رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ذياب أبو سارة 4 نوفمبر، 2024 0 تعليق

منطلقات المنهج النبوي وضوابطه في: التعامل مع الآخر

  • تعدّ وثيقة المدينة إحدى مفاخر الحضارة الإسلامية ومعلما من معالم مجدها الإنساني والسياسي معًا وهي أول وثيقة حقوقية فى تاريخ العرب
  • من الأصول الشرعية للتعامل مع المخطئين الإخلاص في النصيحة وليس التعالي ولا التشفي ولا السعي لنيل استحسان المخلوقين
  • اقتضت عالمية الإسلام وشمولية المنهج أن ينظم هذا الدين العظيم شؤون حياة الإنسان فلم يدع حياة الناس فوضى بل وضع لها سياجا من الضوابط الشرعية
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم  يوصي بأهل الكتاب خيرًا ما داموا ملتزمين بالسلام والتعايش وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم  اتفاقيات متعددة معهم تضمن حقوقهم وتحمي سلامتهم
  • سياسة النبي صلى الله عليه وسلم  تجاه الآخر تقوم على مبادئ قرآنية أهمها اللين والرحمة والعدل والإحسان والعفو والتسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
  • يشمل مفهوم «الآخر» في المنهج النبوي كل من يختلف مع المسلم في العقيدة أو الثقافة أو السلوك
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم  يوصي جنوده بعدم الاعتداء على المدنيين وعدم تدمير الممتلكات وعدم قتل الرهبان في الصوامع
 

أرسل الله -سبحانه وتعالى- لكل أمة نبيا، وأرسل رسولنا محمدا -صلى الله عليه وسلم - للناس كافة بشيرا ونذيرا، وذلك كما قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)؛ وبذلك اقتضت عالمية الإسلامية وشمولية المنهج أن ينظم هذا الدين العظيم شؤون حياة الإنسان، فلم يدع حياة الناس فوضى؛ بل نظم أمورهم، ومثلما أرسى دعائم فقه العبادات من صلاة وصيام، وأرسى أصول القيادة وقواعد الحكم وإمارة الناس، ورتب الحقوق والواجبات، فقد نظم العلاقات بين أفراد المجتمع الداخلية والخارجية، دون إفراط ولا تفريط، وهذا من كمال الشريعة وتمام الدين الإسلامي وعظمته في تعميق القيم الإنسانية في التعامل مع الآخر.

  وتعدّ وثيقة المدينة إحدى مفاخر الحضارة الإسلامية، وأحد معالم مجدها الإنساني والسياسي معًا، وهي أول وثيقة حقوقية فى تاريخ العرب على الأقل، وعقد مواطنة متقدم على عصره، وعلامة مضيئة فى تاريخ الحضارة الإسلامية والإنسانية معًا؛ حيث كان بالمدينة وقتها المسلمون واليهود، وكل هذه الأطياف شملتها تلك الوثيقة، وبهذه الوثيقة تحددت معالم الدولة الوليدة، والمسلمون فيها أمة واحدة، انتقلوا من إطار القبيلة إلى إطار الأمة والدولة، والإطار القانونى لها هو الشريعة الإسلامية، وينبغى مواطنيها جميعًا من المسلمين وغيرهم الدفاع عنها مجتمعين ضد أي عدوان خارجي.

مسؤولية الأطراف جميعهم

         وقد أكدت الوثيقة مسؤولية الأطراف جميعهم في الدفاع عن المدينة، ونصت على احترام أموال اليهود والمسلمين وحقوقهما على السواء، ما يعكس عمق المفهوم الإسلامي للعدالة والتعايش السلمي، والحرص على حماية الأقليات غير المسلمة، والكفالة الاجتماعية وضمان الديات، والمرجعية القانونية للدولة هى الشريعة الإسلامية، ووجوب نصرة المظلوم لأي أحد من مواطني الدولة بصرف النظر عن دينه وقبيلته، وحق الأمن والأمان لجميع مواطني الدولة. وسنتناول في هذا الملف المنهج الذي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - للتعامل مع غير المسلمين في شتى مجالات الحياة؛ فقد أصبحَت قضية ما يسمَّى بـ(الآخر) تشغل حيِّزًا واضحًا في الأطروحات الثقافيَّة في الآونة الأخيرة، ولا سيَّما في مجال مواجهة التصور الإسلاميِّ ونقده؛ حيث تُوجَّه تهمة رئيسةٌ للإسلام من قبل المغرضين بأنه لا يَعترف بـ(الآخر)، ولا يفقَه التعامل معه، بل لا يضع قضية (الآخر) في الحسبان وضمن أولوياته.

مفهوم (الآخر) في المنهج النبوي

         يشمل مفهوم (الآخر) في المنهج النبوي، كل من يختلف مع المسلم في العقيدة أو الثقافة أو السلوك، وقد وسع النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الآخر ليشمل حتى المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويخفون العداء، ويعكس هذا التنوع عظمة المنهج النبوي، وقدرته على التعامل مع مختلف الأنماط الإنسانية دون تمييز، وينقسم المخالفون إلى فئات متعددة منها غير المسلمين، وأهل البدع والفاسقون، وأصحاب الزلات والأخطاء من أهل العلم والصلاح.. الخ.

التعامل مع أهل الكتاب

        كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي بأهل الكتاب خيرًا ما داموا ملتزمين بالسلام والتعايش، وقد عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقيات متعددة معهم تضمن حقوقهم وتضمن سلامتهم، يقول الله -تعالى-: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} (الممتحنة: 8)، ويظهر ذلك من حُسن تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الوفود النصرانية كوفد نصارى نجران؛ حيث منحهم الأمان في المدينة وسعى إلى التعايش معهم سلميًا.

أصول التعامل مع أهل البدع

أهل البدع هم الفرق الإسلامية المبتدعة كالخوارج والمعتزلة وما تفرع منها، وكل مَن أحدث في دين الله، ومن أصول التعامل معهم:
  • بُغضُ عملهم المبتدع، وهو تفريق كلمة المسلمين إلى أحزاب ومذاهب وفرق.
  • هجرهم والابتعاد عنهم وعن تجمعاتهم، قال البغوي -رحمه الله-: «وقد مضى الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماءُ السنة على هذا؛ مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم».
  • عدم تكفيرهم بالجملة، ونصحهم وإرشادهم وتعليمهم كما فعل عليٌّ - رضي الله عنه - مع الخوارج؛ حيث بعث إليهم ابن عباس - رضي الله عنه - ليناظرهم.

أصول التعامل مع العصاة وأهل الفسوق

  • النصح، وهو من حقِّ المسلم على المسلم.
  • إقامة العقوبة المستحقة من قِبَل ولاة الأمر؛ كتطبيق الحدود أو التعزير أو التأديب.
  • ردُّ رواياتهم وشهادتهم؛ لأن الفاسق لا تُقبل روايته ولا شهادته.
  • الهجر بضوابطه، وهي ثبوت الفسوق، وأن تكون المعصية ظاهرة، وأن يكون في الهجر مصلحة راجحة.
  • التحذير منهم، وبيان خطرهم للناس؛ حتى لا ينخدعوا بهم.

الأصول الشرعية للتعامل مع المخطئ

لا شك أن تصحيح الخطأ يعدّ من النصيحة في الدين، وإدراك المنهج النبوي في التعامل مع أخطاء الناس من أهم الأمور، ومن الأصول الشرعية للتعامل مع المخطئين، ويمكن تلخيص تلك الضوابط فيما يلي:
  • الإخلاص في النصيحة، وليس التعالي ولا التشفي ولا السعي لنيل استحسان المخلوقين.
  • أن يكون الهدف من التعامل إعلاءَ كلمة الحق، وإزهاق الباطل وكسبَ المخالف، والمعذرةَ أمام الله.
  • أن تكون التخطئة مبنية على الدليل الشرعي الصريح الثابت.
  • التفريق بين المخطئ والجاهل عن علم، فالأول يحتاج إلى تعليم، والثاني يحتاج إلى بيان وإزالة شبهة.
  • العدل وعدم المحاباةِ في التنبيه على الأخطاء، قال -تعالى-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام:152)
  • الحذر من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبر، ومن ذلك سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم؛ لئلا يقول الناس: محمدٌ يقتل أصحابه.
  • التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير وبين العاصي المسرف على نفسه.
  • التفريق بين المجاهر بالخطأ والمستتر به.
  • اعتبار حال المخطئ من جهة المكانة والسلطان.
  • المسارعة إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله، مع بيان الحكم الشرعي.
  • معالجة الخطأ بالموعظة، وتكرار التخويف، وإظهار الرحمة بالمخطئ.
  • بيان خطورة الخطأ ومضرته في الدنيا والآخرة.
  • عتاب المخطئ ولومه، والإعراض عنه وهجره إن استمرَّ على الخطأ بعد بيان الحجة.

أصول التعامل مع المنافقين

        تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين في المدينة بالحكمة، فلم يظهر عداوته لهم رغم علمه الكامل بأسمائهم ومخططاتهم؛ ليجنب المجتمع فتنة داخلية، وقد استمر في إرشادهم ودعوتهم بالحسنى ما لم يظهروا عداءً صريحاً، تطبيقاً لقوله -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وقد شكل المنافقون تحدياً خاصاً للنبي -صلى الله عليه وسلم -؛ إذ أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، وكانوا يمثلون خطرًا داخليًا على المجتمع المسلم في المدينة، رغم علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكرهم، فإنه تعامل معهم بحكمة وصبر، ملتزمًا بقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (النحل: 105). عدم فضح المنافقين حفاظًا على استقرار المجتمع: لم يفضح النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين رغم علمه بأسمائهم؛ لأنه حرص على تماسك المجتمع الإسلامي في المدينة وتجنب الفتنة، وهذه السياسة تعكس بُعد نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مراعاة المصلحة العامة، ووضع الأهداف الجماعية فوق الرغبات الشخصية. الدعوة المستمرة للمنافقين باللين: استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوة المنافقين وتقديم النصيحة لهم لعلهم يتوبون، وابتعد عن إظهار العداوة تجاههم، في نموذج على التسامح حتى مع الفئة المندسة في المجتمع الإسلامي.  

الأسس القرآنية للمنهج النبوي في التعامل مع الآخر

وهكذا نجد أن سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه الآخر تقوم على مبادئ قرآنية عدة، منها: اللين والرحمة: قال -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، بتوجيه من الله، رحيماً بأصحابه وحتى بمن خالفوه. وتجلت هذه الرحمة أيضاً في أحاديثه مثل قوله: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (رواه مسلم). هذه القاعدة تشير إلى ضرورة اللين في التعامل وعدم التشدد مع الآخر؛ حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحاول دوماً أن يجذب الآخرين لدعوته بالحسنى. العدل والإحسان: قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل: 90)، وقد جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية في تعامله مع كل من حوله، فلم يكن يميز بين المسلم وغير المسلم في الحقوق الإنسانية. فعندما ادعى رجل من الصحابة حقاً على يهودي، حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لصالح اليهودي، مما أكد مبدأ العدالة والإنصاف. الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: قال الله -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125). لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الآخرين بالزجر أو القسوة بل بالحكمة واللين، فكان يصبر على أذى الآخرين ليبين لهم رحمة الإسلام ورفقه.  

المنهج النبوي في التعامل مع العداوات

         مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسعى إلى التعايش السلمي وتجنب الصراعات، فإن الظروف قد فرضت أحياناً مواجهة بعض الأطراف التي تهدد أمن المسلمين واستقرارهم، ومع ذلك، اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - منهجاً نبيلاً في التعامل مع الأعداء حتى في الحرب، وفقاً لمبادئ أخلاقية صارمة، أسسها القرآن الكريم، وجسدها بأقواله وأفعاله. التعامل مع الأسرى: بعد غزوة بدر، تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى من قريش معاملة كريمة؛ حيث أطلق سراح بعضهم مقابل تعليم أبناء المسلمين الكتابة، وأطلق سراح آخرين مقابل فداء مالي. هذا التصرف يعكس رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في أن التعليم قيمة سامية، ويشير إلى فضيلة العفو عن المعادين بعد زوال خطرهم، تطبيقاً لقول الله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8). الرحمة في أثناء المعارك: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي جنوده بعدم الاعتداء على المدنيين، وعدم تدمير الممتلكات، وعدم قتل الرهبان في الصوامع، فقد قال في إحدى وصاياه للجيش: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين» (رواه أبو داود). هذه الوصايا تدل على منهجية الإسلام السلمية حتى في ظروف الحرب، واحترامه لحقوق الإنسان والأخلاق. الوفاء بالعقود والمعاهدات: كان النبي -صلى الله عليه وسلم - وفياً في التزاماته، فقد التزم بصلح الحديبية مع قريش رغم بنوده التي كانت تبدو مجحفة بحق المسلمين، وقد التزم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عندما خالفته قريش. هذا السلوك النبوي يؤكد قيمة الوفاء بالعقود، وهو التزام أخلاقي قُرآني قال فيه الله -تعالى-: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: 34).

الأبعاد الأخلاقية والدعوية في المنهج النبوي

         عرض الإسلام على الملوك والرؤساء: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسائل متعددة إلى زعماء القبائل وملوك الأمم يدعوهم إلى الإسلام، وقد كتبها بلغة رسمية تراعي الخصوصية والاحترام وإنزال الناس منازلهم، كما أنه استقبل وفود القبائل التي أتت المدينة، وقدم لهم الكرم والترحاب، ما يعكس عمق المنهج النبوي في الانفتاح الثقافي والاعتراف بتنوع الآخرين. التسامح الديني كوسيلة دعوية: اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - مبدأ التسامح مع المخالفين، ولم يلجأ إلى الإكراه في الدعوة، وقد حرص على احترام قناعات الآخرين الدينية، مما مهد لقبول كثير من القبائل للإسلام بإرادتهم. قال -تعالى-: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256). هذا التسامح كان وسيلة فعالة لتعريف الناس على الإسلام وأخلاقياته. الحكمة في تقديم النصيحة والدعوة بالحسنى: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة والحسنى أسلوبًا أساسيًا في التعامل مع الآخرين، حتى مع المعادين له. كان يوصي أصحابه باللين والرفق عند تبليغ الدعوة، ويتجنب التشدد، وقد قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» (رواه البخاري).  

الدعاء وأثره في صلاح الأبناء

         إنَّ من عظيمِ فضلِ الله -تعالى-، أَنْ جعَل الدعاءَ، من أفضلِ العبادات نفعًا، وأعظمها أثرًا، فأمَر عبادَه بدعائِه، ووعدَهم بإجابته؛ فضلًا منه وكرمًا، ومنَّةً وجودًا؛ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (غَافِرٍ: 60)؛ فدعاء الوالدين له أثرٌ كبيرٌ في صلاح الأبناء والبنات، وهو أحد ثلاث دعوات مستجابات، ففي سنن ابن ماجه، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»، ودعاء الآباء للأبناء، منهج الرسل والأنبياء؛ فهذا خليلُ ربِّ العالمينَ، يسأل ربَّه الولدَ الصالحَ فيقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}(الصَّافَّاتِ: 100)، فيأتيه الجواب: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}(الصَّافَّاتِ: 101)، وبعدَ أن رُزق بالولد الصالح، وأَخْذه بأسباب حسن التربية والإصلاح، لم ينقطع دعاؤُه لأبنائه، فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}(إِبْرَاهِيمَ: 35)، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(إِبْرَاهِيمَ: 40). ومن شفقة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- على ذريتهما قالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الْبَقَرَةِ: 129}؛ فاستجاب اللهُ دعاءهما، فكان من ذريتهما سيد الأولين والآخِرين، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم»(رواه أحمد). ودعــــــاء الــوالــــــدة لولدها، لا شكَّ أنَّه أَحرى بالقَبول وأَوْلَى، فهذه امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(آلِ عِمْرَانَ: 35)، فلمَّا وضعَتْها أنثى قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(آلِ عِمْرَانَ: 36)، فاستجاب اللهُ دعاءها، وبارَك في ابنتها، واصطفاها، وجعَلَها آيةً من آياته الكبرى؛ فوَهَبَها عيسى -عليه السلام-، وأعاذها وابنَها من الشيطان الرجيم. ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، كان من هديه، الدعاء لأبنائه وأحفاده، وأبناء أصحابه، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ»(رواه البخاري)، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، فأصبح ابن عباس -رضي الله عنهما-، حَبْرَ الأُمَّةِ وتُرجُمانَ القُرآنِ، وفي الصحيحين: قَالَتْ أُمُّ أنسٍ -رضي الله عنهما-: يا رَسولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ أنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ له، قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ: «اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ، ووَلَدَهُ، وبَارِكْ له فِيما أعْطَيْتَهُ»، قال أنس - رضي الله عنه -: «فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البَصْرَةَ، بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ»(رواه البخاري).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك