رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 12 ديسمبر، 2016 0 تعليق

مفهوم المشقة وعلاقتها بالتكاليف الشرعية

إرادة الله -تعالى- لليسر ورفع الحرج لا تعني أنه لا يكلف بما فيه مشقة كما يظن كثير من المتكلمين في الباب؛ لأن هوى المكلفين واستحسانهم ليس مؤثرا في الأحكام الشرعية

حدد العز بن عبد السلام المشقة الموجبة للتيسير والرخصة  بأنها مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس, والأطراف, ومنافع الأعضاء, فهي موجبة للتخفيف والرخص

من أسباب رفع الحرج عن المكلف في الشرع خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد، مثل قيامه على أهله فإن التوغل في العبادة شاغل عنها وقاطع بالمكلف دونها

 

المشقة مفهومة من الوضع اللغوي لكلمة التكليف, الذي هو مناط الأحكام الشرعية؛ فلذلك كان من الطبيعي أن يأخذ هذا المفهوم حيزا كبيرا من البحث الفقهي والأصولي عند المهتمين بالعلم الشرعي, ولاسيما وأن التكليف مقصد من المقاصد في وضع الشريعة, والمشقة تعرض للمكلف في أبواب الشريعة كلها, وسنعرض في هذا المقال لبعض علاقة المشقة بالتكليف الشرعي، ونحاول تركيز العدسة أولا على مفهوم المشقة:

مفهوم المشقة

- المشقة لغة: الصعوبة, والشدة والحرج, قال صاحب القاموس: «شق الأمر عليه شقا, ومشقة صعُب»، وفي التاج: المشقة الشدة, والحرج, وجمعه مشاق ومشقات:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}(النحل: 7). وبالنظر إلى هذه المعاني حسب الوضع اللغوي, فإنها تقتضى أربع حالات:

أن تكون عامة.

- أحدها: أن تكون عامة في المقدور عليه وغيره, فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة؛ فالمقعد إذا كلف بالقيام, والإنسان إذا كلف بالطيران, فإن هذا داخل في معنى المشقة, من جهة ما يلحق الإنسان به من العنت, والتعب فضلا عن كونه غير مقدور عليه.

خارج عن المعتاد

- الثاني:  أن يكون خاصا بالمقدور عليه, إلا أنه خارج عن المعتاد؛ بحيث يشوش على النفوس, ويقلقها بالقيام بما فيه من المشقة.

زيادة على ما جرت به العادة قبل التكليف

- الثالث: أن يكون خاصا بالمقدور عليه, لكن فيه مشقة من حيث إنه زيادة على ما جرت به العادة قبل التكليف، وهذا المعنى كثير عند العرب,  فيطلقون على طلب الأمر تكليفا, كما قال الشاعر:

يـــكــلـفـــــه الــقــــوم مــا نـابهـــم

                                               وإن كـــان أصـغــرهــــم مــولــدا

شاقا باعتبار مخالفة الإنسان ما اعتاده

- الرابع:  أن يكون شاقا باعتبار مخالفة الإنسان ما اعتاده، أو فعله لما يكرهه، والمقصود بالمشقة ليس هو معناها المطلق, الذى ورد في اللغة؛ لأنه لم يرد في الشرع تكليف بأمر لا يطيقه الإنسان, أو كان خارجا عن إرادته, وإنما المراد بالمشقة المشقة المقيدة, التي يخرج بها الإنسان عن المعتاد, ولا يستطيع المكلف معها الدوام على العمل, وقد اتفق العلماء على هذا الحد لها, وإن اختلفت عباراتهم, قال ابن نجيم: المشاق على قسمين: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا, كمشقة البرد في الوضوء والغسل, ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار, ومشقة عظيمة فادحة, كمشقة الخوف على النفوس, والأطراف, ومنافع الأعضاء, فهي موجبة للتخفيف.

     وقد حدد العز بن عبد السلام المشقة الموجبة للتيسير, والرخصة؛ حيث قال: «مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس, والأطراف, ومنافع الأعضاء, فهي موجبة للتخفيف والرخص»، ويؤكد الشاطبي على هذا المعنى فيقول: «إن كان العمل يؤدى الدوام عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه, أو إلى وقوع خلل في صاحبه, أو في نفسه أو ماله, أو حال من أحواله, فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد, وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في الغالب مشقة, وإن سميت كلفة».

هل المقصود التكليف أم المشقة؟

     إذا تبين مفهوم المشقة الجالبة للتيسير فإن هذا لا يعني نفي وجود المشقة في التكليف؛ لأن تسمية التكليف تكليفا مشعر بوجود المشقة, والله -تعالى- عالم بما كلف به, وبما يلزم عنه؛ فالله قاصد لنوع من أنواع المشقة لا ينفك عن الفعل, وكذلك ما كان فيه مخالفة للهوى, وقد أثاب على المشقة التي لا تنفك عن الفعل, كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}(التوبة: 120)،{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}(الروم: 69)، وما ورد أن رسول الله[ قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا بلى يا رسول الله قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط»  «فإن كانت المشقات -من حيث هي مشقات- مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف, دل على أنها مقصودة له, وإلا فلو لم يقصدها لم يقع عليها ثواب, كسائر الأمور التي لم يكلف بها فأوقعها المكلف باختياره».

