رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 يناير، 2011 0 تعليق

مقتطفات من فقه شيخ الإسلام ابن تيمية -الشياطين تتصور لبعض الناس في صور الآدميين لتوقعهم في الشرك

 

 (المشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر.

وكل من هؤلاء يعبدون الجن؛ فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن؛ فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (سبأ: 40 - 41).

     والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين؛ فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا الخضر، أنا أبوبكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس؛ فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العاصي، وفيهم العابد الجاهل؛ فمنهم من يحب شيخا فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن الشيخ الميت أو الحي نفسه فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ، وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته. وإنما يكون ذلك جنيا؛ فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان). (مجموع الفتاوى) (1/157-158).

ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره

     وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (البقرة: 275)، وفي «الصحيح» عن النبي [: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (متفق عليه)، وقال عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع! فقال: يا بني! يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.

      وهذا الذي قاله أمر مشهور؛ فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان.

      وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك؛ فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك).

أصناف الناس في مسألة دخول الجني في الإنسي

       ... والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس، وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة؛ فهؤلاء يكذبون بالموجود، وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود، والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه، فتدفع شياطين الإنس والجن.

      وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم؛ فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول؛ فهو حرام، كما ثبت في (صحيح مسلم) وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي؛ قال: قلت: يا رسول الله! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية: كنا نأتي الكهان. قال: «فلا تأتوا الكهان» (رواه مسلم).

      وفي (صحيح مسلم) أيضا عن عبيدالله، عن نافع، عن صفية، عن بعض أزواج النبي [، عن النبي [؛ قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما» (رواه مسلم).

      وأما إن كان يسأل المسؤول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه؛ فهذا جائز كما ثبت في «الصحيحين»: أن النبي [ سأل ابن صياد، فقال: «ما رأيك؟». فقال: يأتيني صادق وكاذب. قال: «ما ترى؟». قال: أرى عرشا على الماء. قال: «فإني قد خبأت لك خبيئا». قال: الدخ الدخ. قال: «اخسأ؛ فلن تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهان» (رواه البخاري).

      وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به، وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت؛ فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة؛ كما قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6)، وقد ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة ]: أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية، فقال النبي: «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. (العنكبوت: 46) (صحيح) رواه أبوداود في (العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، رقم 3644)، وأحمد في (المسند) (4/136)؛ من حديث أبي نملة الأنصاري. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2800). ولم أجده في البخاري البخاري كما ذكر المؤلف. فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه.

     وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن، فسأله عنه، فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة (إسناده ضعيف) رواه الإمام أحمد في (فضائل الصحابة، رقم 304) بإسناد ضعيف. وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا، فقدم شخص إلى المدينة، فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك، فذكر له، فقال: هذا أبوالهيثم بريد المسلمين من الجن، وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك. فجاء بعد ذلك بعدة أيام) أورده بدر الدين الشبلي في (آكام المرجان في أحكام الجان)(ص139)؛ بدون سند. (مجموع الفتاوى) (19/62-63).

تمثل الجن بالإنس

     ومن ذلك تمثلهم بابن تيميمة نفسه (وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه، فيخرج فيرى الناس يتحدثون به؛ فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات فيما يشبه استخدام سليمان، لكنه أعطي ملكا لا ينبغي لأحد بعده وسُخرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره، والنبي [ لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته؛ قال: «فأخذته، فذعته حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته» (رواه بنحوه البخاري في «الصلاة، باب الأسير والغريم يربط في المسجد، 461، وفي أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}، 3423، وفي تفسير القرآن، باب قوله: {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}، 4808)، ومسلم في (المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، 541)؛ من حديث أبي هريرة ].

      في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام؛ فجعلوا الخوارق جنسا واحدا، وقالوا: كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها.

      وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة؛ فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك، وأن يقيض له من يعارضه، ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله؛ فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي مما لم يكن معتادا للناس، قالوا: إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة، فهذه المعجزات عندهم، وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا: المعجزات هي خرق العادة، لكن أنكروا كرامات الصالحين، وأنكروا أن يكون السحر والكهانة إلا من جنس الشعبذة والحيل، ولم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك، وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي، قالوا: فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع.

      وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها يكون للسحرة ما هو مثلها، وتناقضوا في ذلك كما قد بُسط في غير هذا الموضع؛ فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح؛ فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة، فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء، وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك، ثم يقولون: الولي إذا تولى لا يعترض عليه؛ فمنهم من يراه مخالفا لما عُلم بالاضطرار من دين الرسول، مثل: ترك الصلاة المفروضة، وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك، وفعل الفواحش، والفحش والتفحش في المنطق، وظلم الناس، وقتل النفس بغير حق، والشرك بالله، وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى، ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين، وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم.

     ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك؛ فتارة يأتون الشخص في النوم، يقول أحدهم: أنا أبوبكر الصديق، وأنا أتوّبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي، ويلبسه، فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه؛ فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان، وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام، وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا، وتارة يقول أنا الشيخ فلان، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره.

     وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وقد يخلصونه مما يكره، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه، أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تجيب مشركا.

      وتارة يأتون إلى من هو خالٍ في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا ويكون كافرا، وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه، فيسلم على يديه ويتوبه ويطعمه ويدله على الطريق، ويقول: من أنت؟ فيقول: أنا فلان. ويكون من مؤمني الجن.

     كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية؛ فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق: كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك.

     قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟ قلت: لا، إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك) «مجموع الفتاوى» (13/ 89-93).

سبب كثرة تصور الجن بصورة الكلب والقط الأسودين

     (وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي، هل يقطع؟ على قولين هما قولان في مذهب أحمد، كما ذكرهما ابن حامد وغيره:

      أحدهما: يقطع لهذا الحديث ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة: «الكلب الأسود شيطان» (رواه مسلم)؛ فعلل بأنه شيطان، وهو كما قال رسول الله [؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة) «مجموع الفتاوى (19/52).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك