رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد السعيدي 31 أغسطس، 2020 0 تعليق

مناهج الإصلاح السلفيَّة وأثرها في نهضة الأمة

                                                           

كما يعتاد الأكاديميون بأن يُبدأ بشرح العنوان، نشرح عنواننا فنقول: ما المقصود بكلمة (مناهج الإصلاح)؟ مناهج الإصلاح هل تعني طرائق الإصلاح؟ أم أنَّ هناك معنى أشمل من كلمة الطرائق؟ الحقيقة أنَّ كلمة المنهج أشمل من الطَّريقة؛ وذلك أنَّ المنهج هو مسلك مهيع (أي واسع) يشتمل العديد من الجوادِّ، والجادَّة هي طريق السَّابل.

     إذًا فالمنهج لا ينحصر في طريقٍ واحد، ومن الأخطاء التي تقع عند كثيرٍ من دعاة الإصلاح أنَّه يتصوَّر أنَّ الإصلاح له طريقٌ واحد، فإذا خرج أحدهم عن الطَّريقة التي يرتضونها قالوا خالفَ المنهج! وهذا فهمٌ لُغويٌّ قاصر لكلمة المنهج؛ لأنَّ المنهج هو المهيع الواسع الذي ينهجه الناس، ويكون في هذا المنهج -كما قلنا- جوادُّ كثيرة للسابلة، أي الذين يعبرون السبيل، فحينما نتكلم عن مناهج الإصلاح أعتقد أنَّه من المستحسن أن نقول: طرائق الإصلاح في المنهج السَّلفي؛ لأنَّ السلفية منهجٌ واسعٌ كبيرٌ للإصلاح يشتمل على طرائق، وهذه الطرائق ما الذي يحدِّدها؟ تحدِّدها قواعد عامَّة في كتاب الله -سبحانه وتعالى-، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، منها:

القاعدة الأولى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}

- قول الله -عز وجل-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: 112)، أن تكون الاستقامة والإصلاح تؤدي إلى طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30)، فهذه قاعدة مهمة، وقاعدةٌ في المنهج، وهي: أن تكون هذه الطرائق التي للإصلاح لا تخالف أمرَ الله، بل تتوافق مع أمر الله-سبحانه وتعالى-، ومع أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

القاعدة الثَّانية: الدنيا معبر للآخرة

     أن تكون مناهج الإصلاح لجعل الدنيا معبرًا للآخرة، بمعنى: أنَّ طرائق الإصلاح الكثيرة هذه لا يصح أن نصلح بها هذه الحياة لأجل الحياة؛ بل تكون الحياة الدنيا لأجل الآخرة، فإذا كان الإصلاح للإصلاح ذاته أو للدنيا ذاتها، فلا شكَّ أنَّه سينقلب إلى إفساد، هذه قاعدةٌ أخرى.

القاعدة الثالثة: التفكر والتدبر

- حينما نتعرَّف على طرائق الإصلاح الكثيرة: أنَّ الله -عز وجل- أذن لنا بل وأمرنا بالتَّفكر والتَّدبر، ولكن هذا التفكر والتدبر إنَّما يكون في عالم الشَّهادة وليس في عالم الغيب؛ لأنَّنا إذا جعلنا التفكير في عالم الغيب فإنَّنا لن نصل إلى نتيجة بل سنصل إلى إفساد، هذه القضية يهمني أن أقف عندها قليلاً.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

     الله -عز وجل- حينما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: 73) قال أيضًا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27)، إذًا حينما نريد التفكير، ونريد التَّفكُّر، ونريد التدبُّر، ونريد البحث، يكون بحثنا وتفكيرنا وتدبرنا إنَّما هو في عالم الشهادة، فما هو عالم الشهادة؟

     عالم الشهادة هو العالم الذي يُمْكِنُنا بأي طريقةٍ من الطرائق أن نشهدَه؛ سواءً بأعيننا مباشرة، أم بالتليسكوب، أم بالرواية عن الآخرين، أم أن نحسَّه، هذا عالم الشهادة، عالم الغيب هو الذي لا يمكننا بأي طريقة من الطرائق أن نحسَّه، لا بتلسكوب ولا بأيِّ وسيلةٍ من الوسائل، فعالم الغيب نقتصر فيه على ما يُعْلِمنا الله -سبحانه وتعالى- عنه، أمَّا عالم الشهادة فلدينا فسحة كبيرة جدًّا في التَّفكير والبحث والمناقشة، كل هذه متاحة، وربَّما لو فكر أحدٌ سوف يأتي أيضًا بقواعد أكثر تحكم منهج الإصلاح في السلفية.

القاعدة الرابعة: مقاصد الشريعة

نضيف لهذه الثَّلاثة التي تكلمنا عنها القاعدة الرابعة، وهي: ألا يَؤُول هذا المنهج أو هذا الطَّريق إلى ما يبتعد بالنَّاس عن مقاصد الشَّريعة الإسلامية، ومقاصد الشريعة الإسلامية هي: (حفظ الضرورات، والحاجات، والتحسينات).

هل الشَّريعة جاءت بحفظ الضَّروريات؟

- بعضهم حينما يتكلم عن هذه القاعدة يقول: الشَّريعة جاءت بحفظ الضَّروريات، فهل هذه صحيحة؟

- لا، وهذه ربما تجدونها في بعض المحاضرات أو غيرها، بأن يقتصر الشيخ أو المحدث على حفظ الضروريات، حتى صارت هذه الكلمة دائرة على النَّاس وكأنَّ الشريعة لم تأتِ إلا بحفظ الضروريات، وهذا غير صحيح، فالشريعة قد جاءت بحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فإذا كان هذا الإصلاح يعود إلى إتلاف التحسينيات، بمعنى أنَّ الناس لا يجدون توسعة وجمالًا في حياتهم فهو ليس بإصلاح! وأغلظ منه حينما يؤدي إلى إتلاف الحاجيات، وأغلظ منه حينما يؤدِّي إلى إتلاف الضروريات! فحينما يكون هذا الإصلاح لا يعود على التَّحسينيات وعلى الحاجيات وعلى الضروريات بالإتلاف فهو سائر على المنهج الصحيح.

ما هو الإصلاح؟

- إذًا ما هو الإصلاح الذي نحن نتكلم عن منهجِه وطرائقِه؟

- الإصلاح كلمة في أصول الفقه من المطلق، أو أحيانًا يقال: من العام، وعمومه جاء بأل التعريف (الإصلاح) أي: مطلق الإصلاح؛ إصلاحٌ ديني، إصلاحٌ اقتصادي، إصلاحٌ اجتماعي، كل هذه إصلاح، وكلها كما قلنا لا تخرج عن القواعد الأربع التي هي: ألا تكون إلا في رضا الله -عز وجل-، وأن تكون على نهج الكتاب والسُّنة، وأن تكون مرادًا بها الآخرة، حتى الاقتصاد يراد به الآخرة، حتى الصناعة يراد بها الآخرة، حتى تحقيق التحسينات.

- هل الإسلام لا يهتمُّ بالمخترعات؟

- أحيانا يقال لك: المنهج السلفي أو الإسلام لا يهتمُّ بالمخترعات! وهذا غير صحيح، بل يهتم بالاختراعات؛ لأنها تقدم التحسينات، وتقدم الحاجيات، أحيانًا تنقلب هذه التحسينات فتصبح ضرورة من الضروريات في يوم من الأيام، وهكذا.

حينما سادت السلفية

     حينما كانت السلفيَّة تسود العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي فتح الآفاق، والعالم الإسلامي صنع السَّاعة في عهد هارون الرشيد، والعالم الإسلامي قاس محيط الكرة الأرضية، والعالم الإسلامي وضع قانونًا لحفظ مياه النيل، ووضع علم الجراحة، وعلم الطب، والعالم الإسلامي قاس محيط الكرة الأرضية فاكتشف أنَّ الأرض كروية، متى كل هذا؟

القرون الأربعة الأولى

     نستطيع أن نقول إنَّ ذلك كله في العهود السلفيَّة التي هي القرون الأربعة الأولى، وتأخرت قليلاً في الأندلس؛ لأن السلفية تأخَّرت في الأندلس إلى القرن الخامس أو السَّادس، ثم جاء ابن زهر الجرَّاح في الأندلس، ثم بعد ذلك حينما جاءت المناهج البدعية التي صرفت عقول الناس إلى عالم الغيب، فصار أذكياء الناس في ماذا يختلفون؟ هل الله له قدم؟ هل الله ليس له قدم؟ هل الله استوى على العرش؟ هل الله لم يستو على العرش؟ هل الله كذا وهل الله كذا؟

     وصارت المذاهب كلها تبحث في هذا، أناسٌ بحجم الفخر الرازي وعقليَّته وقدراته تجد كل شغله في ماذا؟ كان طبيبًا لكنَّه ترك كل شيء وجلس يشتغل في عالم الغيبيات التي لم يقتصر فيها على ما علَّمنا الله -عزوجل-، لكن أراد أن يثبت أن الله -عزوجل- ليس له صفات حقيقة، وأنَّ هذه الصفات مجازية، وأنها كذا.. فانشغل العالم فيها.

المسلمون بعد القرن الرابع

     تبحث في التاريخ تجد شيئًا مأساويًّا جدًّا، وهو أنَّ المسلمين بعد القرن الرابع -أي في القرن الخامس والسادس- أين كتبهم ومؤلفاتهم في الفيزياء والفلك والكيمياء وغيرها؟ تعطَّلوا وعطَّلوا عقولهم بسبب ترك عالم الشهادة الذي أمرنا الله -عز وجل- به {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)، فالله -عزوجل- أعطاك عالَم الشهادة، والكثير من الآيات تعلمك عالم الشهادة، وتريد أن تتفكَّر فيه، ثم يأتيك أحد ويقول لك: لماذا لا نفكر في كذا؟ يا أخي هذا عالمٌ غيبي، تفكر في عالم الغيب؟

سبب تأخر الأمة الإسلامية

- وكثيرٌ من النَّاس يقولون لك: الأمَّة الإسلامية لمَ تأخرت؟ تأخرت بسبب الدين؟

- لا، هي تأخرت بسبب ترك الدين، أعني ترك الأمر القرآني، القرآن الكريم مليءٌ بآيات التفكر والتدبر، فذهبوا يختلفون، وذهبوا يفكِّرون في عالم الغيب ويتركون عالم الشهادة، وهذه نستخدمها دائمًا حتى في الشبهات التي تُلقى علينا، والكلام الذي نقرؤه، لنعرف أنَّ الإسلام لم يجعل لك حدًّا في التفكير في عالم الشهادة، كيف صُنع هذا؟ وممَّ يتكون التراب؟ وممَّ يتكوَّن الغاز؟ كيف يتكوَّن النيتروجين مع الأكسجين وماذا يحدث؟ والنجوم ومسافاتها، هذه كلها أنت مأمورٌ بالتفكر فيها بلا إشكال.

هذه طرائق الإصلاح

إذًا هذه طرائق الإصلاح، ومن خلال هذه القواعد يمكن لك أن تفعل ما تشاء، والآن نتساءل: كيف يمكن أن تكون هذه الطرائق التي نبتكرها وفق هذه القواعد الأربع مُصِلحة للكون؟ وتساهم في نهضة الأمة الإسلامية؟

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك