رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ذياب أبو سارة 29 يوليو، 2024 0 تعليق

منطلقات الوسطية  في تعزيز جهود التنمية والتطوير

  • الوسطية حال محمودة وخاصية أساسية من خصائص هذا الدين عقيدة وشريعة ونظاما خلقيا واجتماعيا وسياسيا وحضاريا يمنع من الوقوع في براثن الإفراط أو التفريط
  • يحمل مفهوم الوسطية العديد من المقومات وعلى رأسها تحقيق التوازن والعدالة والاستقامة بعيدا عن الطغيان والظلم والانحراف
  • من أهم مظاهر الاعتدال والوسطية عدم التسرع والعجلة والرغبة في الوصول بسرعة إلى النتائج دون مراعاة للسنن الكونية
  • عالمية الإسلام تستدعي منا النظر إلى الأخرين نظرة تراحم والحرص على هدايتهم بنشر مبادئ الإسلام وفق منظور الوسطية
 

اجتاح العالم -منذ فترات طويلة- العديد من النظم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وقد اتخذت تلك النظم والسياسات منحى التحيز، سواء لطبقة معينة، أم لأسلوب معين في إدارة شؤون الدولة والاقتصاد، وترتب على ذلك خلل كبير وآثار سيئة في بنية تلك الدول؛ لأنها كانت مخالفة للفطرة وغير منسجمة مع طبيعة الإنسان، ولأنها كانت تنحاز إلى الإفراط أو التفريط في منطلقاتها ومآلاتها، وقد جاء الإسلام بالحنيفية السمحاء، وجعلها منطلقا للتطور الإنساني، ورافدا للفطرة السليمة، ومثالا للعدالة والحضارة والنماء، بما يحمل من معاني الوسطية والاعتدال.

        وتعدّ الوسطية من أبرز مزايا الأمة المحمدية، وهذا ما يؤهلها لأداء الشهادة على الآخرين وأن يشهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وهي حالة محمودة وخاصية أساسية من خصائص هذا الدين عقيدة وشريعة ونظاما خلقيا واجتماعيا وسياسيا وحضاريا، يمنع من الوقوع في براثن الإفراط أو التفريط، ومن هنا تبرز الحاجة إلى المنهج الوسطي الذي يحقق التنمية المستدامة، ويحافظ على مقدرات الأمة ومواردها البشرية والمادية والطبيعية.

الوسطية.. منظومة متكاملة

        يمكن تعريف الوسطية بأنها مجموعة السياسات المنبثقة من النظام الإسلامي القائم على الاعتدال، والتي تستطيع أن توفر الاستقرار المحمود بكل أنواعه من خلال تنمية شاملة ومستدامة تنهض بالإنسان وتعمر الكون في إطار التعاون الإيجابي القائم على التعايش والبعد عن التصارع وفق مقررات الشريعة وبما يضمن ديمومة الأمن البشري، ومن هذا المنطلق فإن الوسطية -في حقيقتها- منظومة متكاملة من المعايير التي تضمن للتنمية القدرة على تلبية حاجات الحاضر دون مساس بقدرة الأجيال القادمة، كما تأخذ في اعتبارها التوازنات الطبيعية؛ وذلك حفاظا على الموارد من التدهور والاستنزاف، وضمانا لاستدامة جهود التنمية وتحصيل ثمارها.

مقومات الوسطية

        يحمل مفهوم الوسطية العديد من المقومات، وعلى رأسها تحقيق التوازن والعدالة والاستقامة، بعيدا عن الطغيان والظلم والانحراف حتى يتحقق بذلك استقرار المجتمعات؛ فالإنسان بطبعة مخلوق اجتماعي لا يستطيع أن يحيا وحده، بل يعيش في إطار نظرية المدافعة التي أودعها الله في خلقه، بقوله -سبحانه-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ويأتي ذلك أيضا ضمن حقيقة الاستخلاف لبني آدم في هذه الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ولما كان الإنسان أساس التنمية كونه العنصر الذي يتحرك ويعمل وينتج ويتحمل ويبذل، ومن ثم فإن أي استراتيجية تنموية لن تحقق النجاح، ولن تصل خططها إلى أهدافها وغاياتها إلا باحترام الإنسان واحترام حريته وتوفير الضمانات الكفيلة بتمكينه من ممارسة دوره في خلافة الأرض بالبناء والاستصلاح والسعي والإنتاج.

وسطية الإحسان والتراحم

        لا شك أن عالمية الإسلام تستدعي منا النظر إلى الثقافات والحضارات الأخرى نظرة تراحم ورغبة في إنقاذ البشرية من عذاب الله والحرص على هدايتهم بنشر مبادئ الإسلام وفق منظور الوسطية، من خلال تحقيق التوازن في العلاقة مع غير المسلمين كما قال -تعالى-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فالبر والقسط مطلوبان من المسلم في علاقته بالناس والخلق كافة، ماداموا مسالمين غير معتدين، وبما يحقق تغليب المصالح العامة، ويحقن الدماء، ويحفظ الأموال، ويتيح المجال أمام جهود التنمية وعمارة الأرض، فمن المقرر لدى أرباب الاقتصاد والاستثمار أن الأمن والأمان مطلب أساس لتحقيق التنمية الشاملة، كما أثبتت التجارب أن سياسة الاكتفاء الذاتي غير ممكنة واقعيا، وأن تكامل المجتمعات مع بعضها بعضا - في إطار نظرية المدافعة - هو الوضع الطبيعي لتحقيق الإنجازات وتسريع وتيرة التنمية، وهذا لا ينفي سياسة الاعتماد على الذات، بما تحمله من شحذ الهمم وتوظيف الطاقات، ولا يمنع الاستفادة من إمكانيات الآخرين والانفتاح عليهم والتواصل معهم وفق ضوابط الشريعة.

الوسطية ضرورة ملحّة

        تعدّ الوسطية ضرورة ملحّة في واقعنا الراهن؛ من أجل إحياء الفهم الصحيح للدين وأحكامه ونظامه، وتجديد معانيه السامية في عقول المسلمين ونفوسهم وواقعهم، بما يتوافق مع وصف الله -عز وجل- لهذه الأمة المباركة بقوله -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وهي السبيل إلى الطريق القويم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. فالأمة الوسط هي الأمّة الحق التي تدور مع الحق حيث دار، وهي الأمة التي تضع الأمور في نصابها وتحقق التوازن في حياتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.

دور العلماء في حفظ وسطية الأمة

         وهنا يأتي دور علماء الأمة في حفظ هذا الدين من التحريف، ونفي ما يعلق به من الشبهات، كما روى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»، ومن التحذير من الغلو كما جاء في سورة الفاتحة بقوله -تعالى-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي عرَّفه -سبحانه- بقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم حدَّده فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فجعل الصّراط المستقيم طريق الخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، وبين طريقي المغضوب عليهم والضّالين. ويتجلى دور العامل العلمي في أن غياب الفقه بأنواعه المختلفة سواء ما تعلق بفقه الشرع أم بفقه الواقع، هو من أكبر الأسباب التي تفسر الغلو أو التسيب الذي ما هو إلا نوع من أنواع الغلو.

حماية عقيدة التوحيد

        كما يقع على عاتق العلماء حماية عقيدة التوحيد من الانحرافات التي وقعت عند اليهود الذين قالوا: {يد الله مغلولة} وإشراك النصارى الذين قالوا: {المسيح ابن الله}، وجفاء الماديين الذين ينكرون الغيب بقولهم: {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}، وشطحات الروحانيين الذين لا يعيشون الشهادة، ويبتدعون رهبانية ابتدعوها. ويعزّز منهج القرآن والسنة تقرير حقائق العقيدة في العقول وآثارها في النفوس، كما أن قصور التأطير الديني والعلمي والتربوي من لدن المؤسسات الدعوية الرسمية والأهلية في أداء واجبهم في تأطير الشباب وتربية الناشئة، وشيوع مظاهر الإقصاء والتهميش الاجتماعي والظلم الاجتماعي ومظاهر البطالة وسوء الأحوال الاجتماعية أمر خطير. وقد جاءت آيات في القرآن الكريم تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال، كما قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً}، وقوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

وسطية البناء الاجتماعي والاقتصادي

         ولما كان المجتمع الإسلامي قائما على أسس أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وقواعدها الكلية في مجال العقيدة والتصور وفي مجال الشريعة والأحكام، فإن مفهوم الوسطية ينسحب على نظرة الإسلام للبناء الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم على عملية التنمية بمعانيها الشاملة، وبذلك جمعت النظرة الإسلامية بين الفردية والجماعية في وسطية وتوازن، ومنح الإسلام للفرد حقوقه وفرض عليه في المقابل واجبات مخصوصة للجماعة، وكل ذلك في مقابل التصورات والمجتمعات التي تطغى فيها حقوق الفرد فتنسحق أمامها حقوق أفراد كثيرين آخرين يمثلون معظم المجتمع، وفي مقابل التصورات والمجتمعات التي تسحق حقوق الفرد، فينتهي الأمر بالتصورين معا إلى مصير واحد هو سيطرة قلة باسم الفردية أو الجماعية.  

من مظاهر الوسطية

  • من أهم مظاهر الاعتدال والوسطية عدم التسرع والعجلة والرغبة في الوصول بسرعة إلى النتائج دون مراعاة للسنن الكونية.
  • عدم التعصب للرأي تعصبًا ينكر وجود الآخرين، وجمود الشخصِ أو الجماعة على فهمهما جموداً لا يسمح لهما برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا لظروف العصرِ.
  • عدم التزام التشديد، مع وجود موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به مع أنَّ الرسول قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا»
  • اجتناب سوء الظن بالآخرين وإسقاط حسناتهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، وعدم اعتبار أي حُرمَة ولا ذمة لهم.
  • تغليب فقه الموازنات، وقوام هذا الفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ وبحيث تكون الموازنة بين خير الخيرين من أجل تحصيل أعظمهما وتفويت أدناهما، وبين شر الشرين من أجل تحصيل أدناهما وتفويت أعظمهما.
  • اعتبار فقه المقاصد وقوام ذلك النظر في علل الحكم وتجنب النظرة الظاهرية في نهج النصوص، وهي التي حددها الأصوليون في خمسة أصول أو ستة، وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والنسل والمال، ومنهم من زاد على ذلك ومن نقص.
  • إعمال فقه النصوص والمآلات القائم على التمييز بين الظني والقطعي، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يحتمل تفسيرات عدة، وما لا يحتمل إلا تفسرا واحدا، والتمييز في السنة بين ما هو للتشريع وما ليس للتشريع، وما هو للتشريع الدائم والتشريع المؤقت.
  • ترشيد الإعلام بما يحفظ الهوية والأخلاق والقيم الإسلامية وتشجيع المبادرات الرامية إلى الارتقاء بالدور التربوي والتأطيري للإعلام وإلى تهذيب البرامج الإعلامية.

مشاريع التنمية والتطوير الاجتماعي

        لقد بات من الضروري إعطاء مشاريع التنمية والتطوير الاجتماعي والاقتصادي الاهتمام الكافي؛ خوفًا من حدوث المزيد من الكوارث الاجتماعية والاقتصادية والوصول إلى ما لا تحمد عقباه، كما يجب الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال، واقتباس ما يمكن أن يتماشى منها مع مجتمعاتنا، ويأتي على رأس ذلك معززا ومدعّما لجهود التنمية إرساء دعائم الوسطية في مواجهة التحديات ليبقى الاسلام دين الاعتدال والرحمة، ودين السلام والتعاون وعدم إلغاء الآخرِ، وفق ثوابت الأمة وبما يخدم حركة التنمية والتطوير وتعزيز قيم الانتماء والمواطنة الصالحة، وليست هذه الكلمات سوى صيحة نذير، وبذرة إصلاح، وبارقة أمل؛ من أجل رفعة المجتمع ودعم جهود التنمية المستدامة.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك