رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 15 يوليو، 2024 0 تعليق

منهج الأنبياء والرسل في الإصلاح

  • بتحقيق التوحيد الخالص يتحقق وعد الله بالاستخلاف في الأرض والتمكين ونشر الأمن بعد الخوف
  • الصلاح والإصلاح ضد الفساد وهي مصطلحات شرعية ربانيَّة أوْرَدَها الله تعالى في كتابه العزيز
  • العلاقة بين الصلاح والإصلاح أكيدة ولا ينفكان عن بعضهما بعضا فلا صلاح دون إصلاح ولا إصلاح دون صلاح
  • التوحيد الذي جاء به الأنبياء هو توحيد الألوهية وهو: توحيد الله بأفعال العباد وهي الدعاء والركوع والسجود والذبح والنذر والاستغاثة والاستعانة
 

إن من سنن الله -تعالى- في البشر أن أوجد فيهم المصلحين والمفسدين، وجعل الصراع بين الفريقين إلى آخر الزمان، وحين أخبر الله -تعالى- أنه مستخلِف بشرًا في الأرض خاف الملائكة من فساد البشر؛ فقال -تعالى- {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة: 30)، فأجابهم الله -تعالى- بقوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30)، وما يعلمه -سبحانه وتعالى- أن سعي المصلحين بالصلاح في الأرض فيه من المصالح ما يربو على فساد المفسدين، ويكفي المصلحين شرفًا وعزًّا أن الله -تعالى- نوّه بهم في أول خطابات خلق البشر، كما تدل هذه الآية على أهمية الإصلاح في الأرض، وأن كثرة المصلحين خير للبشرية، كما أن وجود المفسدين شؤم عليها.

       وتتابعت شرائع النبيين -عليهم السلام- تسعى بكل أنواع الإصلاح، وتحارب الفساد في كل مجالاته فقال -تعالى-: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (الأعراف: 56)، واجتمعت كلمة أنبياء الله -تعالى عليهم السلام- لأقوامهم على قولهم كما قال -تعالى-: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60). الصلاح مختص في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القران تارة بالفساد وتارة بالسيئة، قال -تعالى- {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (التوبة: 102)، وقال أيضا: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (الأعراف: 56)، والصلاح هنا يراد به أن يكون الإنسان صالحاً في ذاته، قد بدأ بنفسه فطهرها وهذبها وأقامها على الصراط؛ فأصبحت نفساً طيبة صالحة، يقول الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى-: «فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات».

تعريف الإصلاح

        يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- بعدما وضّح واجب المسلم تجاه نفسه بتهذيبها، شرع في بيان معنى الإصلاح فقال: «ثم يعلم ذلك أي الذي قام بتهذيب نفسه وصلاحه ثم أهل بيته، ويتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده، ثم إلى أهل السواد المكثف، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم»، وبتوافر عنصري الصلاح في النفس والإصلاح للنفس، يتحقق للإنسان اكتمال فضيلة أخلاقية قرآنية ذات شقين، يكمل أحدهما الأخرى وهي (الصلاح والإصلاح).

 العلاقة بين الصلاح والإصلاح

        والعلاقة بين الصلاح والإصلاح أكيدة، ولا ينفكان عن بعضهما بعضا، وإلاّ فما الفائدة من الصالحين؟ فالإصلاح قوام بقاء المجتمع وخيريته، لكن لا تنفك علاقته عن الصلاح، فلا صلاح دون إصلاح، ولا إصلاح دون صلاح، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11). وقد ورد في الأثر رَوى سُفيان بن عيينة عن سُفيان بن سعيد عن مِسْعَر قال: بَلَغَنِي أنَّ مَلَكًا أُمِر أن يَخْسِف بِقَرْيَة، فقال: يا رَبّ فيها فُلان العَابِد، فأوْحَى الله -تعالى- إليه أن بِـه فَابْـدَأ، فإنه لَم يَتَمَعَّر وَجْهُه فيَّ سَاعَة قَط، وقال مالك بن دينار: إن الله -عز وجل- أمَرَ بِقَرْيَة أن تُعَذَّب، فَضَجَّتِ الْمَلائكَة، قالت: إنَّ فِيهم عَبدك فُلانا. قال: «أسْمِعُونِي ضَجِيجَه، فإنَّ وَجْهَه لَم يَتَمَعَّر غَضَبًا لِمَحَارِمِي» (هو صالح في نفسه لكنه ليس مصلحا). فإن الأمم المنتصرة على أعدائها، أمم حققت نصراً داخلياً أولاً، وحقق كل واحد من أبنائها نصراً على الصعيد الشخصي من خلال تغييره ما في نفسه.

الاهتمام بإصلاح الدنيا

         إن الاهتمام بإصلاح الدنيا من شيمة المؤمن: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105)، ومهمة الصالحين هي العناية بالأرض والعمل على استقامة الحياة البشرية، وأن يكون زمامها بيد الصالحين المصلحين، وكما يكونون ورثة (الفردوس) في الآخرة، لابد وأن يكونوا ورثة الأرض، فهل من الممكن أن يكونوا وارثين مكفوفي الأيدي؟

الصلاح والإصلاح ضد الفساد

        والصلاح والإصلاح: ضد الفساد ونقيضه، وهي مصطلحات شرعية ربانيَّة، أوْرَدَها الله -تعالى- في كتابه المحكَم العزيز، وجاءتْ في القرآن على نحو كبيرٍ يربو على السبعين بعد المائة من آيات القرآن، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قال -تعالى-: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 39)، ويقول -تعالى-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 146)، ويقول -تعالى-: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 119) وقال -تعالى- في النهي عن الفساد في الأرض قوله -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11)، وقال -تعالى- في الإصلاح بين المتخاصمين أو المتنازعين في الأمر، كما قال -تعالى-: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)، وقال -تعالى-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128). وقال -تعالى- أيضًا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال:1)، وقال -تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات:9)، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10).

الإصلاح الشامل ضرورة مُلحَّة

        وواقع المسلمين اليوم يُنبئ عن وجود حاجةٍ وضرورة ماسَّة وملحَّة إلى الإصلاح الشامل؛ حيث تتجاذب الاتجاهات والأفكار، وغيرها إلى ميدان الإصلاح، وكل اتجاه يحسب أنه المصلح لهذه الأمة، ولكي نصلح من حال أمتنا لابد من التعرف على منهج الأنبياء والرسل في الإصلاح في ضوء القرآن الكريم.

منهج الأنبياء والرسل  في الإصلاح

         وإذا أردنا النهوض بأمتنا إلى بر الأمان وإنقاذها مما هي فيه من الهوان؛ فعلينا أن نستوعب منهج الأنبياء والرسل في الإصلاح، وكيف دعوا أقوامهم إلى الفلاح بعد أن كانوا مختلفين، وعن الحقيقة متفرقين، كما قال الله -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة:213). أي كانوا أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «قال ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين»، وقال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 165)؛ لذا كان منهج الأنبياء يتثمل في المحاور الآتية:

تحقيق التوحيد الخالص

         لكي يتحقق وعد الله بالاستخلاف في الأرض، والتمكين ونشر الأمن بعد الخوف، لابد من تحقيق التوحيد الخالص، كما قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55)، ولقد بعث الله الأنبياء لمهمة واحدة، هي عبادة الله وحده لا شريك له، كما جاء في كتاب الله -تعالى: 1 - نوح -عليه الصلاة والسلام- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59) 2 - هود -عليه الصلاة والسلام-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الأعراف: 65). 3 - صالح -عليه الصلاة والسلام-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73). 4 - إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 16). 5 - شعيب -عليه الصلاة والسلام- {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85). 6 - موسى -عليه الصلاة والسلام- {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (طه: 98). 7 - عيسى -عليه الصلاة والسلام- {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آل عمران: 51) 8 - محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (فصلت: 6). ويجب على المسلم أن يفرق بين توحيد الأنبياء وتوحيد المشركين، فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء هو توحيد الألوهية، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، وأفعال العباد هي: الدعاء والركوع والسجود والذبح والنذر والاستغاثة والاستعانة.  

تحقيق التوحيد الذي جاء به الأنبياء

        توحيد الألوهية، وهو ألا ندعو إلا الله، ولا نركع إلا لله، ولا نسجد إلا لله، ولا نذبح إلا لله، ولا نستغيث إلا بالله، ولا نستعين إلا بالله، فمن حقق هذا التوحيد فقد حقق التوحيد الذي جاء به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163)، أما التوحيد الذي آمن به المشركون ولم يُدخلهم في الإسلام فهو توحيد الربوبية، أي: توحيد الله بأفعاله، وأفعال الله هي: الخلق والرزق وتدبير الأمور والإحياء والإماتة. وهذا التوحيد لا يدخل به المرء في الإسلام، ولا ينفعه يوم القيامة، إلا إذا آمن بتوحيد الأنبياء؛ لأن مشركي العرب كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، كما قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31)

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك