منهج التعامل مع أهل البدع بين الإفراط والتفريط
الناس في ذِكْر حسنات المبتدع، وعدم الاقتصار على ذمِّه وذِكْر سيئاته، بين غالٍ، وجافٍ، ووسَط؛ أما الغالي: فهو من يشترط أن المرء كلما ذَكَرَ سيئات المبتدع، وآثارَها في الناس، وحذَّرَ الناس من المخالف ومن طريقته؛ فيلزمه – من باب العدل والإنصاف عنده – أن يذكر حسنات هذا المخالف، وجهوده في نصرة الدين، ويذكر الجوانب المضيئة في سيرته، وإلا كان المحذر منه ظالمًا له، بعيدًا عن سبيل المنصفين! ويستدل على ذلك بأدلة وجوب لزوم العدل والإنصاف مع العدو والصديق، وغير ذلك.
وأما الجافي: فهو الذي يمنع ذِكْر أي حسنة للمبتدع، ويطلق هذا المنع دون استثناء، ويرى ذِكْر أي جُهدٍ مشكورٍ له، ما هو إلا تلميعٌ للمبتدع، وحَثٌّ للناس على الأخْذ عنه، وغِشٌّ وتضليل للأمة، وعمل بمنهج الموازنات المبتدَع، وذمٌّ للسلف وأتباعهم الذين أطلقوا ذم أهل البدع في كتبهم، ولم يُعَرِّجوا على شيء من حسناتهم، بل أسقطوا ذِكْرها، وكتموا نشْرها.
ويستدل هذا الصنف على ذلك بما سطّره الأئمة في كتبهم من ذمِّ أهل البدع، والتحذير منهم دون تفصيل، كما يستدل بأن ذِكْر حسنات المبتدعة يُسقط فائدة التحذير من مخالفاتهم، ...الخ.
وأما الوسط: فهم الذين اتبعوا منهج السلف من جوانبه جميعها، وعملوا بما قاله هؤلاء تارة، وبما قاله أولئك تارةً أخرى، وليس ذلك منهم على سبيل التشهِّي أو التخليط، ولكن أنزلوا كل حالة منزلها، بضوابطها وقيودها، واستعملوا المنع أو الجواز في حالات معلومة، فسلكوا خير المسالك، فلله دَرُّهُم، وعلى الله أجرهم.
بيان الحق
وقبل بيان الحق بين هذه الطوائف، فلابد من بيان أن الأصل الذي عليه السلف الصالح، وطفحتْ به كتبهم، ومؤلفاتهم، وأجوبتهم عن الأسئلة التي وجِّهتْ إليهم عمن عُرفوا بالبدع، والانتصار لها، ومخالفة الأدلة القطعية من كتاب وسنة وإجماع: أنهم يطلقون فيهم الذم والتحذير، دون ذِكْر حسناتهم؛ لأن ذلك يُفسد على السامع أو القارئ المراد من كلامهم في أهل البدع، وهو عدم الاغترار بعبادة بعضهم أو صلاحهم، أو حفظ وإتقان وذكاء بعضهم الآخر؛ فإن هذه الأوصاف الحميدة في بعض أهل البدع كالشراك والحبائل التي تُنْصَب، أو تُدْفَن لصَيْد الفريسة أو الضحية؛ فإن كثيرًا من الناس إذا رأوا اجتهاد رجل في عبادته، أو حُسْنَ سَمْته وهَدْيه، وطولَ ضَمْته، وتدبُّره؛ أو فرط ذكائه، أو جُودَه وكرمه، وكريم خُلُقه.. إلى غير ذلك فإنه لا يسأل عن سلامة عقيدته، وصفاء مَشْرَبِه، بل يغترف منه اغْترافًا دون تمييز، فيُدَسّ له السمُّ في العسل، بقصْد أو دون قصْد.
مجالسة أهل البدع
من أجل هذا صرَّح السلف بضرورة التحذير من مجالسة أهل البدع، ومنعوا من الأخْذ عنهم إلا بشروط، وحذَّروا من الاغترار بما عندهم من الخير، أو كثرة الأتباع، مقتدين في ذلك بتحذير النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الخوارج، مع وصْفه اجتهادهم في عبادتهم، لكن ذِكْر عبادتهم ورد في مقام عدم الاغترار بها، فذكر من أوصافهم للصحابة الكرام قوله: «تحقِّرون صلاتكم بصلاتهم، وصيامكم بصيامهم» ومع ذلك قال: «يمرُقون من الدين كما يمرُق السهمُ من الرَّمِيّة» وقال فيهم أيضًا: «لئن أدْركتُهم؛ لأقتلنّهم قتْل عادٍ وإرَم»، وقال فيهم: «كلاب أهل النار ».
المحذِّر من أهل البدع
والسلف أيضًا جعلوا المحذِّر من أهل البدع مجاهدًا في سبيل الله، قائمًا بفرض من فروض الكفايات العامة، التي يجب على بعض علماء المسلمين أن يقوموا بها، وإلا أَثِموا جميعا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ: مِثْلَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أَوْ يَكْذِبُونَ، كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ - أَظُنُّهُ - وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ لَا يَحْفَظُ؟ فَقَالُوا: بَيِّنْ أَمْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيَّ أَنْ أَقُول:َ فُلَانٌ كَذَا، وَفُلَانٌ كَذَا، فَقَالَ: إذَا سَكَتَّ أَنْتَ، وَسَكَتُّ أَنَا؛ فَمَتَى يَعْرَفُ الْجَاهِلُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ؟
أَئِمَّةِ الْبِدَعِ
وَمِثْل أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَقَالَ: إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، هَذَا أَفْضَلُ.
قال شيخ الاسلام -رحمه الله-: فَبَيَّنَ - أي الإمام أحمد -رحمه الله - أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِم، ْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ، وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّين، ُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً» اهـ من (مجموع الفتاوى) (٢٨ / ٢٣١-٢٣٢).
قلتُ: وإذا تقرّر هذا الأصلُ الأصيل من منهج السلف الصالح؛ فلا عليك بعد ذلك ممن يُحذر من ذم أهل البدع مطلقا، ويرى ذلك غِيبة وَوُلوغا في أعراض الأبرياء؛ فإن حرمة الشريعة مقدمة على حرمة حاملها إذا أخطأ على الشريعة.
ذكر حسنات أهل البدع
لكن يجب أن يُعْلم أن هناك حالاتِ تُذْكَر فيها بعض حسنات أهل البدع، إذا اقتضت الحاجة ذلك، ومن خلال تتبُّعِي لذلك من كلام أئمة السلف، ومن تبعهم من الأئمة في الانتصار للسنة، ودحض شبهات المبتدعة، تبيّن لي أن ذلك له حالات، منها:
الترجمة لرواة الأحاديث
- الحالة الأولى: الترجمة لرواة الأحاديث، وعلماء المذاهب، والفِرَق، ونحو ذلك، فالمترجِم من الأئمة يذكر ما للمترجَم وما عليه، وفي هذا الموضع يذكر ما يحتاج إليه المقام من حسنات ومواقف مشكورة للمترجَم، ولا يلزمه ذكر الحسنات كلها، من كونه يصلي ويصوم ويزكي ويحج، إلى غير ذلك مما لا نزاع فيه، ويشهد لذلك كتب التراجم المطوّلة، ففيها المئات أو الألوف من التراجم التي تدلّ على ذلك.
ذم المترجَم
- الحالة الثانية: في حالة وقوع المبالغة في ذم المترجَم بما ليس فيه، فيدافع المترجِم عن المترجَم، ويبين أنه ليس كذلك، ويشهد لهذا جواب الذهبي السابق على أبي إسماعيل الهروي، وذكر الحافظ الذهبي في (النبلاء) (٤٨١/١٧) يحيى بن عمار السجستاني، وقال: «وكان مُتَحرِّقًا على المبتدعة والجهمية؛ بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف، وقد جعل الله لكل شيء قدْرا» اهـ، ولذلك قال القرافي في (الفروق) (٤/ ٢٠٧-٢٠٨): «أرباب البدع والتصانيف المضلة ينبغي أن يُنْشَر للناس فسادُها وعَيْبُها، وأنهم على غير الصواب، ليحذرها الناس الضعفاء، فلا يقعوا فيها، ويُنَفَّروا عن تلك المفاسد ما أمكن، بشرط ألاّ يُتعدَّى فيها الصدق، ولا يُفْترى على أهلها الفواحش ما لم يفعلوه، بل يُقْتَصر على ما فيهم من المنفِّرات خاصة، فلا يُقال على المبتدع: إنه يشرب الخمر، ولا أنه يزني، ولا غير ذلك مما ليس فيه» اهـ.
المقارنة بين مبتدعين
- الحالة الثالثة: وكذا يذكرون حسنة المبتدع إذا كانوا في مقام المقارنة بين مبتدعين – سواءً كانت المقارنة بين فردين أو طائفتين – أحدهما بدعته أغلظ من بدعة الآخر، فيحتاج العالم في هذه الحالة إلى التفرقة بين البدعتين، أو أهلهما، دفْعًا للظلم، وإحقاقًا للحق.
قلتُ: وهناك مواضع كثيرة للعلماء يردون فيها قول من رمى مبتدعاً أو منحرفاً، بمقالة أشد من مقالته، فلا يقبل ذلك منه أهل السنة، ويعطون لكل شيء قدره من المدح أو القدح، انظر دفاع شيخ الإسلام عن ابن كُلاب في «تاريخ الإسلام» للذهبي، وفيات سنة (231 - 240) ص (428 - 429).
مبتدعة دمشق
وفي (مجموع الفتاوى) (٢١٨/٣) لم يستجيز شيخ الإسلام أن ينسب ما سمعه من مبتدعة دمشق إلى ابن مخلوف، مع كونه عدواً، فاجراً، لدودا، صب جام غضبه وحقده على شيخ الإسلام، ودافع شيخ الإسلام كما في (الرسائل والمسائل) (٤-٥ / ٧٤) عن الحكيم الترمذي، وانظر كلام أحمد في أصحاب ابن أبي نجيح القدرية، فمع إثبات بدعتهم، نفي عنهم أن يكونوا من أصحاب الكلام، انظر (العلل ومعرفة الرجال) (٢٦٠/٣)، ثم قال: وليس ثَمَّ كذب.ا.هـ.، وانظر دفاع الذهبي عن رابعة العدوية في (تاريخ الإسلام) وفيات سنة (١٧١-١٨٠ ) ص (١١٨-١١٩) على ما عندها من مخالفات، وانظر دفاع شيخ الإسلام عنها –أيضاً- في «مجموع الفتاوى» (٣١٠/٢) بل قد كذّب شيخ الإسلام كثيراً مما نُسب إلى الحلاج –وأمره مشهور في الضلالة، حتى كفّره من كفّره- انظر (الاستقامة) (١١٩/١) اهـ؛ فهذا كله من عدل أهل السنة مع مخالفيهم.
تقسيم أهل البدع
- الحالة الرابعة: كما يذكر العلماء بعض محاسن المبتدعة في حالة تقسيم أهل البدع، وبيان مراتب بدعهم، وحال المنتسبين إليها، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في (مجموع الفتاوى) (٣/ ٣٥٣-٣٥٤ ): «وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ، حَتَّى أَخْطَأَ مَا أَخْطَأَ مِنْ السُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا مُنَافِقٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ يَكُونُ بِهِ فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا، وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا مُتَأَوِّلًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ».
هذا ما أذكره من الحالات التي يذكر فيها العلماء بعض حسنات أهل البدع، التي يحتاج إلى ذكرها، وهذا إن دل فإنما يدل على عدلهم وإنصافهم، وعلمهم بالحق، ورحمتهم بالخلق، وفقههم لمقاصد الشريعة وكلياتها، ونظرتهم إلى الحال والمآل، ودقة إعمالهم لقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد.
لاتوجد تعليقات