إرادة  الشارع لليسر ورفع الحرج

      فيتقرر بهذا أن إرادة  الشارع لليسر ورفع الحرج لا تعني أنه لا يكلف بما فيه مشقة, كما يظن كثير من المتكلمين في الباب؛ لأن هوى المكلفين واستحسانهم ليس مؤثرا في الأحكام الشرعية, لكن يجدر التنبيه, إلى أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لابد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف, وبها  حصل العمل المكلف به, فيصح أن تكون من هذه الجهة كالمقصودة لله -عز وجل- كما أنه ليس للمكلف أن يقصد المشقة  في التكليف، ولكنه يقصد العمل الذى يعظم أجره بعظم مشقته لكونه عملا وذلك هو قصد الله -تعالى- بالتكليف.

      وهذا باب من الفقه مهم، زل فيه الزهاد والعباد, فظنوا أن المشقة مطلوبة لذاتها، فطلبوا الأعمال لمشقتها لا لأجرها، فإذا تيسرت لهم بدون مشقة تركوها, وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على من سلك هذا المسلك في العبادة وقصد المشقة ولم يقصد العمل كما في حديث النفر الثلاثة, فقد روى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين والتنفير منه مشهور مقطوع به .

 الأمر للابتلاء أم للامتثال؟

وعلاقة ذلك بالمشقة

ناقش الأصوليون فائدة الأمر هل هي امتثال المكلف له أم مجرد ابتلائه به؟

وإلى هذا الخلاف أشار صاحب المراقي بقوله:

لـلامـتــثـال كلف الـرقـيـب

                               فـموجــب تـمكـنا مـصـيــب

وبيــنـه والابـتلاء ترددا

                             شــرط تـمكن علــيــه انــفــقدا

والمقصود بهذا أن المكلف إذا كان المقصود من تكليفه هو مجرد امتثاله؛ فالتمكن من إيقاع الفعل شرط في التكليف, وعلى أنه للابتلاء؛ فالتمكن ليس شرطا.

هل يمكن للمكلف أن يعلم المأمور به قبل التمكن من إيقاعه؟

     وقد بنوا على هذا الخلاف مسألة أخرى وهي: هل يمكن للمكلف أن يعلم المأمور به قبل التمكن من إيقاعه على أن فائدته الامتثال فقط؛ لأنه قبل ذلك لا يدرى أيقدر عليه فيتوجه له الخطاب أم لا يقدر فلا يتوجه إليه الخطاب؟ والحق في هذه المسألة أن الابتلاء من فوائد التكليف, وأنه لا يشترط في التكليف التمكن من الفعل بشهادة القرآن العظيم, فإنه في قصة أمر إبراهيم -عليه السلام- بذبح ولده علم أنه مكلف بذبحه قبل التمكن من ذلك, وحكمته اختباره وابتلاؤه هل يتهيأ لذبح ولده؟ ففعل كما قال:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِين}(الصافات: 103)، ثم إن الله بين أن حكمة هذا التكليف الابتلاء بقوله:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}(الصافات: 106)، ولكن الغالب في الأوامر الشرعية هو قصد الامتثال, وعليه فالمشقة التي تنتج عن الأوامر الشرعية هي كالآتي:

 أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل, ولا تحصل عنها مفسدة للمكلف؛ فهذه هي التي مر معنا الكلام عنها وأن الله علم بها وبوجودها فضاعف الثواب على ذلك.

أن تكون المشقة غير معتادة فإما أن تكون حاصلة بسبب من المكلف, أولا .

ف     إن كانت حاصلة بقصد المكلف؛ فهذا العمل منهي عنه شرعا وغير صحيح أن يتعبد لله به؛ لأن الله -تعالى- غير قاصد للحرج فيما أمر به؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذى نذر أن يصوم في الشمس وقال: «مُرُوهُ فَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيَذْكُرْ رَبَّهُ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ»، وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الذى لا يقدر على الصيام ولا على الصلاة قائما إلا بمشقة خارجة عن المعتاد فهذا شرعت له الرخصة وعليه الأخذ بها كما قال الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}(البقرة: 185)، وغيرها من الآيات التي تؤكد المعنى نفسه.

ورفع الحرج عن المكلف في الشرع لأحد وجهين:

خوف الانقطاع

- الوجه الأول:  خوف الانقطاع من العبادة وكراهة التكليف, ويدخل تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الضرر عليه في نفسه أو ماله, ويشهد لذلك قول الله  عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان}(الحجرات: 7) وقوله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل».

خوف التقصير

- الوجه الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد, مثل قيامه على أهله؛ فإن التوغل في العبادة شاغل عنها, وقاطع بالمكلف دونها؛ فهنا  تخفف الشريعة على المكلف حتى لا تضيع عليه المصالح, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلَاةِ، فَأُخَفِّفُ»، وقوله لمعاذ حين أطال بالناس الصلاة: «يا معاذ، أفتان أنت»، أو «أفاتن»؟ ثلاث مرار: «فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة.

     فهذه هي الأحوال التي اعتبرتها الشريعة في التخفيف على المكلف بالإسقاط أو البدل إلى غير ذلك, ومن كان له علم بالأشباه والنظائر عرف نظائرها في أبوابها، والتزم المعهود الوسط الذى يسع الناس جميعا, وفرق بين المشقة الملازمة للعمل التي من اعتبرها عُد من الكسالى والبطالين، وبين المشقة التي  تترتب عليها مفسدة شرعا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك