رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 30 أبريل، 2018 0 تعليق

منهج أهل السنة في توحيد الأمة (1)

  قال الله -تعالى-: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، لا شك أن كلُّ مسلم يتطلَّع غاية التَّطلُّع إلى تحقيق هذا المطلَب الجليل وهذا الهدف العظيم, وهو: توحيدُ كلمة المسلمين وجمعُ صفِّهم ولمُّ شعَثِهم وجمعهم على كلمةٍ سواء، لا شكَّ أنَّ كلَّ مسلم يتطلَّع إلى تحقيق هذا الأمر وإلى القيام به، وفي صدد القيام بهذا المطلب نجد في السَّاحة حلولًا كثيرة، وآراءً متفرِّقة، واتِّجاهات متباينة في تحديد العلاج النَّاجع والسَّبيل الأقوم في جمع كلمة المسلمين ولمِّ صفِّهم وجمع شتاتهم.

     هناك حلول كثيرة، لكنَّ المسلم اللَّبيب، المسلم الفَطِن يعيد كلَّ أمر - ومنه هذا الأمر - إلى كتاب الله وإلى سُنَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فهما الفَيصل وهما المعوَّل وإليهما المرجِع في كلِّ أمر، هكذا ينبغي أن يكون المسلِم، يرد مواطنَ النِّزاع وأمورَ الخلاف ومسائلَه إلى كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ففيهما الشِّفاء وفيهما الغَناء، ولا يجوز لأحدٍ كائنًا من كان أن يُدلي برأي أو يتخرَّص تخرُّصًا أو يأتي بظنٍّ أمام الحجج البيِّنة والدَّلائل النَّيِّرة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

ندور مع السُّنَّة حيث دارَت

     إنَّ جمع كلمة المسلمين، وتوحيدَ صفِّهم، وتحذيرَهم من التَّفرُّق والاختلاف جاء بيانه مفصَّلًا غاية البيان وأحسنَه وأوضحَه في كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا مَعْدِل لأهل السُّنَّة أهل الحقِّ والاستقامة عمَّا جاء في كتاب الله وسُّنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهم يدورون معهما حيث دارا نفيًا أو إثباتًا، كما قال الإمام الأوزاعيُّ -رحمه الله-: «ندور مع السُّنَّة؛ حيث دارَت» هؤلاء هم أهل السُّنَّة حقًّا وأنصارها صدقًا، يدورون مع السُّنَّة حيث دارت؛ فما جاء في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أقاموه وأتوا به على التَّمام والكمال، وما لم يكُن فيهما تركوه وحَذِروا منه غاية الحَذر، هذا شأن أهل السُّنَّة والجماعة أهل الحقِّ الَّذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّصرة والنَّجاة؛ فينبغي - إخواني – عندما نريد حلًّا لهذه المشكلة أو هذه المعضلة، وهي الفُرقة الَّتي تقع ووقعت بين المسلمين ألَّا نتطلَّب حلولًا لها من غير كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أمرٌ قدره الله

     إنَّ وقوعَ الفُرقة والاختِلاف أمراً قدَّره الله -تبارك وتعالى- كونًا وقدرًا، وإن كان لم يَرْضه -تبارك وتعالى- شرعًا ودينًا، قدَّره كونًا وقدرًا وقد أخبر به الصَّادق المصدوق -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأنَّه سيقع قبل أن يقع؛ فقد قال في الحديث الصَّحيح الثَّابت: «وَإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، هذا إخبار من الصَّادق المصدوق الَّذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ التَّفرُّق سيحصل وأنَّ الله -تبارك وتعالى-أراده كونًا وقدرًا؛ فهو سيقع ولابدَّ طبقًا لما أخبر به -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهكذا في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا»، والله -تبارك وتعالى-يقول:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود:118)، هذا أمرٌ قدَّره الله -تبارك وتعالى- وأراده كونًا وقدرًا لكن لم يرضَه شرعًا ودينًا، عندما تقرأ القرآن الكريم كتاب الله -تبارك وتعالى- وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تجد فيهما النُّصوص الكثيرة والأدلَّة الوفيرة المحذِّرة من الشِّقاق والفُرقة والتَّدابر والتَّطاحن والتَّباغض ونحو ذلك؛ فإذا كنَّا قد علِمنا من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممَّا نراه في واقع المنتسبين إلى الإسلام وهو حصول الفرقة وحصول الاختلاف وحصول الآراء والمذاهب المتعدِّدة، فإنَّ هذا يدعونا دعوةً أكيدةً وصادقةً إلى العودة الحميدة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهما - كما تقدَّم - الشِّفاء والغناء لمن وفَّقه الله وبصَّره الله -تبارك وتعالى.

التفرق مذموم

     إنَّ التَّفرق في دين الله مذموم، ذمَّه الله -تبارك وتعالى- في كتابه، وذمَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام:159)، وفي قراءة: {إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}؛ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- منهم بَراء وهم منه بُرآء الَّذين فرَّقوا دينهم، الَّذين فارقوا دينهم، الَّذين خالفوا دينهم، الَّذين اتَّبعوا الفتن المطغية والأهواء المردية؛ ولهذا تجد في تفسير هذه الآية في قول عدد من المفسِّرين أنَّ قوله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} المراد بهؤلاء أهل البدع والأهواء من هذه الأمَّة، وفي قولٍ آخر أنَّ المراد بهم اليهود والنَّصارى، والحقُّ كما ذكر عددٌ من أهل العلم أنَّ الآية تشمل هذا وذاك؛ فاليهود والنَّصارى فرَّقوا دينهم وفارقوا دينهم، فارقوا دينهم: بمعنى تركوه وجانبوه وابتعدوا عنه ولم يأخذوا به، وفرَّقوا دينهم: بدل أن كان دينًا واحدًا يدينون الله -تبارك وتعالى- به ويعتقِدونه اتَّخذوا أديانًا شتَّى ومذاهبَ مختلفة؛ فالآية تشمل هذا وذاك فيها النَّهي الأكيد والوعيد الشَّديد على من فرَّق دينَه أو فارق دينَه، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليس منهم في شيء، هو منهم بريء وهم منه برآء؛ لأنهم فارقوا الدين واختلفوا في الدين. ويقول الله -تبارك تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) هذه وصيَّة الله - تبارك وتعالى- وشريعته للأنبياء ولأولي العزم من الأنبياء، إقامة الدِّين وعدم التَّفرُّق في دين الله -تبارك وتعالى- وهذه الآية فيها أنجع حلٍّ وأسلم حلٍّ لتقليل الخلاف ولمِّ الشَّعث.

إقامة الدين

     إن إقامة الدِّين: أن يأتي أهل الدين بالدين، أن يقيموا دينَهم الَّذي أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، لا حلَّ سوى هذا الحل، ولا علاج سوى هذا العلاج، العلاج: العودة الصادقة لدين الله، إقامة دين الله -تبارك وتعالى- أن يأتي العبد بدين الله -تبارك وتعالى- إقامة الدين يكون فيها حلٌ لمشكلة التفرق ولمصيبة التفرق الَّتي يقع فيها النَّاس؛ فيكون ذلك بالعودة إلى الدِّين كاملًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208)، فإذا أخذ بعض النَّاس جانبًا من جوانب الدِّين وأهملوا جانبًا آخر، وقابلهم أُناس آخرون فأخذوا بجانبٍ من جوانب الدِّين وأهملوا جوانبَ أخرى وقع بينهم التَّدابر، ووقعت بينهم الفُرقة، ووقَعت بينهم المحن والشِّقاق والاختِلاف؛ فإذًا حلُّ هذه المشكلة بإقامة الدِّين لله -تبارك وتعالى- والإتيان به على التَّمام والكمال، والعودة الصَّادقة إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

     ويقول الله -تبارك وتعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:30-32)؛ هذه الآية كما أنَّ فيها تحذيرًا شديدًا من التَّفرُّق وأنَّه سبيل المشركين الَّذين فارقوا الدِّين، واتَّخذوا أصنامًا آلهة، وعبدوا مع الله غيره، واتَّخذوا أهواءهم أربابًا من دون الله -تبارك وتعالى- فيها حلول ناجعة ومفيدة جدًّا لمسألة التَّفرُّق، بل لقد اشتملت على أعظم الحلول وأقْوَمها لهذه المشكلة. قال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}؛ هذا أول حل، ومعنى إقامة الوجه للدِّين: أن يستسلم العبدُ تمام الاستسلام، وينقاد العبد تمام الانقياد لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسولِه -[-، كما قال -جلَّ وعلا-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمان:22)، وكما يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزُّمَر:54)؛ فإقامة الدين لله الإتيان به على التَّمام والكمال؛ فإذا أتى النَّاس بدين الله -تبارك وتعالى-على التَّمام والكمال دون إخلال، دون تقديمٍ للأهواء أو الشَّهوات أو الآراء أو العقول أو غير ذلك فإنَّهم أتوا سببٍا عظيما من أعظم الأسباب الدَّاعية إلى اجتماع المسلمين ولمِّ كلمتهم.

أهمية العلم والبصيرة

     السبب الآخر والعلاج الآخر في هاتين الآيتين الكريمتين في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فإنَّ في هذا إرشادا إلى أهمِّيَّة العلم والبصيرة في دين الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ العلم بالكتاب والسُّنَّة والبصيرة بالكتاب والسُّنَّة والتَّعويل على الكتاب والسُّنَّة من أهمِّ الأمور الَّتي يكون فيها حلٌّ لمسألة التَّفرُّق الَّتي تقع بين المسلمين أو بين المنتسبين إلى الإسلام. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، إذاً بالعلم النافع والبصيرة في دين الله -تبارك وتعالى-والرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة وردُّ مواطن النِّزاع والخلاف إلى الكتاب والسُّنَّة يكون بذلك أسلم حلٍّ وأحسن علاج لهذه المشكلة؛ لأنَّه كما يقول ابن أبي العزِّ -رحمه الله-: «إذا لم يَرُدَّ النَّاس مواطن نِزاعهم ومسائل خلافهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يتبيَّن لهم الحقُّ، ولا يكونون على بصيرة في أمرهم إذا رَدُّوا إلى غير كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك