رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: زين العابدين كامل 25 أغسطس، 2020 0 تعليق

مقاصد المكلفين (16) حكم العمل المراءى به

ما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة ألا وهي: الأسباب الداعية إلى الرياء، ويدور حديثنا في هذا المقال حول مسألتين مهمتين، وهما: ما الأمور التي يراءى بها، ثم ما حكم العمل المراءى به.

الأسباب الداعية إلى الرياء

     فأما المسألة الأولى وهي الأسباب الداعية إلى الرياء فنقول: قد يرائي العبد بنحالة جسده وضعفه، وذلك ليوهم الناس أنه كثير العبادة والحزن والخوف، وقد يرائي العبد بضعف الصوت وذبول الشفتين وإظهار التعب والجهد، وذلك ليعرف الناس أنه كثير الصيام، وقد يرائي العبد بتشعيث رأسه ولبس الثياب البالية، ليظهر أمام الناس أنه من العبّاد والنساك والزهاد، وقد يحرص على إبراز أثر السجود في جبهته، وقد يكون رياؤه بالنطق بالحكمة والموعظة وإقامة الحجة عند المجادلة والمناقشة، وقد يرائي عند إلقاء الدروس والمحاضرات والمواعظ حيث يظهر الفهم والعلم، وقد يكون بإظهار الذكر لله -عز وجل- باللسان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتحسين الصوت بالقراءة، وقد يكون بإظهار التأسف على ما يفوت من الخير والطاعة وقد يكون بإطالة الصلاة، كأن يطيل في الركوع والاعتدال منه أو السجود ونحو ذلك، وقد يرائي بالحج والعمرة والنفقة على الفقراء والمساكين، وقد يرائي بصحبة العلماء والصالحين بأن يحرص على أن يسير مع العلماء وأهل الصلاح ويكثر من مجالستهم.

وقوع الرياء في كل الأعمال

والغرض المقصود أن الرياء من الممكن أن يقع في كل الأعمال والطاعات، ولذا فأمره خطير ولابد من مجاهدة النفس في أمر الإخلاص.

حكم العمل المراءى به

وأما عن المسألة الثانية وهي: حكم العمل المراءى به، فالواجب على كل مسلم أن يُخلص عمله لله -عز وجل-، وألا يبتغي بعمله إلا وجهه تعالى، فقد قال الله -تعالى-، وقد بينا ذلك في مقالات سابقة، {وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.

العمل الذي يخالطه رياء

والعمل الذي يخالطه رياء ينقسم إلى نوعين:

الرياء في أصل العمل

- فالنوع الأول، أن يكون الرياء في أصل العمل، أي لا يقصد فيها العابد الثواب والجزاء من الله، إنما قصده كله أن ينال منزلة ومحمدة وثناءً عند الناس، فهذا النوع محبط للعمل بالكلية، وقد سمّى ابن رجب هذا النوع من الرياء بالرياء المحض، يقول ابن رجب في هذا: «العمل على هذا النحو لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحقُّ المقت من الله والعقوبة».

قصد الرياء وقصد الثواب

- والنوع الثاني أن يكون قصد الرياء مصحوبًا بقصد الثواب، أو أنه بدأ العمل خالصًا لله ثم طرأ عليه الرياء، وهذا النوع اختلفت فيه آراء العلماء، والذي رجحه الحافظ ابن رجب، أن العمل لا يحبطُ في هذه الصورة.

     قال -رحمه الله-: واعلم أن العمل لغير الله أقسام، فتارة يكون رياءً محضًا بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله -عز وجل-: (‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ) {النساء142}، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.

مشاركة الرياء في أصل العمل

     وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه‏،‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه « وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته، في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.

وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية.

شوائب الرياء

     وقال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين: وشوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يُطَّلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر، ومفسداً للعمل بل فيه تفصيل، وهكذا فإن الرياء هو أحد أمراض القلوب التي تحبط الأعمال أو تنقص أجرها.

 

المِشيَة نموذجا

لغة الجسد ودلالتها الخُلقية والإيمانية

     المشية هي حركة الأرجل على الأرض، وهذه الحركة تعبر عن شخصية صاحبها وخلقه وإيمانه وثقته بنفسه، وجرت العادة في التربية العسكرية، أن يتدرب العساكر أولا على المشية العسكرية، التي تربي فيهم خلق الانضباط والحزم والقوة، خلافا للمشية الاعتيادية، والله -عز وجل- عندما عدد صفات عباد الرحمن، بدأ أولا بوصف مِشيتهم، وهي تعبر عن أسلوب حركتهم على الأرض، وذلك قبل أن يصف أدبهم في الخطاب وعبادتهم في خلواتهم.

وهذه المِشية تدل على ما في قلوبهم وخلقهم من تواضع وإيمان واطمئنان وسكينة ووقار؛ فقال -تعالى-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.

 وفي موضع آخر ينهى الله -عز وجل- عن مشية التبختر والمرح والبطر، التي تدل على خلق صاحبها وما في قلبه من كبر وعلو وتجبر في الأرض؛ فقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}.

     وكان من وصايا لقمان لابنه تقدير المِشية والعناية باعتدالها باعتبارها تدل على خلق صاحبها {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، وجاء الوعيد في السنة أيضا على المشية المائلة المتكسرة للمرأة التي تثير الفتنة، وتدعو إلى الفاحشة: «ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها»، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى «تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب»، وهي مشية معتدلة تدل على الهمة والعزيمة والسرعة والشجاعة والوقار.

ولم يغفل القرآن الكريم وصف مشية المرأة التي جاءت تدعو موسى -عليه السلام- (بالاستحياء) تذكيرا بجمال خلقها وتزكية لتربيتها، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.

     وورد في السيرة النبوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا أصحابه للرمل عند قدومهم لمكة مع بداية الطواف، وهو عبارة عن مشية فيها تقارب للخطى وأكثر من السعي، حتى يُظهر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين قوة المسلمين وشدة بأسهم، وإن حمى يثرب كما يدّعون لم توهن أبدانهم، وأنهم على استعداد دائم لأي طارئ، والمقصود أن العناية والانتباه للغة الجسد عند اللقاء أو الخطاب، أو السير أمر معروف ومسنون، ولعله من الذكاء الاجتماعي أو العاطفي كما يحب أن يسميه اصحاب التخصصات النفسية.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك