اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان
2 أكتوبر، 2023
0 تعليق
مكانة السُّنة في التشريع الإسلامي .. شبهات وردود
لا نزاع ولا خلاف أن السنة النبويَّة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن الواجب على الأمة جميعها الأخذ بها، والاعتماد عليها والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله -[-، وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرة من كتاب الله، وأحاديث صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، كما دل إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها، والإنكار على من أعرض عنها أو خالفها، وغير خافٍ أنّ خروج منكري السنة إلى العلن، أصبح سمةً ظاهرةً في هذا العصر، وقد بيَّن الصحابة والتابعون ومن بعدهم حقيقة هذا المسلك، وأهدافه وغاياته المصادمة للشريعة، لكن قد ينخدع بعض المعاصرين بهم بدعوى تعظيم القرآن والاقتصار عليه، ووجوب تحكيم شريعة القرآن؛ لذلك كان لابد من بيان أهمية السنة وحجيتها وضرورة التصدي للحملات الساعية للطعن فيها وإنكارها.
مكانة السُّنة في التشريع الإسلامي
- للسنة النبوية الكريمة منزلة كبرى في الإسلام إذ هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وهي وحي الله تعالى إلى نبيه الكريم
- قرآن الكريم المصدر الأوَّل والرَّئيس للتَّشريع الإسلامي وقد أبان بما لا يدع مجالاً للشَّك عن مكانة السنة ومنزلتها
- الله سبحانه وتعالى أثبت لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم طاعةً مُستقلَّة فيما أمَرَ ونَهَى إذْ هو المُبلِّغُ عن ربِّه سبحانه وتعالى والمُؤتَمنُ من ربِّه عمَّا يُبلِّغ عنه
- اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من لوازم محبَّة العبد لربِّه سبحانه وأن الله تعالى يحب عبادَه بعد اتِّباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم
- من أبرز مظاهر عناية العلماء بالسنة المطهرة الردُ على المنكرين والطاعنين في السنة النبوية الرادّين لها
- أجمعت أمة الإسلام قاطبة من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين والأئمة المجتهدين وسائر علماء المسلمين على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها والتحاكم إليها
- التَّصديق بالسُّنة هو ركنٌ أصيل من أركان الدِّين فليست المسألة مسألة أحكام وتشريعات أو أوامر ونواهٍ وإنما هي قضية عقيدة في المقام الأول
- يجب الأخذ بكلِّ ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن كل ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم سواء جاء ذلك في القرآن أم لم يأت فيه
- من عناية العلماء بالسنة المطهرة المعرفة التامة بنقلة الأحاديث ورواة السنة وأحوالهم وأخبارهم وتمييز الثقات والمقبولين عن الضعفاء والمجروحين منهم
إن للسنة النبوية الكريمة منزلة كبرى في الإسلام؛ إذ هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهي وحي الله -تعالى- إلى نبيه الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم: 3-4)، أمر الله -تعالى- بالعمل بها، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(الحشر: 7)، وأمر بطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والاحتكام إلى سنته عند الاختلاف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(النساء: 59)، وأمر النبيُ الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بها، فقال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(رواه أبو داود).
وهناك آيات كثيرة، وأحاديث متعدِّدة تأمر بالتمسك بالسنة، والاحتجاج بها، ناهيك عمَّا ورد من إجماع علماء الأمَّة على وجوب طاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والسَّير على نهجه، واقتفاء أثره، ونقتصر هنا على بعض الأدلة.
أولاً: حجية السنة في القرآن
القرآن الكريم المصدر الأوَّل والرَّئيس للتَّشريع الإسلامي، وقد أبان -بما لا يدع مجالاً للشَّك- عن مكانة السنة ومنزلتها في آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة، ويُتعبَّد بها؛ لتكون دليلاً بازغاً، وبرهاناً ساطعاً في وجه المُبطلين الذين اتَّخذوا من هذا الدِّين عِضِين، فجزَّؤوه وفرَّقوا بين كتاب الله -تعالى- وبين سُنَّةِ النبيِّ الأمين - صلى الله عليه وسلم -، فكان القرآن لهم بالمرصاد، فقَطَعَ عليهم الطريق، وردَّ إليهم الكيد، وعَظَّمَ منهم الفِرية، وقد تعدَّدت الآيات التي تدلُّ على حُجيَّة السنة ومكانتها في دين الله -تعالى-، ومنها:
قوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
وجه الدلالة: أقسم الله -تعالى- بنفسه الشريفة على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ نزاعٍ بينهم، وينتفي عن صدورهم الحرجُ والضِّيقُ عن قضائه وحُكمه، ويُسلِّموا تسليمًا.
قال ابن كثير - رحمه الله: «يُقْسِم -تعالى- بنفسه الكريمة المُقدَّسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّمَ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فما حَكَم به فهو الحقُّ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)، أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظَّاهر والباطن، فيُسَلِّمون لذلك تسليماً كلِّيًّا من غير ممانعةٍ، ولا مدافعةٍ، ولا منازعة».
قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59).
وجه الدلالة: أن الله -تعالى- أمر بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأعاد الفِعْلَ إعلاماً بأنَّ طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجب استقلالاً من غير عَرْضِ ما أمر به على القرآن، فتجب طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في القرآن أم لم يكن فيه.
قال الشاطبي -رحمه الله-: «وسائر ما قُرِنَ فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أنَّ طاعةَ الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعةَ الرسول ما أمر به ونهى عنه ممَّا جاء به ممَّا ليس في القرآن؛ إذْ لو كان في القرآن لكان من طاعةِ الله، والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سُنَّته بعد موته»، وفي هذا دلالة على أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد أثبت لنبيِّه الكريم - صلى الله عليه وسلم - طاعةً مُستقلَّة فيما أمَرَ ونَهَى؛ إذْ هو صاحِبُ الشريعة، والمُبلِّغُ عن ربِّه -سبحانه وتعالى-، والمُؤتَمنُ من ربِّه عمَّا يُبلِّغ عنه.
قوله -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31).
وجه الدلالة: أن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من لوازم ونتائج وثمرات محبَّة العبد لربِّه سبحانه، وأن الله -تعالى- يحب عبادَه بعد اتِّباعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم .
والآية الكريمة فيها ترغيبٌ وتحبيبٌ للمؤمنين إلى طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذْ جَعَلَ طاعةَ الرسول واتِّباعَه سبباً في حُبِّ الله -تعالى- لهم، وفي الوقت نفسِه هي نتيجةٌ لِحُبِّهم لله سبحانه؛ إذْ أنَّ من دواعي حبِّهم لله -تعالى- أنْ يتَّبعوا رسولَه - صلى الله عليه وسلم .
قوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63).
وجه الدلالة: تحذير مَنْ خالف شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تصيبهم فتنة في الدنيا، أو عذاب أليم في الآخرة.
قال ابن كثير - رحمه الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِلَ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعِلِه كائناً مَنْ كان.
{وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7).
وجه الدلالة: وجوب الأخذ بكلِّ ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والانتهاء عن كل ما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء جاء ذلك في القرآن أم لم يأت فيه، مما يدلُّ على حجية السنة النبوية.
ثانيًا: حجية السنة في الأحاديث النبوية
الأحاديث الدالة على وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة ومتنوعة، وتدل بمجموعها دلالة قطعية على حجية السُّنة، وأنها شقيقة القرآن في الحُجَّة، ومن ذلك ما يلي:
- «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»
ما جاء عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ! فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» الحديث (11).
وجه الدلالة: أن الله -تعالى- أعطى نبيَّه الكريم - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ ومِثْلَه معه، وهذا المُماثل للقرآن الذي أعطاه الله -تعالى- إياه هو السُّنة، والحديث القدسي مُندرِج في السُّنة، قال الخطابي - رحمه الله - في شرحه للحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو، ويحتمل أن يكون معناه: أنه أوتي الكتاب وحياً يُتلى، وأوتي من البيان، أي: أُذِن له أن يُبَيِّن ما في الكتاب ويعمَّ ويخصَّ، وأن يزيد عليه فيُشَرِّع ما ليس له في الكتاب ذِكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به، كالظاهر المتلو من القرآن}.
- {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى}
ويدلُّ على هذا قوله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)؛ حيث نفى الله -تعالى- عن نبيِّه الكريم - صلى الله عليه وسلم - اتِّباعَ الهوى، وأتبع ذلك ببيان أنَّ كلَّ ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلَّ ما بلَّغه من أحكامٍ إنما بوحي من الله -تعالى-، ولَمَّا كان القرآن العظيم قد خلا من أحكامٍ بعينِها وأشارت إليها السُّنة وجاءت بها صريحة، وكذا أبانت السُّنة عمَّا في القرآن من إجمالٍ وتفصيل، وشرحت مقاصِدَه، وفصَّلت أحكامَه، دَلَّ ذلك بمنطوق القرآن أنَّ هذا كلَّه بوحيٍ من الله -تعالى- إلى رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وليس بهوىً أو اجتهادٍ؛ لذا وجب على المؤمنين اتِّباعه فيه، بتنفيذ أوامره، والانتهاء عن نواهيه.
- تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلاف أمره
ما جاء عن أبي رافِعٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
وجه الدلالة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حذَّر من خلاف أمره، كما حذَّر من خلاف كتاب الله -عز وجل-، فليحذر أن يخالف شيئًا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحِقَّ عليه ما يحقُّ على مُخالف كتاب الله.
وهؤلاء المعرِضون عن السُّنة هم المنافقون، الذين حذَّرنا منهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما جاء في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: الْقُرْآنَ وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِين».
ثالثًا: حجية السنة بالإجماع
أجمعت أمة الإسلام قاطبة -من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين- على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها، والتحاكم إليها، والسَّير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين، بل لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين يُنكر الاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها إلاَّ نفراً ممَّنْ لا يُعتدُّ بخروجهم على إجماع المسلمين من الخوارج، ومَنْ نحا نحوهم وشذَّ شذوذهم من دعاة الإلحاد في عصرنا.
- وممن نقل الإجماعَ على حجية السنة:
1- الإمام الشافعي - رحمه الله- يقول: «أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ: على أَنَّ من اسْتَبَانَتْ له سُنَّةُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ له أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ من الناس».
2- ابن حزم - رحمه الله- يقول - في قوله تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59): «والبرهان على أنَّ المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآنِ، والخَبَرِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الأُمَّة مُجمِعة: على أنَّ هذا الخطاب متوجِّه إلينا، وإلى كلِّ مَنْ يُخلق ويُركَّب روحُه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنة والناس، كتوجُّهِه إلى مَنْ كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلِّ مَنْ أتى بعده - عليه السلام - وقبلنا، ولا فرق».
3- ابن تيمية - رحمه الله- يقول: «وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سُنَّتِه دقيق ولا جليل، فإنَّهم مُتَّفقون اتِّفاقًا يقينيًّا: على وجوب اتِّباع الرسول، وعلى أنَّ كلَّ أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم ».
4- الشوكاني - رحمه الله- قال: «والحاصل: إنَّ ثبوت حُجيَّة السُّنة المُطهَّرة، واستقلالَها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينية، ولا يُخالف في ذلك إلاَّ مَنْ لا حظَّ له في دين الإسلام».
رابعًا: أهمية السنة النبوية
ومن أهمية السنة النبوية المطهرة أنها استقلت بأحكامٍ وتشريعاتٍ لم ترد في القرآن الكريم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»(رواه أبو داود)، ومن أمثلة ذلك: النهيُ عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ورجمُ الزاني المحصن، وإرثُ الجدة.
كما أنها جاءت شارحةً ومفسرةً لكثيرٍ من الأحكام المجملة في القرآن الكريم، روى ابن المبارك في مسنده وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: «حَدِّثُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلا تُحدِّثُوا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ صَلاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا لا يُجْهَرُ فِيهَا، وَعَدَّدَ الصَّلَوَاتِ وَعَدَّدَ الزَّكَاةِ وَنَحْوَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أبهمَ هذا وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ ذَلِكَ».
- عناية علماء الإسلام بالسنة
ولما كان للسنة النبوية هذه المنزلة العلية، والرتبة السنية، فقد عني بها علماءُ الإسلام قاطبةً، وكان لتلك العناية صورٌ متعددة، ونماذجُ متنوعة، ومن ذلك:
(1) جمعُ السنة النبوية المطهرة
جمعُ السنة النبوية المطهرة، وتصنيف التأليف المنوعة حولها، ووضع الشروحات والتعليقات المناسبة عليها، حتى بلغت المؤلفات حول الجامع الصحيح للإمام البخاري -رحمه الله- ما بين شرح وتعليق واختصار أكثر من مائة وخمسة عشر مؤلَفاً، فضلاً عن غيره من كتب السنة.
(2) بيانُ حُجيةِ السنة
ومن عناية العلماء بالسنة المطهرة بيانُ حُجيةِ السنة، وضرورةِ العمل بها، والتحذيرُ من ردها، أو إنكارها، قال الإمامُ السيوطي -رحمه الله-: «من أنكر كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجةٌ، كفر، وخرج عن دائرة الإسلام، وحُشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة، روى الإمامُ الشافعي يوماً حديثاً وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب، وقال: يا هذا أرأيتني نصرانياً؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة؟، أرأيت في وسطي زناراً؟ أروي حديثاً عن رسول الله -[- ولا أقول به! «ا. هـ. وصدقَ وبرَّ - رحمه الله -، كيف يكون مسلماً من يردُ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يحكّمُ عقلَه المريضَ في الوحي المقدس؟!
(3) عقد مجالس التحديث والرواية
ومن عناية العلماء بالسنة المطهرة عقد مجالس التحديث والرواية، في مختلف الأزمان والأحوال، إلى زمننا هذا، وحث الناس على حضورها، والعناية بآداب تلك المجالس، والتدقيق في شروط الإملاء، وقوانين الرواية.
(4) المعرفة التامة برواة السنة
من عناية العلماء بالسنة المطهرة المعرفة التامة بنقلة الأحاديث ورواة السنة وأحوالهم وأخبارهم، وتمييز الثقات والمقبولين عن الضعفاء والمجروحين، ووضع التصانيف المتنوعة حول ذلك.
(5) تنقيح السنة وتصفيتها
ومن عناية العلماء بالسنة المطهرة تنقيحها من الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي نشأت وانتشرت في عصور مختلفة ولأسباب متعددة، وتصنيف المؤلفات في بيانها والتحذير منها، ووضع الأسس والقواعد المبينة للصحيح من السقيم.
(6) الرد على المنكرين والطاعنين في السنة
ومن أبرز صور عناية العلماء بالسنة المطهرة الرد على المنكرين والطاعنين في السنة النبوية، الرادّين لها وعليها، الزاعمين أن بعض نصوصها لا يليق بالحضارة المادية المعاصرة، وأن بعض تلك السنن النبوية بحاجة إلى مراجعة وتنقيح، هكذا، وبكل ونقصان عقل يحكّمون أذهانهم وعقولهم في السنة النبوية، وهي وحي الله -تعالى.
حال السُّنة مع القرآن
قال ابن القيم - رحمه الله مبيِّناً حال السُّنة مع القرآن، وأنها لا تُعارضه-: فما كان منها زَائِدًا على الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - تَجِبُ طَاعَتُهُ فيه، وَلاَ تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ، وَلَيْسَ هذا تَقْدِيمًا لها على كِتَابِ اللَّهِ؛ بَلْ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَلَوْ كان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُطَاعُ في هذا الْقِسْمِ لم يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَإِنَّهُ إذَا لم تَجِبْ طَاعَتُهُ إلاَّ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ لاَ فِيمَا زَادَ عليه لم يَكُنْ له طَاعَةٌ خَاصَّةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وقد قال اللَّهُ -تعالى-: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80).
لاتوجد تعليقات