منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أخطاء العلماء
ذكرنا في الحلقة السابقة أن الخطأ من صفات البشرية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون» حَسَّنَه شيخنا الألباني -رحمه الله- في (صحيح الترمذي، برقم: 2499، وصحيح ابن ماجه، برقم: 4251)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وذكرنا أن وقوع الاختلاف بين الناس أَمْرٌ ضروري لابُدَّ منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقُوَى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض، كما ذكرنا أن المخطئين والمخالفين للحق ليسوا على درجة واحدة، وذكرنا أقسامهم، واليوم نذكر أقوال بعض أهل العلم التي تدل على أنه لا يلزم من ردِّ الخطأ على صاحبه إسقاطه بالكلية، وردّ ما عنده من الحق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في (مجموع الفتاوى 11/15-16): «ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا عَلِمَ من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته، وإذا عَلِمَ منه ما يُبْغِضه، أبغضه مطلقًا، وأعرض عن حسناته، وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع...».اهـ.
مخالفة لمنهج أهل السنة
قلت: فهذا يدل على أن إهدار المخالف بالكلية، وعدم قبول الحق منه لوجود سيئات عنده مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، وموافق لمنهج أهل البدع والأهواء، ولا يلزم من ذلك وجوب ذِكْر حسنات المخالف دائمًا، إنما لذلك حالات معينة، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم. وانظر (مجموع الفتاوى (10/366) والاستقامة 1/221)،
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في (مدارج السالكين 2/39-40) - وقد أشار لشطحات بعض المخالفين-، وهذه الشطحات أوجبتْ فتنةً على طائفتين من الناس:
- إحداهما: حُجِبتْ بها عن محاسن هذه الطائفة، ولُطْف نفوسهم، وصِدْقِ معاملاتهم؛ فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقًا، وهذا عُدْوان وإِسْراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غَلِطَ، تُرك جملةً، وأُهْدِرَتْ محاسنه، لفسدتِ العلوم والصناعات والحِكَم، وتَعَطَّلَتْ معالِمُها، ثم ذكر -رحمه الله- الطائفة المضادة لما سبق، وسماهم معتدين مُفَرِّطين، ثم قال:
- والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف، الذين أَعْطَوْا كلَّ ذي حَقٍّ حقَّه، وأنزلوا كل ذي مَنْـزلة منـزلتَهُ؛ فلم يحكموا للصحيح بحُكْم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحُكْم الصحيح، بل قَبِلُوا ما يُقْبَلُ، وردُّوا ما يُرَدُّ.اهـ.
الكامل مَنْ عُدَّ خطؤه
وقال – أيضًا - في (مدارج السالكين 1/198) في سياق ذِكر ما أُخِذَ على أبي إسماعيل الهروي - رحمه الله - حتى رماه بعضهم بقول الحلولية والاتحادية الضالين؛ فقال: «ولا تُوجِبُ هذه الزلةُ من شيخ الإسلام إِهْدارَ محاسنه، وإساءةَ الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك، المحلُّ الذي لا يُجْهَل، وكل أحد فَمَأْخُوذ من قوله ومَتْرُوك، إلا المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه- والكامل مَنْ عُدَّ خطؤه، ولاسيما في مثل هذا المجال الضَّنْك، والمعترك الصعْب، الذي زَلَّتْ فيه أقدام، وضَلَّتْ فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأَشْرَفُوا -إلا أقلهم- على أودية المهلكات، وكيف لا، وهو البحر الذي تجري سفينة راكبه في موج كالجبال، والمعترك الذي تضاءلت لِشُهُوده شجاعة الأبطال، وتحيرت فيه عقول ألبّاء الرجال، ووصلت الخليقة إلى ساحله يبغون رَكُوبه ...» إلخ ما قال -رحمه الله- من كلام نفيس؛ فارجع إليه -إن شئت.
أهل الحلول والاتحاد
هذا مع أن الهروي – رحمه الله – تكلم بكلام طمع فيه من أجله أهل الحلول والاتحاد، بل أقسموا بالله إنه لمنهم، وما هو منهم، فأين هذا من أخطاء من يفتري عليه اليوم غلاةُ الجرح والتعديل، والهجر والتضليل؟ مع أن بعض هؤلاء المفترى عليهم أغزر منهم علمًا، وأكثر منهم حلمًا ونفعًا وفهما!
معرفة فضل أئمة الإسلام
وقال – رحمه الله - في (إعلام الموقعين 3/283): “الثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام، ومقاديرهم، وحقوقهم، ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله، لا يُوجِب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خَفِيَ عليهم فيها ما جاء به الرسول؛ فقالوا بِمَبْلَغ عِلْمِهم، والحقُّ في خلافها، لا يُوجِبُ اطِّراحَ أقوالهم جملة، وتنقُّصَهُمْ، والوقيعةَ فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصْد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤَثِّم ولا نُعَصِّم. ومَنْ له عِلْم بالشرع والواقع يَعْلَم قطعًا أن الرجل الجليل، الذي له في الإسلام قَدَمٌ صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوز أن تُهْدَرَ مكانته وإمامته ومنـزلته من قلوب المسلمين.اهـ.
فتأمل أيها المنصف هذا الكلام الرائق الصافي، الذي يروي الغليل، ويشفي العليل، والذي قد حُرِمَهُ أهل الجهل والتجهيل!!! وقد قال الشاطبي – رحمه الله - في (الموافقات 4/170-171): «إن زلة العالم، لا يَصِحُّ اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليدًا له،كما أنه لا ينبغي أن يُنْسَب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يُشنَّع عليه بها، ولا يُنْتَقَص من أَجْلها، أو يُعْتَقَد فيه الإقدام على المخالفة بَحْتًا؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين».اهـ.
غض الطرف
وقال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله - في (قمع المعاند، ص475): «وشَخْصٌ سُنِّيٌّ، ولو أخطأ، لابد أن يُغَضَّ الطرف عنه، والحمد لله، وأما الرجوع إلى الحق ففضيلة، والحمد لله الذي وفقني لذلك».اهـ.
ليس كل إنكار مأمون
ويقال في هذا أيضًا: ما قيل في كلام الشيخ عبداللطيف- رحمه الله- وانظر (فضائح ونصائح، ص146)؛ فليس المراد أن نقبل الخطأ منه، لمكانته الرفيعة بين أهل السنة، ولكن ليس كل إنكار، ومن أي شخص، وبأي أسلوب، وفي أي وقت، ومع كل ظَرْف يكون نافعًا، أو مأمون العاقبة!!
مسائل الاعتقاد
وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ - حفظه الله تعالى- في شريط (الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء) الوجه (ب): أيضًا، إذا كانت المسألة متعلقة بالعقائد، أو كانت المسألة متعلقة بعالم من أهل العلم في الفتوى في شأنه، في أمر من الأمور؛ فإنه هنا يجب النظر فيما يَؤُولُ إليه الأمر من المصالح ودفع المفاسد؛ ولهذا ترى أئمة الدعوة - رحمهم الله تعالى- من وقت الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف بن حسن - أحد الأئمة المشهورين- والشيخ محمد بن إبراهيم، إذا كان الأمر متعلقًا بعالم، أو بإمام، أو بمن له أثر في السنة فإنهم يتورَّعُون، ويَبْتَعِدُون عن الدخول في ذلك.
الشيخ صِدِّيق حسن خان
الشيخ صِدِّيق حسن خان القِنَّوْجيّ الهندي: المعروف، عند علمائنا له شأن، ويقدِّرون كتابه (الدين الخالص)، مع أنه نَقَدَ الدعوة في أكثر من كتاب له، لكن يغضّون النظر عن ذلك، ولا يُصَعِّدون هذا، لأجل الانتفاع بأصل الشيء، وهو تحقيق التوحيد، ودرء الشرك.
الإمام الصنعاني
- المثال الثاني: الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني: المعروف، صاحب كتاب (سبل السلام) وغيره، له كتاب (تطهير الاعتقاد)، وله جهود كبيرة في رد الناس إلى السنة، والبُعْدِ عن التقليد المذموم، والتعصب، وعن البدع، لكنْ زَلَّ في بعض المسائل، ومنها ما يُنْسَبُ إليه في قصيدته المشهورة، لما أثنى على الدعوة، قيل: إنه رجع عن قصيدته تلك بأخرى، يقول فيها: رجعت عن القول الذي قلتُ في النجدي، يعني: محمد بن عبدالوهاب النجدي، ويأخذ هذه القصيدة أرباب البدع، وهي تُنسب له، وتُنسب لابنه إبراهيم، وينشرونها على أن الصنعاني كان مؤيدًا للدعوة، لكنه رجع.
الشوكاني والتوسل
والشوكاني أيضًا - رحمه الله تعالى-: مقامه أيضًا معروف، كان له اجتهاد خطأ في التوسل، وله اجتهاد خطأ في الصفات، وتفسيره في بعض الآيات له تأويل، وله كلام في عمر رضي الله عنه ليس بالجيد، و له كلام -أيضًا- في معاوية رضي الله عنه ليس بالجيد، لكن العلماء لا يَذْكُرون ذلك، وألَّف الشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله- كتاب (تبرئة الشيخين الإمامين)، يعني: بهما الإمام الصنعاني والإمام الشوكاني، لماذا فعل ذلك؟؛ لأن الأصل الذي يَبْنِي عليه هؤلاء العلماء هو السنة؛ فهؤلاء ما خالفونا في أصل الاعتقاد، وما خالفونا في التوحيد، ولا خالفونا في نصرة السنة، ولا خالفونا في رد البدع، وإنما اجتهدوا؛ فأخطؤوا في مسائل، والعالم لا يتبع بزلته -كذا، ولعله لا يُتَتَبَّع بزلته: أي: يفضح بزلته- كما أنه لا يُتَّبَع في زلته- أي: لا يُقتدى به فيها - فهذه تُتْرَك ويُسْكَت عنها، ويُنشَر الحق، ويُنْشَر من كلامه مما يُؤَيَّد به.
ابن خزيمة والصورة
وعلماء السنة لما زلّ ابن خزيمة -رحمه الله- في مسألة الصورة، كما هو معلوم، ونفى صفة الصورة لله -جل وعلا- ردّ عليه ابن تيمية -رحمه الله- في أكثر من مائة صفحة، مع ذلك علماء السنة يقولون عن ابن خزيمة: إنه إمام الأئمة، ولا يرضون أن أحدًا يطعن في ابن خزيمة؛ لأن كتاب (التوحيد)، الذي ملأه بالدفاع عن التوحيد لله رب العالمين، وبإثبات أنواع الكمالات لله - جل وعلا - في أسمائه ونعوته -جل جلاله- وتقدست أسماؤه، والذهبي -رحمه الله- في (سير أعلام النبلاء)، قال: «وزل ابن خزيمة في هذه المسألة».
لاتوجد تعليقات