منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أخطاء العلماء
الخطأ من صفات البشرية؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون» حَسَّنَه شيخنا الألباني – رحمه الله - في (صحيح الترمذي) برقم (2499) و (صحيح ابن ماجه) برقم (4251) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
وقد قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في (الصواعق المرسلة) (2/519): «ووقوع الاختلاف بين الناس أَمْرٌ ضروري لا بُدَّ منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقُوَى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض وعدوانُهُ، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قَصْدُه طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة؛ لم يَكَدْ يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصل الذي بَنَوْا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقَصْدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورَأْيٍ وقياس وذَوْقٍ وسياسة» اهـ.
لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس في الأمة أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، ويهديه ربه إلى سواء الصراط، وكذلك إجماع مجتهدي الأمة، الذي عصمه الله – عز وجل – من الضلالة، وجَعَله تَكْرُمَة لهذه الأمة الإسلامية دون الأمم السابقة، وما دون ذلك؛ فيُؤخذ من قوله ويُرَدّ، لكن المخطئين والمخالفين للحق ليسوا على درجة واحدة، فهم أقسام:
أصول أهل السنة والجماعة
- القسم الأول: من كانت أصوله ومرجعياته وقواعده التي يحتكم إليها هي أصل أهل السنة والجماعة، وكان من أهل العلم الأفاضل؛ وممن يؤثر الحق على الخلْق، واجتهد - فيما يسوغ فيه الاجتهاد - فأخطأ فيما يخطئ فيه العلماء، مع حُسْن قصْده، وشدة تحرِّيه واتباعه الحق، ونصرته بالأدلة النقلية والعقلية، وكثرة صوابه؛ فأهل هذا القسم لا يُتَّبَعون على أخطائهم، ويجب بيان الحق فيما خالفوا فيه، مع الإبقاء على حُرْمتهم، والحفاظ على حِشْمتهم؛ لما أوجب الله – عز وجل – لهم من حقوق على الأمة؛ فإنهم ورثة الأنبياء – عليهم السلام - ومصابيح الْهُدَى، وقناديل الدُّجى، وبقاؤهم أمان لأهل الأرض، ورحمة لهم من الفتن والمدلهمات، وإذا سقطتْ هيبتهم، وتجرأ السفهاء عليهم؛ فلن يوجد قائم لله بحُجَجِه على العباد، ولا خير في أمة ينال سفهاؤها من فضلائها، أو يتمرد عوامها على علمائها!!! وهذا القسم كاختلاف الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم من أئمة السنة في مسائل الفروع الاجتهادية، وقد ذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله – أمثلة كثيرة لذلك في (الصواعق المرسلة) (2/516-519)، وبهذا الموقف نحقق مصلحتين:
- الأولى: إظهار الحق، والتحذير من اتباع الخطأ، وفي هذا صيانة للشريعة من الاندثار أو التحريف عبر التاريخ.
- الثانية: الإبقاء على مكانة العلماء في الأمة، حتى لا تَسْقُطَ هيبتهم، ويزهد الناس فيهم؛ فيسقط العلم الذي يحملونه؛ فتندثر معالم الشريعة، ويترأَّس الجهلة، ويتصدّر الأصاغر؛ فتَخْطُب الدجاجلة من فوق المنابر، وعند ذاك فعلى الإسلام السلام، وما بقي إلا انتظار الساعة، وظهور الفتن العِظام، والساعة أَدْهَى وأَمَرُّ.
من كان معارضًا لأصول أهل السنة
- القسم الثاني: وهو المقابل للقسم الأول، وهو صُدور الخطأ ممن كان معرضًا عن منهج أهل السنة، محاربًا له، صادًّا عنه، ويسلك قواعد أهل الزيغ، وأصول الفرق الضالة، وينتمي لأهل البدع الكبار، ويُلقي الشبهات على عوام المسلمين، فيزعزع إيمانهم، ويلقي في قلوبهم الشكَّ والوهَن؛ فهذا يجب التحذير منه، ومن منهجه الذي يسلكه، ويتعين إسقاط هيبته ومكانته في الأمة، حتى لا يغتر أحد به؛ فيتبعه على ضلالته، وينافح عن شبهاته، وفي هذا المسلك صيانة للشريعة – أيضًا - من أن يفسدها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
الفرق بين القسمين
وفَرْق بين التحذير من أهل هذا القسم، والتشريد بهم مَنْ خَلْفَهُم، وبين قبول الحق – وإن قلَّ – إذا جاء منهم، وعدم ظلمهم، ورميهم بما ليس فيهم؛ فالأول واجب، والافتراء عليهم – بل على الكفار - بما ليس فيهم حرام يُغْضِبُ الله – عز وجل – وقد قال -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
من كانت أصوله سُنّية
- القسم الثالث: وهو ما بين القسمين السابقين، ممن كانت أصوله - في الجملة- سُنّية، وينتمي لأهل السنة والجماعة في الجملة، ويجاهر ببراءته من البدعة وأهلها، لكنه في الواقع قد دَخَلَتْ عليه بعضُ شبهات أهل البدع، وتأثر بها؛ إما لأنه قد نشأ بين أهل البدع، وسلك مسلكهم من بداية أمره، وامتلأ بشبهاتهم، ثم تاب إلى الله – جلّ وعلا - لكنه لم يستطع أن يتخلص من كل ما عليه أهل البدع، أو لأنه جالَسَ بعض أهل البدع، أو نظر في كتبهم؛ فتأثر ببعض كلامهم، لقلّة علمه، أو لضعف تحقيقه؛ أو لأنه عاش في مجتمع تغلب عليه بعض مقالات أهل البدع؛ فتأثر بها، لكثرة سماعها منهم، أو لدخول بعض الأفاضل عنده فيها؛ فقلّدهم ثقةً فيهم، أو نحو ذلك.
ففي حال هؤلاء كَثُرَ الاختلاف؛ فمن الناس من ينظر إلى أصل حالهم، وهو السنة؛ فيحسن الظن بهم وبما يذهبون إليه، ولا ينظر إلى أخطائهم ومخالفاتهم، وهذا فيه تفريط، ومنهم من ينظر إلى أخطائهم، ويسقطهم بسببها؛ فيطلق التشنيع عليهم، ويعاملهم معاملة القسم الثاني، وربما أشد، وهذا فيه إفراط، ومنهم من يقبل الحق منهم إذا لاحَتْ دلائله، ولا يغتر بهم فيما جانبوا فيه الصواب، فيرد خطأهم، ويبين السبب الذي زَلَّتْ به أقدامهم، وضلّت به أفهامهم، وهذا هو الوسط والعدل.
التمييز بين الصواب والخطأ
لكن يجب أن يُعْلَم: أن الذين يتمكنون من تمييز الصواب والخطأ في الناس قليل، لاسيما إذا كان الخطأ قد صَدَر من رجل له قدَمُ صِدْق في نصرة الإسلام؛ فَيَنْدُر جدًّا تمييز ما أخطأ فيه، إلا لعالم نحرير، ورجل متمرِّس بصير، فلا بأس – في حق هذا الصنف الذي يتمكن من التمييز – أن يجالس أصحاب هذا القسم، أو ينظر في كتبهم، إذا كان لذلك حاجة شرعية، كأخْذ عِلْم منهم، أو جهاد الكفار معهم، ونحو ذلك، وإلا فلا يَعْدِلُ بالسلامة شيئًا، وهذا كما قال الإمام سفيان بن سعيد الثوري لما سأله بعضهم عن الأخذ عن ثَوْر بن يزيد الكلاعي، وهو ثقة ثبت في الحديث، لكنه رُمي بالقَدَر؛ فقال مقالته التي تمثّل منهجًا في هذا المقام: «خُذُو عن ثَوْر، واتَّقُوا قَرْنَيْه»، أي: خُذُوا عنه العلم أو الحديث الذي هو متقن له، بما لا يؤيّد بدعته، لكن احذروا بدعته ومقالته في القَدَر، وشبّه البدعة بقرني الثور الذي ينطح بهما غيره.
ذوي التمييز
وهذا الصنف من ذوي التمييز بعد بلوغهم هذه الأهلية، لا يُخشى عليهم اختلاطهم بغيرهم، كما لا يُخْشى على ضالة الإبل؛ لأن معها سِقاءها وحِذاءها، تَرِدُ الماء وتَرْعَى الشجر؛ فذَرْها حتى يلْقاها ربُّها – أي حتى يجدها صاحبها ومالكها؛ إذْ لا خوف عليها من الهلكة.
من لم يقدر على التمييز
أما من لم يَبْلُغ هذه المنزلة التي تؤهله للتمييز، ولم يكن لاقترابه من هذا القسم حاجة شرعية؛ فإنه يجب عليه أن ينأى بنفسه عن مُجالستهم، أو مُناظرتهم، بل يفرّ منهم فراره من الأسد؛ فإن لم يبالِ بنصوص العلماء في التحذير من مخالطتهم؛ فإنه لا يكاد يَسْلَم، وحاله حينئذ كحال ضالّة الغنم: هي لَكَ، أو لأخيك، أو للذئب، أي هي هالكة هالكة، لا أمل في نجاتها، ورجوعها إلى مولاها؛ فخُذْها قبل أن يأكلها الذئب أو غيره.
العارف بحالهم
لكن مع هذا كلّه؛ فالعارف بحالهم، أو المقلِّد لمن عَرَفَ حالهم، وقد أصبح المقلَّد المتبوع أهلاً؛ لأن يقلِّده العامة في هذا يَقْتَصِر على ردّ خطئهم، وكَشْف عَوَاره، وبيان كيف دخل الخطأ عليهم، والتحذير منه دون محاولة إسقاطهم بالكلية؛ لأن كثيرًا من علماء الأمة، ومن ذاع صيتهم في بلدانهم، وردُّوا على أهل البدع الكبار بالأدلة والبراهين، ولهم مكانة في قلوب الناس، وجرى على أيديهم النفع لطوائف من المسلمين، لا يكادون يَسْلمون من هذا الخطأ، وهم من أهل هذا القسم الثالث؛ فلو أسقطناهم بالكلية لوجود تلك الأخطاء والمخالفات عندهم؛ لضاع خير كثير على الأمة، ولذهبت كثير من العلوم والمعارف، والأمثلة على هذا كثيرة، والصفاء عزيز، والله المستعان.
تقسيم عام
وهذا تقسيم عام في الجملة، تجب مراعاته، لكن من كان في قلبه هوى، أو تقليد أعمى؛ فإنه سَيَحْشُر كل مخالفيه في القسم الثاني أهل البدع الكبار، ولو خجل من ذلك، وتنازل في حقهم، وعُدَّ مُفرِّطًا ومُميِّعا في نظر الغلاة من أصحابه؛ فإنه سيدخلهم في القسم الثالث، ويحتج بكلام من أسقطهم من العلماء، وإن كان إطلاق قوله مخالفًا للصواب، وبوابة لإسقاط جُلِّ العلماء من التابعين وأتباعهم في القرون المفضلة وما بعدها، وفي هذا جناية على الإسلام، لا يُغَطِّيها ذَيْل، ولا يَسْتُرها لَيْل، إلا أن الذي أوقعه في ذلك: أَخْذُ إطلاقات وظواهر كلام بعض العلماء دون مراعاة الأسباب التي حَمَلَتْ بعضهم على إطلاق التحذير من أهل هذا القسم، ودون الرجوع إلى السياق واللحاق لكلامهم، ودون الرجوع إلى كيفية السؤال الذي وُجِّه إليهم، فأجابوا عنه بالتحذير من المسؤول عنهم، ودون معرفة الفرق بين الفتاوى التي يُراد بها الإطلاق، والأخرى التي تُنَزّل على الأعيان، ودون مراعاة قاعدة استيفاء الشروط في الأعيان، وانتفاء الموانع عنهم، إلى غير ذلك مما يتعين على المنصف أن يراعيه، ويرجع إليه؛ فنسأل الله طهارة القلوب من سوء القصد والغِلّ على أحد من المؤمنين، وسلامة العقول من سوء الفهم.
وأصل المشكلة عند كثير ممن ينتسب إلى العلم، أنه لا يُفَرِّق بين التحذير من اتباع أحد العلماء على خطئه، وبين عدم إسقاطه وإهداره، لينتفع به الناس في جوانب أخرى أحْسن فيها وأجاد!! وللحديث بقية إن شاء الله.
لاتوجد تعليقات