رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: هناء الأيوب 13 يناير، 2019 0 تعليق

منبع السعادة

استعرضت يومًا في ذهني أحوال الناس من حولنا؛ فوجدت أنه بالرغم من عدم وجود بيت يخلو من المشكلات أو الخلافات -حتى بيوت الأنبياء -عليهم السلام - إلا أن الناس يتباينون في السعادة والتعاسة؛ فمنهم سعداء ولا يعانون مشكلات تُذْكر، تعساء ويعانون مشكلات، سعداء، بالرغم من أنهم يعانون مشكلات، تعساء، بالرغم من أنهم لا يعانون مشكلات تُذْكر.

     فاستوقفني كُلّا من الصنفين الثالث والرابع، وخرجت بنتيجة حتمية، وهي أن السعادة والراحة النفسية، مِنَّة من الله -تعالى-، لا يهبها إلا لمن سعى إليها من الذين أسلموا أمور حياتهم لله الواحد الأحد؛ فانقادوا له -عز وجل-، ووكلوا أمرهم إليه؛ فاستحقوا بذلك الطمأنينة، وراحة البال والسكينة؛ لأنهم تيقنوا أن السعادة الحقيقية نعمة محلها قلب المؤمن، ولا يستحقها إلا المنقاد إلى ربه -جل وعلا- المستقيم على نهجه الذي ارتضى، المقتدي بسنة نبيه المصطفى؛ فالسعادة لا تتوقف على الظروف الخارجية المحيطة بذواتنا، وهذه حقيقة تتجلى تماما إن أسلمنا لله شؤون حياتنا كلها - بما فيها من مشكلات أو معاناة - لمن بيده ملكوت الأرض والسماوات، قال -جل جلاله-: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر: 36).

الإيمان بالله -تعالى

     إن السعداء يستمدون من إيمانهم بالله -تعالى- وحسن توكلهم عليه، القوة والصبر وقت المصائب والمحن، وعند الابتلاءات والفتن، بامتثالهم لقوله -تعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(الطلاق: 2-3)، إنهم بتعلقهم بربهم ودوام الاستعانة به، وقوة الثقة به وتمام التوكل عليه، قادرون على تبديل مشاعرهم من اليأس والقنوط والامتعاض، إلى مشاعر السرور والفرح، والابتهاج والمرح، يغلب عليهم حسن الظن بالله -تعالى- الحكيم في تدبيره، اللطيف في تقديره، مستسلمون لمن بيده زمام الأمور، العليم بخفايا الصدور، قد تزودوا بالصبر، واحتساب الثواب والأجر؛ فتخففوا من الهموم، ورضوا بالمقسوم، متخذين الاستغفار والدعاء ملاذًا آمنا لهم كلما ضاقت بهم الظروف، أو زادت عليهم الكروب، متكلين على رب العالمين، واثقين بوعده للمبتلين: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة: 157-155).

لا تنتظر الظروف

      فمن أراد أن تزكوَ نفسه، ويطمئن قلبه، ويرتاح باله، ويسكن فؤاده؛ فلا ينتظر الظروف تتحسن، أوالناس تتغير، أوالمشكلات تختفي، أوالكرب ينجلي، ليحقق مراده، بل يطلب السعادة من الكريم المنان، ويملأ بحب ربه القلب والوجدان؛ فيقوي بالله إيمانه، ويعمر به جِنانِه، ويجتهد في عبادته، ويشغل جوارحه في طاعته؛ فيكثر من ذكره، ويضاعف من صبره، ثم يسعى لحل مشكلاته، متخذًا الأسباب لنجاته، واضعا ثقته بربه، محسنا به ظنه، أي يعقلها ويتوكل؛ فلا يزال على ذلك حتى تأتيه السعادة راغمة، متطلعًا للسعادة الدائمة، مهما كان يعاني من مشكلات، أو قصمت ظهره الابتلاءات؛ فقد وعده الرحمن ووعده الحق قائلًا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً َلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل: 97).

     «يُذكر أن زوجاً قال لزوجته بغضب: لأشقينَّك! فقالت الزوجة في هدوء وإيمان وعزة: لا تستطيع أن تشقيني كما لا تستطيع أن تسعدني؛ فقال الزوج في حنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون! فقال الزوج

     في دهشة: وما هو؟ فقالت في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي» (د. بدر عبد الحميد هميسه، سعادتي في إيماني/ https://saaid.net) إنه اليقين، يبعث على الطمأنينة والثقة بالله -تعالى-، ويحيل النكد والشقاء، إلى راحة وهناء.

مصدر سعادة الإنسان

     ومن الأمثلة على اعتبار قوة الإيمان بالله -تعالى- مصدر سعادة للإنسان، أن إحدى المستخدمات التي كانت تعمل لدى أحد الأقارب - وكانت نصرانية - كنا نراها دائما حزينة مثقلة بالهموم، وقد اكتست الكآبة وجهها، وفارق الابتسام محياها؛ فقد تجاوزت الخمسين من العمر وهي ما زالت متغربة عن وطنها منذ سنوات طويلة، قد تركت أبناءها لطلب الرزق، ولكن - وبفضل الله ومنته - هداها الله للإسلام؛ فتركت عقيدة النصرانية، وعادت إلى فطرتها السليمة؛ فعبرت عن مشاعرها فور اعتناقها الإسلام باكية بقولها: «أشعر وكأني ولدت من جديد، كما أشعر بسعادة غامرة لم أعهدنا في حياتي من قبل»، أصبحنا نراها بعد الإسلام مبتسمة سعيدة، بالرغم من أن ظروفها المعيشية لم تتغير، وأحوالها المادية لم تتبدل، إلا أنها وجدت ضالتها في التوحيد، وسعادتها في السجود.

الشعور بمعية الرب -سبحانه

إنها والله لسعادة تغمر كيان العبد، حينما يشعر بمعية ربه له، ويتذكر قوله -جل وعلا-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(الحديد: 4)؛ فتتبدد مخاوفه، ويطمئن قلبه، وينشرح صدره، وتسعد نفسه.

     إن هذه المشاعر الجميلة قد افتقدها الكثير من المسلمين اليوم لابتعادهم عن تعلم الدين، والعمل به، والاستقامة عليه، وماعلموا أن السعادة الحقيقية ثوب لا يُلبِسُه الله إلا من تعلق قلبه به، فحسن إسلامه، وطبق شرعه، ووقف عند أحكامه؛ فامتثل بأوامره، واجتنب نواهيه؛ فمن يتخذ الإسلام دينًا، والاستقامة منهاجًا، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هديًا، لابد وأن يذيقه المنان لذة الإيمان، وحلاوة الطاعة والالتزام.

الأتقياء هم السعداء

     إنها حقيقة جلية قد قررها الله -تعالى- بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد: 28)، إن الأتقياء هم السعداء، الذين علموا أن الدنيا دار كدح وشقاء، واختبار وبلاء؛ فأنزلوها منازلها ولم يتعلقوا بها، بل تعلقت أفئدتهم بالغاية السامية التي وعدهم ربهم بها، ذلك التعلق الذي تضاءلت مقابله كل هموم الدنيا ومشكلاتها؛ فأنساهم كبد العيش الذي أقره الله -تعالى- في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.

     هم علموا تماما أن الدنيا بما فيها من أفراح ومسرات، أو أتراح ومنكدات، لا تستحق أن تفسد عليهم السعادة الحقيقية الدائمة في جنات الخلد؛ لذلك أصبح جُلّ اهتمام السعداء الانقياد إلى ربهم لبلوغ رضاه، ذلك الرضا الذي يوصلهم إلى تذوق حلاوة الإيمان، والطمأنينة وراحة البال في الدنيا، وإلى الفوز في الآخرة بالنعيم المقيم في الجنات العليا، حين يقال لكل منهم:

طب في رغيد العيش دون مشقة

                                               تكفى مشقة سالف الأزمــــان

والبس ثياب الخلد واشرب واغتسل

                                               وابعد عن الأكدار والأحــــزان

سر وانظر الأنهار واشرب مـاءها

                                               من فوقها الأثمار في الأفنان

والشهد جار في العيون مطهــر

                                               مع خمرة الفردوس والألـــــبان

وهنا مقر لا تحول بعــــده

                                               فيه الســـرور برؤية الرحمــن

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك