رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 11 ديسمبر، 2024 0 تعليق

منهجيّة تحقيق – نصوص الحجج الوقفيّة

  • تأتي أهمّيّة تحقيق الحجج الوقفيّة كون هذه الحجج جعلت لحماية الوقف وصونه من التعدي والضياع
  • تتميّز الحجج الوقفيّة المخطوطة عن غيرها من المخطوطات بكونها غير متعدّدة النُّسَخ ويندُر أن يتوفّر منها أكثر من نُسخة
  • من معايير اختيار المخطوطات أن تكون متعلّقة بالأوقاف المشهورة التي عُرفت بتأثير كبير منذ إنشائِها سواءً كانت قائمةً اليوم أم لا
تنبع أهمّيّة تحقيق الحجج الوقفيّة -وما قد يتوفّر من ملحقاتها من كشوف وحسابات- تنبُع من كون هذه الحجج جعلت لحماية الوقف وصونه من التعدي والضياع، كما إنها سجل لحفظ الحضور التاريخي للأمة والمشاركات الحضارية والمنجزات الإنسانية التي حققتها، والعمران النافع الذي شيّدته.   وتأتي أهمية تحقيق الحجج الوقفية كونها تتضمّن فائدتين:
  • الفائدة الأولى: هي البُعد القانونيّ، وهو التأكيد على صحّة هذا الوقف وتثبيته، وهو الأمر الذي يكون قد استقرّ بالشُّهرة والاستفاضة أصلاً إذا كان الوقف قائمًا يؤدّي عمله، وقد تصبح أكثر أهمّيّةً إذا كان الوقف قائمًا، لكن العمل فيه مخالفٌ لشروط الواقف، أو حدوده غير موافقةٍ لحدود العقار المنصوص على وقفه، كما قد تصبح فائدةً أساسيّةً جدًّا إذا كان الوقف مندثراً لكنّ استعادتَه ممكنة، وإحياءَه واردٌ؛ لأنّ حجّة الوقف حينئذ ستكون المستند الأساسيّ في إعادة بعث الوقف المندثر.
  • الفائدة الثانية: أساسيّة ذاتُ أبعادٍ متعدّدة،؛ لأنّ حجّة الوقف في الواقع تتضمّن عيّناتٍ من التأريخ العام للمرحلة التي كُتبت فيها الحجّة، ويظهر ذلك في الأبعاد الآتية:

1- البُعد التاريخيّ التقليديّ

الدّلالة على الأحداث والشخوص المؤثّرين فيها، من حُكّام وقادةٍ وعلماء وسياسيّين، والدّلالة على مستوى تأثير بعض الأحداث إذا كان الوقف ناجمًا عنها مثلاً، أو متعلّقًا بها بطريقة من الطرائق.

2- البُعد الجغرافي

         الدّلالة على أسماء القرى والمدن، وأسماء قطع الأراضي وحدودها وأماكنها وما يجاورها، وكذلك التنظيم الإداريّ للمناطق الجغرافيّة الذي كان متّبعًا وقت كتابة الحجّة الوقفيّة (لواء، وقضاء، ومدينة، وبلدة، وقرية...الخ)، كما قد تدلّ الحجّة الوقفيّة على عدد السكّان في مكانٍ ما وتركيبتهم، وهي مؤشّرات نادرة ومهمة يُستفاد منها في علوم أخرى كالجغرافيا السكّانية والديموغرافيا.

3- البُعد السياسي

يمكن أن تُعرف التوجُّهات السياسيّة للواقف من خلال شروطه وتوجيهاته في وقفه، وهو بدوره قد يكون ممثّلاً -بقَدْرٍ ما- لشريحةٍ اجتماعيّة معيّنة.

4- البُعد الاقتصادي

        تعد الحجج الوقفيّة مصادر علميّة مفصّلة للحالة الاقتصادية القائمة في مرحلةٍ ما، بمعرفة العملات الرائجة، والقيمة الشرائيّة لها، والموادّ المتوفّرة، والمِهَن السائدة، والأسعار، والرواتب، وتكاليف الشّحن والنّقل، ومصادر الضغوطات الاقتصادية التي كان يعاني منها النّاس في تلك المرحلة.

5- البُعد الشّرعي

        الدّلالة على الوظائف الدّينيّة المتعلّقة بالمساجد (الإمامة، والخطابة، والأذان، والخدمة...الخ)، وكذلك ما يتعلّق بنظام التعليم الشرعي وتكاليفه؛ إذ تحتوي الحجج الوقفيّة -عادةً- على تفاصيل تتعلّق بالمدارس الشرعيّة وموظّفيها وسلّمهم الوظيفي، وعدد الطّلّاب، والطاقة الاستيعابيّة للمدارس، وكذلك المقابر وأحكامها والوظائف المرتبطة بها، فضلا عن المؤسّسة القضائيّة التي لا تنفكّ عن الاتّصال بالوقف في كلّ تفاصيله، ومن أهمّ ما تقدّمه الحجج الوقفيّة في المجال الشرعي: دراسة أنماط التعبُّد السائدة في مرحلةٍ ما، والطريقة التي يعبّر النّاس بها عن العمل الصالح والمعروف، وهذا بدوره مؤثّر في الدّراسات الشرعيّة التي تعتني بنشوء بعض العادات وتهتم بالحكم على مشروعيّتها، وكذلك التأريخ لبعض الأعمال التي يدور جدل شرعي حول مشروعيّتها من جهة وصفها بالبدعة أو السُّنَّة.

6- البُعد العسكري

كثيراً ما تكون الجهة الموقوف عليها هي الجهاد في سبيل الله، وقد تدلّ الحجّة على أنواع الأسلحة ووسائل النّقل المستعملة، مثل: (خيول، وعربات، وسفن، وزوارق...الخ).

7- البُعد الاجتماعي

         قد يُفهَم من الحجج الوقفيّة على نحوٍ أكثر تفصيلاً ممّا تتضمّنه مصادر التاريخ: الانعكاسات الاجتماعيّة لبعض المعارك والحروب، فقد يظهر مثلاً من خلال الحجّة الوقفيّة الاهتمام بالوقف على الأرامل والأيتام، ويُشار إلى أنّ ذلك كان لكثرتهم على أثر حادثةٍ ما، أو يكون الوقف على نحوٍ لافتٍ على فكاك الأسرى، أو قد يُرصَد من خلال الحجّة طريقة المسلمين في معاملة أسرى أعدائهم، كما قد تُستشفّ من خلالها أيضاً بعض المؤشرات الاجتماعيّة الأخرى (معدّلات الزواج، ومعدّلات الطّلاق، وحالات تعدُّد الزوجات، وما يتعلّق بالرّقيق والعبيد والإماء من تملُّك وعتق ومعاملات...الخ).

8- البُعد التنظيمي والإداري

        إذ تتضمّن الحجج الوقفيّة -عادةً- هيكليّة إدارة الوقف، ودرجات المسؤولين عنه (المتولّي، والنّاظر، والجابي...الخ)، وأحوال العلاقة بينهم، مَن منهم يتبع الآخر؟ وإن كانت ثمّة حالاتٌ يُقدّم فيها من كان مؤخّراً أو العكس، والظروف التي تستدعي ذلك بحسب اشتراط الواقف، وهو ما يشير إلى طبيعة المخاوف وطريقة التعامل معها إداريًّا، وكذلك تشير الحجج الوقفيّة إلى علاقة المؤسّسة القضائيّة بإدارة الوقف، والظروف التي تتدخّل فيها، والأنواع التطبيقيّة لتنظير الفقهاء المتعلّق بضبط علاقة القضاء بالوقف.

9- البُعد القِيَمِي والأخلاقي

       يظهر ذلك من خلال رصد الوجوه الموقوف عليها ومسحها، التي تعبّر عن اهتمامات الواقف، ومن ثم الشريحة التي ينتمي إليها، وتُظهر الترجمة الواقعية لإحساسه بالمسؤوليّة، وهذا بُعدٌ في غاية الأهميّة، بل هو الأهمّ، انبثقت عن رصده دراسات وقفيّة عدّة، يجمعها الاهتمام بالأثر الحضاري للأوقاف الإسلاميّة، وروائعها وجماليّاتها الأخلاقيّة، والتي تعد بدورها مادةً دعويّةً مهمّة في سياق الحوار الحضاري الذي تقوم عليه مرجعيّات ومؤسّسات إسلاميّة مختلفة، كما أنّه هو البُعد الذي يعد العُمدة والأساس في الترويج لثقافة الوقف الخيري في سبيل إعادة إحيائه وبَعثه من جديد.

ضوابط تحقيق الحجج الوقفية

إذا عُرف هذا، فيمكن خدمة هذه الأهداف المعرفيّة عن طريق مراعاة الضّوابط الآتية في عمليّة التحقيق:

أوّلاً: اختيار المخطوط

  • المعيار العلمي والمعرفي: تُختار المخطوطات المتعلّقة بالأوقاف المشهورة، التي عُرفت بتأثير كبير منذ إنشائِها، سواءً كانت قائمةً اليوم أم لا، وبصرف النّظر عن كون التأثير كان مادّيًّا كسائر الأوقاف الخيريّة، أو تعبُّديًّا روحيًّا كالمساجد، أو علميًّا كالمدارس، وفي حال لم يكن الوقف معروفاً ولا مشهوراً في الحياة العامّة، فيمكن اختياره على أساس مرجّحات أخرى، منها:
  • المرجِّح الشخصي (يتعلّق بالواقف): كأن يكون الواقف شخصيّة مشهورةً متميّزةً في مجالٍ مؤثّرٍ من مجالات الحياة العامّة (سياسي، عالم طبيعي، فقيه، قائد عسكري)، لكن لم يشتهر في سيرته الذاتيّة أنّ له وقفاً، فيُختار من أجل إلقاء الضّوء على هذا الجانب بهدف إحياء نزعة التأسّي به فيه عند الشريحة التي تقدّره وتتأثّر به.
  • المرجّح المكاني: بأنْ يكون الوقف في مكانٍ انتهى فيه الوجود الإسلاميّ الرسميّ (دولة، مؤسسات سياديّة)، مثل مناطق روسيا وأوروبّا الشرقيّة، فيكون اختيارُه من أجل إحياء ذكر الإسلام في المكان ولفت النّظر إلى البصمة الحضارية التي تركها، أو يكون الوقف في أماكن يُهدّد فيها الوجود الإسلامي باستمرار مثل (فلسطين، والصين، وبورما، والدول الإفريقية ذات الأقليّات المسلمة).
  • المرجّح الزّماني: بأن يكون الوقف أُنشئ في زمن حرب أو أزمة بهدف الإنقاذ والعبور بالمجتمع إلى برّ الأمان، لما تتضمّنه هذه الميزة من لفت النّظر إلى قيمة الوقف.
  • المعيار الفنّي (التقني): تتميّز الحجج الوقفيّة المخطوطة عن غيرها من المخطوطات بكونها غير متعدّدة النُّسَخ، ويندُر أن يتوفّر منها أكثر من نُسخة؛ لذلك يُختار المخطوط الذي يمكن التعامل معه من حيث كونُه كاملاً ومقروءًا وواضحًا، وقد يُقبل المخطوط الذي يعاني من نقص أو تلف جزئي أو عدم وضوح في حال توفُّر شيء من المرجّحات المذكورة في المعيار العلمي، بشرط ألا يحول النّقص دون تحقيق الهدف المعرفي أو الدعوي من تحقيق المخطوط، كليًّا أو جزئيًّا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك