منهج الإسلام في التربية النفسية للطفل (1)
إن البناء النفسي الوسط للطفل يؤهله لأن يكون إنسانًا سويًا، يقوم بتكاليف الحياة بجد ونشاط وأمل، وحسن ظن بالله -تعالى-، وصبر وجلد عند الشدائد، يحب الخير للناس، ويسعى في إيصاله إليهم، بعيدًا عن سوى ذلك من حقد أو غل أو حسد، أو أنانية أو عدوانية إلى آخر ذلك من أخلاق فاسدة محرمة؛ من أسبابها فقدان الطفل للعاطفة أو البناء النفسي الوسط.
التربية في الإسلام
تمتاز التربية في الإسلام بمنهج وسط يحقق الشخصية المؤمنة المتزنة، الملتزمة بدينها، والمصلحة لغيرها، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33)، قال الحسن البصري -رحمه الله-: «هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله»! قال ابن كثير -رحمه الله-: «هذه الآية عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بذلك» التفسير.
رجل الغد المشرق
ولكي يكون رجل الغد المشرق -إن شاء الله- بهذه المثابة التي يحبها الله -تعالى-، الذي هو غرض التربية، بل الغرض من هذا الوجود والزواج وإنجاب الذرية، وغيره..: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)؛ فلابد من هذا البناء النفسي الوسط دون إفراط يؤدي إلى تدليل بغيض، أو تفريط يؤدي إلى: عقد نفسية، وأمراض جسدية واجتماعية.
أولاً: الدفء الأسري
لابد أن يتقي الزوجان ربهما -تعالى- في معاملة كل منهما للآخر: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)، وقال -تعالى-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:228)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (رواه مسلم).
بعيدًا عن الأولاد
وإن كان من عتاب أو توجيه فليكن سرًا بعيدًا عن الأبناء، ولابد من كظم الغيظ، وليسَتَعَنْ على ذلك بما ورد فيه من فضل، قال -تعالى-: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» (متفق عليه)، وقال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَ-ّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
جو المودة والسرور
على الوالدين أن يشيعا في البيت جو الحب والسرور؛ ليكون محضنًا دافئًا للمولود الجديد ولأطفالهم، وليس صوابًا ما يظن بعض الآباء أنه لابد وأن يعبس أو يرتفع صوته بالأمر والنهي ليهابه أهل البيت؛ فقد يتحقق ذلك، لكن خسارته كبيرة، خسارة حبهم لك، وهروبهم منك، ودمارهم النفسي أو انحرافهم الذي يؤدي إلى عواقب وخيمة فيما بعد.
المحضن الدافئ
إن المحضن الدافئ الذي يشيع فيه الحب والسعادة بسبب طاعة الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، ينشئ الولد تنشئة نفسية صحيحة تقيه المشكلات النفسية والجسدية كالتبول اللاإرادي، والخوف، والقلق عند النوم، والتلعثم عند الحديث، والعدوانية وغير ذلك.
ثانيًا: الحنان والرحمة
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» (متفق عليه)، «أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ»: ما أجمله من تعبير، يحمل معاني كثيرة تبين أساس التربية النفسية لأولادنا.
رجال الصحابة
هذا الحنان الذي خرَّج لنا رجال الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين تحملوا نصرة الدين: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، الذين كان لأمهاتهم في قلوبهم شأن عجيب، وهل هذه المكانة إلا نتاج الرحمة والحنان والحب الذي غرسته الأم في قلوبهم؟!
نعم الحنان والحب والرحمة.. أيها الأبوان! ولنا في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب الأسوة الحسنة؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس بالعيال!
النبي - صلى الله عليه وسلم - والرحمة بالعيال
يقول أنس - رضي الله عنه -: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» (رواه مسلم)، وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا» (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي فَطَافَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ فَاحْتَبَى -«أي جلس على مقعدته وهو يشبك ذراعيه حول ركبتيه»- فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: (أَيْنَ لَكَاعٌ؟ ادْعُوا لِي لَكَاعًا). فَجَاءَ الْحَسَنُ، فَاشْتَدَّ حَتَّى وَثَبَ فِي حَبْوَتِهِ، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ثَلاثًا)». (رواه البخاري ومسلم، وأحمد واللفظ له)، واللكاع: هو الصغير قليل الجسم.
بكاء الصبي
وكان - صلى الله عليه وسلم - يرحم بكاء الصبي في الصلاة فيخففها؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاةً وَلا أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ» (متفق عليه)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأس الطفل وخده؛ فعن أنس قال: «كان يَزُورُ الأَنْصَارَ وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ، وَيَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ» (رواه النسائي في السنن الكبرى، وصححه الألباني).
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - وهو من أطفال الصحابة، قال: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الأُولَى -يعني: صلاة الظهر- ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا». قَالَ جَابِر: وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ» (رواه مسلم)، وجونة العطار: سُليلة مستديرة، مغشاة أدمًا يجعل فيها العطار عطره» اهـ من المنهاج النبوي ص315.
لَيْسَ مِنَّا
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ ومعه صبي، فجعل يضمه إليه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أترحمه؟». قال: نعم. قال: «فالله أرحم بك، منك به، وهو أرحم الراحمين» (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
اللبن مع الحنان
فعلى الأم أن تسقي ولدها مع اللبن الحنان والرحمة والحب بكثرة ضمه إلى صدرها عند إرضاعه وتقبيله وتربيِتَه «ربَّت الصبي: إذا ضربت بيدها على جنبه قليلاً قليلاً لينام»، يقول أحد الأطباء الإنجليز: «إن الرباط بين الطفل والأم إما أن يكون ركيزة الصحة النفسية أو يكون منطلقًا للمرض النفسي».
لاتوجد تعليقات