ المغفور لصاحبه الذي هو من قبيل الاجتهاد السائغ، وبين الأخطاء المغلظة التي ترجع بأصولها إلى أهل البدع والأهواء؛ ولاسيما فيما يتعلق ببدعة تكفير المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم وديارهم، ونستكمل الحديث عن هذا الموضوع فنقول:

لوازم البدعة عند الخوارج

لا ينحصر ضرر بدعة الخوارج في دائرة الاعتقاد النظري؛ بل يتعدى إلى واقع عملي بعكس لوازم هذه البدعة وتطبيقاتها العملية على واقع الأمة، ويمكن إجمال هذه اللوازم المتولدة عن بدعة الخوارج بما يلي:

الخروج على أئمة الهدى وجماعة المسلمين

الأول: الخروج على أئمة الهدى وجماعة المسلمين وولاة أمورهم بالسيف: وهذا اللازم من أخطر ما يتولد من هذه البدعة الرديَّة؛ بما يحصل بسببها فساد الدين والدنيا.

بغض المسلمين وتكفيرهم

الثاني: بغض المسلمين وتكفيرهم وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم: بعد أن ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في (المجموع 19/74) أصلين خطيرين للخوارج؛ قال: فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم.

جعل دار المسلمين دار كفر وحرب

الثالث: جعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب، وسموا دارهم دار الهجرة: وهذا حاصل تحصيل بدعتهم؛ حتى يسوَّغوا استحلالهم لدماء المسلمين وأموالهم، يقول شيخ الإسلام في (المجموع 19/73): الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان.

فائدة:

بل ربما هاجر الخوارج إلى دار الكفار واستوطنوا فيها؛ لعلتين:

الأولى: لأنهم لا يصبرون على جَوْر الحكام.

الثانية: لأنهم يستحلون بلاد الإسلام أكثر من استحلالهم بلاد الكفار. يقول شيخ الإسلام في (المجموع 2/355): ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان».

تكفير المخالف

اللازم الرابع: يكفرون المخالف لهم، ويلزمون الناس ببدعتهم: وهذا قدر مشترك في كل مخالف للسنة مبتدع صاحب هوى، يقول شيخ الإسلام في (المجموع 3/279): والخوارج هم أول من كفر المسلمين يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله.

وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله؛ فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق  أ.هـ.

والخوارج يمهدون لبدعتهم – قبل الشروع فيها – بمقالات بدعيَّة، وتكتلات حزبيَّة، وأطروحات فكرية.

مدار طرحهم

ومع ذلك، فهم يرصدون الواقع، ويتتبعون الأحداث لإيجاد أرضية صالحة ينطلقون منها لتحقيق أهدافهم ومطلوبهم؛ ولهذا فمدار طرحهم وتنظيرهم – في هذه المرحلة – يتركز على:

الانتساب إلى الأسماء العامة

     الانتساب إلى الأسماء العامة؛ دون الاسم الخاص لمنهج سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في (المجموع 4/153) -عند الكلام على تستر أهل البدع بمذهب السلف-: بل الطوائف المشهورة بالبدعة، كالخوارج لا يدّعون أنهم على مذهب السلف، بل هؤلاء يكفرون جمهور السلف، وكذلك الخوارج قد كفروا عثمان، وعلياً، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين؛ فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟

فائدة:

     بل يضطر المؤمن المستضعف – في بلاد أهل البدع كبدع الخوارج وغيرهم – إلى كتم إيمانه واستنانه ومنهجه، يقول شيخ الإسلام في (المجموع 4/149): ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع؛ فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه، حين كانوا في دار الحرب.

تتبع أخطاء السلفيين

     تتبع أخطاء المنتسبين للسلف حتى في الأمور الاجتهادية: يقول شيخ الإسلام في (المجموع 4/155) -عند الكلام على أشهر الطوائف بالبدعة، وتركهم اتباع السلف-:  وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها، فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم: ضل به ضلالاً كبيرا.

أهل الحديث

     أهل الحديث عند الخوارج كالصائل يدفع بكل شيء: يقول شيخ الإسلام في (المجموع 20/160):  فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قبله. أ.هـ

تتبع أخطاء الحكام

تتبع أخطاء الحكام، وتهييج العامة عليهم، ثم الطعن فيهم وتكفيرهم.

الخوارج وساعة الصفر

     لم يقف شيخ الإسلام -رحمه الله- عند تحديد بدعة الخوارج وأصولها ومنشأ الغلط فيها ولوازمها فحسب؛ بل كشف عن مسائل هي أخفى من ذلك؛ تمثل المرحلة الفعليّة (العمليّة) الأخيرة عند الخوارج؛ فهم يوقّتون لخروجهم – زمناً ومكاناً – على أرضية جهادية – زعموا – بعناصر خروج متزاوجة ! تمهيداً لعرس شيطانهم:

أولاً: أرضية الخروج وتوقيته:

     لا بد أن يجد الخوارج على أرض الواقع (سبباً) أو (مسوِّغاً) لخروجهم، بعد أن مهدوا له، وتحزبوا عليه، وائتلفوا في خدمته؛ فالغالب أن الخوارج يخرجون عقب الفتن الكبار (!)، وقد كشف شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا التدرج (السياسي) الخفي؛ فقال في (المجموع  28/489) – عند الكلام على اشتمال مذاهب الغلاة على شر ما اشتملت عليه مذاهب الخوارج: ذلك لأن الخوارج كانوا أول أهل الأهواء خروجاً عن السنة والجماعة؛ مع وجود بقية الخلفاء الراشدين، وبقايا المهاجرين والأنصار، وظهور العلم والإيمان، والعدل في الأمة، وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة، وسلطان القدرة؛ حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة.

وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل؛ فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد –بل الحسنات – ذنوباً، وجعلوا الذنوب كفراً، ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر؛ لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.

إذاً؛ فهم يظهرون عند أمرين:

(أولهما): الملائمة بين تأويلاتهم البدعية وأحداث الواقع وفتنه.

(الثاني): مع قوة شوكتهم وكثرة عددهم.

ثانياً: عناصر الخروج:

تميّز الخوارج بالإمام والجماعة والدار: فجماعتهم قد فارقت جماعة المسلمين أولاً، وهم يوالون على بدعتهم ويعادون عليها ثانياً، ثم إن إمامهم هو المنازع لأئمة المسلمين.

أما دارهم فهي دار الهجرة والإيمان ودار المسلمين – عندهم – دار كفر وحرب.

متى يظهر شيطان الخوارج؟

     إذا تزوجتْ بدعةُ التكفير ببدعة الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم واشتغل العروسان بالعُرس، وبدأ الخوالف في إدارة مجامع الفتن؛ طاف طائف بينهم؛ ليقدم للمدعوين -الحماسيّين- ألواناً من الانحراف عن العقيدة والمنهج بحلية التصحيح والبيان، وعلى طبق مزخرف ظاهره الزهد والورع، وباطنه الخراب والدمار؛ وقد نصبت الخيام، وتزاور الخلان، وتحزب الأقران، وبُذلت الأموال، ووزعت الأدوار ظناً منهم أنها صولة الجهاد!

     ولكن هيهات؛ إنها صولة شيطان الخوارج عند غفلة أهل الحق وافتراقهم، قال شيخ الإسلام في (المجموع 19/89): فالطاعن في شيء من حكمه، أي: حكم النبي صلى الله عليه وسلم  وقسمه كالخوارج طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمين مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر، وعمر، وعثمان؛ فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه؛ وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا، وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب؛ كما ثبت في (الصحيح)، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» أ.هـ

     رحم الله -تعالى- شيخ الإسلام ابن تيمية، على ما كشف لنا من خفايا هذه البدعة، وأصولها ولوازمها؛ وأثرها الخطير على واقع الأمة، ولاسيما عند افتراقها وضعفها؛ فما أحوجنا جميعاً إلى كتبه، وكتب سائر علماء الأمة المحررين؛ لفهم قواعد الدين وأصول الشريعة، والله -تعالى- وحده الهادي في حال الفتن والاستضعاف إلى سواء السبيل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك