رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: زين العابدين كامل 12 سبتمبر، 2019 0 تعليق

مقاصد المكلفين (4)


سلطنا الضوء في المقال السابق على مسألة تأثير النية في العمل، وأن العبد يبلغ بنيته ما لا يبلغه بعمله، ونريد أن نستكمل في هذا المقال الحديث حول المعنى نفسه؛ وذلك نظراً لأهميته، وعلينا أن نتأمل الفرق والتباين بين النيّة التي نريد بها أعمال النّاس في الدنيا ولا نستطيع تحقيقها؛ فهذه في الغالب لا يعترف بها جل الناس تقريباً، ولا يجزون عليها؛ فالناس لا يعترفون إلاّ بما تحقق في واقع الأمر، ولا يعترف بحسن المقصد مع العجز عن العمل إلا النزر اليسير من الناس.

وهؤلاء أصحاب النفوس الصافية والمعادن النفيسة، كما قال الشاعر:

لأشْكُرنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِه

                                       إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعَروفِ مَعْروف

أما النيّة التي نريد بها العمل الصالح الذي فرضه الله علينا ابتغاء رضوان الله، ثم نعجزعن فعل ما أردنا، فالنية هنا قيمة كبيرة عند الله، بل هي محلّ نظر الله -سبحانه- كما قال -تعالى-: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لَحُوُمها وَلاَ دِمَاؤُها، وَلَكنْ يَنَالُهُ التقْوَى منْكُمْ} (الحج:37).

حقيقة العمل

     فالله ينظر إلى حقيقة العمل الذي في القلب لا إلى صورته، والأدلة على هذا المعنى وثبوته متواترة؛ فلقد تُوفي أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد تجهَّز للخروج للجهاد وقتال الكفار؛ فقالت ابنته متحسِّرة: «إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا، قد كنت قضيت جهازك»؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «قد أوقع الله أجره على قدر نيته» (رواه النسائي في سننه (4/ 14)، ومالك في موطئه (كتاب الجنائز 36)، وأحمد في مسنده (5/ 446)، ورواه ابن حبان والحاكم، وإسناده صحيح).

غزوة تبوك

     وتخلف رجال من المؤمنين عن غزوة تبوك، كانوا يتحرَّقون شوقًا إلى صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يرجون أن ينالوا شرف الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، وبعضهم لعلَّه كان مريضا، ومنهم من تخلف عن الرسول[ ليَليَ شؤون المدينة، ويقوم على حمايتها؛ فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة، أن أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر» (رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.).

المساواة بين أصحاب الأعذار

     وقد أشار القرآن العظيم  إلى وقوع المساواة بين أصحاب الأعذار الذين منعهم العذر وبين المجاهدين، قال -تعالى-: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدونَ فِي سبِيل الله بأَمْوالِهمْ وَأنفُسهِمْ} (النساء: 95)، وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولًا دون: {أُولي الضَّرَرِ}، وكان عند الله ابن أمّ مكتوم قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: أَنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت؛ فنزلت: {غيْرُ أولي الضَّرَر} (تفسير ابن كثير (2/ 366)، والحديث تفرد بروايته البخاري دون مسلم كما يقول ابن كثير )؛ فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس: تدلُّ على أنَّ {أولي الضرر} يساوون المجاهدين، ما دام الضَّرر قاهرًا، والنية مستقرة في القلوب ، فإذا صدقت النيّات، واستقر الإخلاص في القلب الذي هو مستودع الأسرار ومحل نظر الباري -جل وعلا-  ثم عجز العبد عن تنفيذ ما عزم على فعله ابتغاء مرضاة الله ، فإن صاحب النية يعدّ في تعداد العاملين لهذا العمل، وما أحسن قول القائل:

يَا رَاحليِنَ إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ

                                          سِرْتُمْ جُسوماً وَسِرنَا نَحْنُ أَرْواحا

إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْر وَعَنْ قَدَرٍ

                                         وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذرٍ فَقَدْ رَاحَا

الدنيا لأربعة نفر

     وقد ذكرنا في المقال السابق الحديث الذي أخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «أنَّ الدنيا لأربعة نفر»، وفيه أن الذي لا يملك المال ثم يتمنى أن يكون كفلان الغني كي ينفق ويتصدّق مثله فإنّه يستوي مع الغني المنفق المتصدق في الأجر والثواب، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «فهما في الأجر سواء»، وقال في الفقير الذي يريد مثل مال الغني الجائر الظالم الذي ينفق المال في الذنوب والمعاصي، ليفعل مثل فعله- قال فيه: «هما في الوزر سواء» (رواه الترمذي فى سننه (كتاب الزهد: 17).

المداومة على  العبادة

     ومن ثم فإن العبد الذي ينوي المداومة على  عبادة معينة من العبادات كصلاة، أو صيام، أو صدقة، أو غير ذلك من أنواع العبادات، ثم تفوته العبادة لعذر شرعي، كالمرض ونحو ذلك فإنه يُكتب له ما كان يعمله؛ فعن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرىء تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، إلاّ كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه» (رواه النسائي في السنن: كتاب قيام الليل، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم (3/ 257)، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك