رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: قاسم الرمضان 12 مايو، 2019 0 تعليق

ملاحظات علمية على رسالة: (نقد مشروع التصفية والتربية)

لقد وقفت على كتابة مختصرة جدًا بعنوان: «نقد مشروع التصفية والتربية» لصاحبها خالد بن عبد الله باحميد الأنصاري, وقد نعت نفسه بأنه «مؤسس اتحاد طلبة العلم في حضرموت», وقد نُشرت هذه الرسالة مرتين في زمن قريب آخرها 1/1/1440هـ الموافق 11/9/2018م، ولما اطلعت على ما فيها وجدتها قد جانبت الصواب في معظمها, وحالها -كما قيل قديما-: حال أراد أن يبني قصرا فهدم مصرًا ! أو كما قيل: أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل .. ما هكذا يا سعد تورد الإبل، ولذا رأيت من الواجب عليَّ أن أكتب جملة من الملاحظات العلمية والنقدية تكشف ما حوت هذه الرسالة من تخليطات وتخبُّطات وجنايات على الدعوة السلفية المباركة؛ سائلا ربي تعالى أن يكتب لها القبول, وأن يرد بها صاحب الرسالة ومن وافقه إلى الرشد والصواب, وأن يهدينا وإياهم سواء الصراط.

تقصير شديد

1- قصَّر الكاتب تقصيرا شديدا في بيان معنى التصفية والتربية فقد جعلها معلومة صحيحة تُعْلَم وتُتَبنَّى, وأهمل ضرب الأمثلة الموضحة بخلاف فعل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى عندما أطلق هذا المشروع ووضَّحه وبيَّنه ودلَّل عليه, وصنيع الكاتب يؤثر جدا على فهم المتلقي بحيث يظن القارئ أن التصفية والتربية قضية نظرية أكثر من كونها بابا عمليا تطبيقا فيه العدد الذي لا يحصى من الصور والأمثلة.

تناقض الرسالة

2- تناقض الكتاب في تبني السلفية ودعوة الناس إليها من جهة, وفي ظلمها والتحامل عليها وتشويهها من جهة أخرى, وإن كان يدعي السلفية التجديدية فهي دعوى فارغة لأن ما بني على باطل فهو باطل؛ فكان عليه أن يُطَرِّد أصوله, وأن يتبرأ من السلفية وإلا فهو التناقض الواضح !

ومن نافلة القول أن يقال: إن من عجيب صنيع الكاتب أنه رد على خصومه وهدم منهجهم ودعا الناس إلى منهجه التجديدي الفذ! , ولم يكتب كلمة في وصف منهجه ومشروعه الإصلاح!، فكأني به يريد الهدم لمجرد الهدم!

وقد يقول قائل: سيبين الكاتب منهجه في موضع آخر!

فيقال جوابا عليه: كيف يدعو الناس لتبنيه قبل بيانه ؟!

حصر الخلل

3- حصر الكاتب الخلل في جانب معين ليس أساسيا بل ثانويا فرعيا, وهو عدم وجود مشروع إصلاح سياسي في الدعوة السلفية المعاصرة مع أن العنوان يوهم أن الكاتب أراد نقد مشروع التصفية والتربية برمته, والذي يمثل جوانب كثيرة جدا متباعدة المواضيع والاهتمامات, ولعله أن يصح التعبير عن مشروع التصفية والتربية بأنه مشروع المشاريع؛ إذ هو أساس يتفرع منه الكثير من المشاريع.

مضمون التصفية والتربية

4- التصفية والتربية مضمونها إرجاع الناس إلى المعين الأول الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه –رضي الله عنهم- من علم الكتاب والسنة والعمل بهما حيث لم تكن قد انتشرت في زمانهم الضلالات والشركيات والمنكرات والبدع والأهواء والسلوكيات المشينة والأخبار المكذوبة, ومن ثم الاستفادة من جهود العلماء الذين كان هذا همهم على مر العصور, هذا فيما يخص الجانب العلمي النظري وهو المقصود العام بكلمة التصفية, وبعدها دعوة الناس إلى هذا الصفاء والنقاء وتربيتهم على ذلك بالأساليب الشرعية المتزنة التي تتضمن التدرج والرفق والصبر وطول النفس والتثبيت المستمر للأصول العظيمة والقواعد المهمة؛ ليقوم بناء الإسلام على أسس راسخة جدا تستعصي على الباطل وأهله, وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله تعالى, وهذا هو الجانب العملي التطبيقي وهو المقصود العام بكلمة التربية.

مجالات التصفية والتربية

5- إذا علم ذلك فإن مجالات التصفية والتربية واسعة ومتشعبة جدا ولكنها ولله الحمد مرتبطة ببضعها البعض؛ فتبدأ بأهم الأمور وأعظمها وهو توحيد الله تعالى الصافي الذي هُذِّب وصُفِّي ونُقِّي من الشركيات والاعتقادات الفاسدة والعبادات الباطلة, ومن ثم التصفية في جانب كتاب الله في حسن تلاوته وأدائه وسلامة تفسيره وبيان مراده, وفي إحلاله بالمحل اللائق به في مصادر التشريع والاستهداء, وكذا الأمر في السنة النبوية من ناحية الحجية والتصحيح, والشرح والتوضيح, والعمل والتطبيق, وقل مثل ذلك في سائر العلوم والأبواب الشرعية تنقية وتهذيبا, وترتيبا وتبويبا وتقريبا, ونفيا للدخن والدخل والخلل؛ ليكون الناس على هدى من الله تعالى بعيدين كلَّ البعد عن الشبهات والشكوك والجهالات, سائرين أجمل سيرة في معاملاتهم وأخلاقهم وسلوكهم.

معالم التصفية والتربية

6- من معالم التصفية والتربية العظيمة وأصولها مراعاة الأولية والترتيب والتدرج في كلا الجانبين, ولذلك لا إهمال في خطة التصفية والتربية لجانب من الجوانب كالإصلاح السياسي, وفي الوقت نفسه لا تقديم له أو لغيره على ما هو أهم منه فكيف إذا قدم على ما هو أصل له وأساس لا يمكن أن يقوم إلا عليه كما هو الحال بالنسبة للتوحيد في العبادة الذي غُيِّر وبُدِّل وصار خليطا من الشركيات والوثنيات باسم الإسلام والدين ؟! ومع هذا كله يريد مدعو الإصلاح السياسي تجاوز ركام الشرك والإلحاد إلى إصلاحهم المزعوم فحالهم كحال من بنى قصراً وهدم مصراً !! فيا لهذه العقول ما أظلمها وأجهلها !

مشروع أمةٍ

7- بما أن مشروع التصفية والتربية من السعة والعظمة بمكان فإنه لا يقدر عليه قلة من الناس, ولا طائفة من الأعيان بل هو مشروع أمةٍ من الناس كثيرين بينهم اتحاد في المشرب والمنهج, وافتراق في الوجهة والمقصد, كلهم ساعٍ إلى هدف واحد, وهو الرجوع بالناس إلى أمرهم الأول, العتيق الذي عليه المُعوَّل؛ فلو حصل قصور أو تقصير لدى طائفة من السلفيين فإن الأخرى تغطيه وتكلمه, وما يحتاج إليه في زمان هؤلاء ومكانهم يختلف عن غيرهم, ولذا لا يجوز انتقاد هؤلاء مع تجاهل أولئك وجهدهم وعملهم ! والحاصل أن الدعوة السلفية دعوة تكامل لا تآكل, ودعوة تعاون وتآزر, لا تنافر وتشاجر, وكلٌّ على ثغرة, وأهل مكة أدرى بشعابها, ولكل زمان دولة ورجال, وما كل ما يُعلم يقال.

     ويصدق ما سبق كلام الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في وصف الطائفة المنصورة فقال: وقال النووي : «ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين : منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فـقـهـاء، ومنهم محدّثون، ومنهم زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهـون عن المنكر, ومنهم أنواع أخرى من الخير»، وقال أيضا: «يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدّث ومفسّر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد».

الإصلاح السياسي

8- يعتقد السلفيون أن الإصلاح السياسي ليس غاية في نفسه كما هو الحال بالنسبة للكثير من الحزبيين والحركيين والثوريين وطلاب الكراسي والمناصب, وإنما الغاية عندهم إقامة الدين, وعبادة الله وحده لا شريك له, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, وأما السياسة التي هي رعاية شؤون الناس في دينهم ودنياهم ومعاشهم, فإنها وسيلة إلى المقصد الرئيس لا مقصدا بذاتها, ولو قُدِّرَ أن تحقق المقصد مع خلل في الوسيلة أو بوسيلة أخرى لم يلتفت إلى ذلك, ولم يتوقف أهل العلم والدين عن مقصدهم ومشروعهم الحقيقي, وأبرز مثال على ذلك قيام الدين في دول الكفر وانتشاره وظهوره مع أن عامة أهله ليس لهم مشاركة سياسية أو مشروع سياسي في تلك البلدان, وهذا واضح جلي للعيان.

أهمية الإصلاح السياسي

9- ما تقدم لا يقلل من أهمية الإصلاح السياسي في المشروع السلفي الكبير, ولكنه يبين رتبته وحقيقته حتى لا يُتخّذَ أولويةً وهو ليس كذلك, وحتى لا يُدخَل فيه ما ليس منه, أو يخرج منه ما هو فيه, فالإصلاح السياسي  بالمفهوم الصحيح جزء من الدين لا يتجزأ, وأصل من أصول السنة لا يقلل منه, وأعظمه وجله في أصل معاملة الحكام وولاة الأمر برهم وفاجرهم؛ فقد أفاضت النصوص الشرعية والآثار السلفية في تقرير هذا الأصل بما يجري فيه على سنن الإصلاح بالممكن والمستطاع, واستثمار ما يكون من ظلم الولاة والشدائد والمتاعب التي يلقاها المؤمنون بتمرين النفوس على الصبر والاحتمال وليس الثوران والهيجان والانفلات, وكذلك بتعظيم أصل الاحتساب الأخروي, وتأكيد عبادة التوبة الصالحة النصوح, وإشاعة ثقافة النصح بالحسنى والأساليب المحببة, وبذلك وغيره من الأصول الراسخة يخف الشر والفساد المتعلق بالولاة وسياسة الرعية, ويحل محله الخير والصلاح بحسب ما بذل له من هذه الأساليب الشرعية, وتتخلص نفوس الرعية من أهوائها ورغباتها الجامحة, وتزكو وتطهر وتعظم درجاتها عند الله تعالى, وتكون مهيئة لأن تكون أمة تقود وتحكم, وتخطط وترسم, وتعلو وترتفع, ويقع هذا الإصلاح السياسي الحكيم متزامنا مع غيره من أنواع الصلاح والإصلاح التي لا بد منها ولا مفر عنها, فتنمو شجرة الإصلاح نموا طبيعا متناسقا, قويا متماسكا؛ فأي شيء أحسن من هذا وأجمل ؟!

شبهة وجواب

10- قد يقول بعضهم: كيف تزعمون وجود الإصلاح السياسي في مشروع التصفية والتربية, وأشهر من نادى بالمشروع وأطلق عليه هذا الاسم قد كان تاركا للسياسة لا يراها بحال, ولا يعول عليها بمقال ! وهو صاحب المقولة المشهورة: «من السياسة ترك السياسة» !

     والجواب عما ذكر أن يقال: إن مقصود الشيخ الألباني بهذه المقولة قد أوضحه الشيخ وبيَّنه مرارا وتكرارا, ولا يجوز لأحد أن يحمل كلامه ما لا يحتمل, ولا سيما وقد بينه بما لا يدع مجالا للتأويل! ومقولة الشيخ يراد بها ما تقدم وصفه في بعض الملاحظات السابقة, ومن تأملها علم أن السلفيين ينادون بالسياسة, ولكن الشرعية منها, وليس مطلق السياسة, فكلمة الشيخ من العام الذي أريد به الخصوص, ولولا ذلك لكان القول باطلا حتى في اللغة !

فعندما أقول: «من السياسة ترك السياسة» على وجه الإطلاق أكون متناقضا؛ إذ كيف أجعل الشيء حجة في ترك نفسه ؟! لأني متى استعملته لم أتركه في الحقيقة !

وبالمثال يتضح المقال, فلا يقال: «من الحكمة ترك الحكمة» ! إلا إذا أريد بالحكمة الأولى شيئا غير الثانية, وهنا سر القول.
     وقصد الشيخ أنه من السياسية الشرعية في هذا الأوان الذي هو أوان الضعف والمهانة والجهل وشيوع الشرك والبدعة والمعاصي, تركُ السياسية العصرية التي لا تعتني بإصلاح هذه الطوام والكوارث, وتستعمل الأساليب الخبيثة في الوصول إلى مآربها؛ فأي شيء تفيد مثل هذه السياسة الدنيوية في الصلاح والإصلاح, وإن صرخت بالحقوق, ورد المظالم, وكرامة العيش, والعدالة الاجتماعية ؟!! وقد نقول إن معنى عبارة الشيخ»من السياسة الشرعية الربانية ترك السياسة الميكافيلية الشيطانية» !

ومن فسر كلام الشيخ بغير هذا المقصود الذي يتفق مع توضيحاته العلمية والعملية فقد افترى عليه الباطل, وألزمه بما لا يلزم, والعيب والنقص في مفسر الكلام لا قائله !

خاتمة القول

     وفي الختام: نؤكد أنه لا يوجد عمل بشري معصوم, وليس ثمة مشروع تام لا خلل فيه ولا نقص, ونؤكد أن كل جهد علمي وعملي يعتريه الخطأ والذهول والقصور بحسبه, ولكن ليس معنى هذا أن نعالج الخطأ والقصور بهدم العمل كله: صالحه وطالحه, وخطئه وصوابه, ومن فعل مثل هذا فلا شك في فساد طريقته إما لجهل استحوذ عليه أو سوء قصد أعماه عن العدل والإنصاف, وهذا ما لا نرضاه لمسلم يتبغي الله والدار الآخرة, وما ندعو إليه كاتب هذه الرسالة أن يتدبر ما كتابناه ووصفناه, وأن يعمل فيه الفكر طويلا, وأن يعلم أن رفعته وشرفه بالمواصلة على سير الأئمة الربانيين, والاستفادة من علومهم وحكمتهم وخبرتهم الواسعة, لا التنمُّر والتهور والتعجل !

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك