مفتي بلجراد في حوار خاص لـ«الفرقان»: لابد أن يكون اهتمامنا بمن يصلي بجوار الكعبة كاهتمامنا بمن يصلي في أي بقعة من بقاع الأرض
تعد بلغراد من أهم المعالم التاريخية لدى المسلمين، بما تحمله من عزة الماضي وآلام الحاضر، ففي الماضي كان فتحها على يد السلطان سليمان القانوني نصرًا كبيرًا للمسلمين وانطلاقة قوية لفتح بلاد ما وراء نهر الدانوب، حيث كانت بلغراد من أشد المدن تحصينًا، فقد أرسل السلطان العثماني خليفة المسلمين إلى ملك المجر سفيرًا يخيره بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، فما كان من ملك المجر (لويز الثاني) إلا أن أمر بإعدام السفير؛ مما أثار غضب السلطان سليمان، فأعد جيشًا كبيرًا وجهزه بالعتاد والسلاح، وسار هو بنفسه في مقدمة ذلك الجيش، وتمكن هو وجنوده من اقتحامها يوم 25 رمضان سنة 927 هـ ( 29 أغسطس سنة 1521م) وأخلى الجنود المجريون قلعتها، ودخلها السلطان، وصلى الجمعة في إحدى كنائسها التي حُوِّلت فورًا إلى مسجد .
واهتم العثمانيون بعد فتح هذه المدينة العريقة ببناء المدن والقلاع والجسور وتنظيم الشوارع وإقامة الأسواق المسقوفة وغير المسقوفة في بلغراد إضافة لعشرات المساجد التي بلغت 230 مسجدًا.
- هذه مقدمة بسيطة لتاريخ هذه المدينة العريقة التي تعد من بقايا أزمنة العزة التي عاشها المسلمون قديمًا، وحري بنا أن نتلمس أحوالها وأحوال أهلها، وقد التقيت أحد رموزها على هامش مؤتمر مبرة الآل والأصحاب، وهو مفتي بلغراد، وكانت فرصة عظيمة للتعرف عن قرب على ما آلت إليه أحوال المسلمين هناك، وسألته بداية أن يعرفنا على نفسه فقال مشكورًا:
- اسمي محمد يوسف سباهيتش بن حمدي، والدي درس في الأزهر الشريف وتزوج من سيدة مصرية أزهرية، والحمد لله سبحانه وتعالى أنا أيضًا درست في الأزهر وتخرجت من كلية الدراسات الإسلامية والعربية، ومع أن والدي بوسني الأصل إلا أننا نعيش في صربيا حيث انتقلنا إلى بلغراد أثناء الدولة الموحدة، حيث عين والدي مفتيًا وكانت وقتها عاصمة يوغوسلافيا، والحمد لله بقينا هناك لأننا حملنا رسالة وهي أن نكون جسورًا لمعاني القرآن للناطقين باللغة الصربية وهذه المجتمعات، وهذه مهمة عظيمة ومسؤولية كبيرة نسأل الله أن يعيننا عليها.
- ماذا عن الوجود الإسلامي الحالي في تلك البلاد؟
- هناك وجود إسلامي قوي في صربيا وفي بلغراد وفي جميع مدن صربيا، حيث إنه لا توجد هناك مدينة في صربيا تخلو من المسلمين، فعدد المسلمين في صربيا 650.000 أي ما يساوي 10 % من تعداد السكان، وفي العاصمة بلغراد وحدها يعيش 200.000 ألف مسلم من مجموع 2 مليون نسمة، أي ما يعادل 10 % أيضًا في الإحصائيات الأخيرة.
- ما أهم المشكلات والتحديات التي تقابلكم بوصفكم أقلية مسلمة في بلغراد؟
- بدايةً لابد أن تعلم أنه ليس هناك نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عاش بدون مشكلات تواجه دعوته، ولا يوجد أحد من الأنبياء رُحِبَ به في مدينته ومسقط رأسه، أغلبهم واجهوا عنتًا واضطهادًا وكذلك نحن نواجه.
ومن أهم المشكلات التي تواجهنا عدم وجود عدد كاف من المساجد للمسلمين هناك، كذلك من ضمن أهم المشكلات تلك المتعلقة بالمؤسسات التعليمية التي تحتاج إلى تمويل كبير، وإلى الآن لم نجد دعما من أي جهة، وربما يرجع ذلك لاعتقاد كثير من المسلمين أن صربيا خالية من المسلمين، والعكس هو الصحيح، فصربيا ليست خالية من المسلمين، فهناك عدد كبير من العرب تزوجوا من مسلمات وأقاموا هناك، وهناك أيضًا البوشناق وهم بوسنيون يعيشون في جنوب صربيا، وهناك عدد من الألبانيين، والمسلمين من ذوي الأصول الصربية، هناك أعداد كبيرة ممن اعتنقوا الإسلام في العقود الأخيرة وهم على مستوى عال من التعليم والثقافة، ولا يوجد جمعة تمر علينا إلا ويدخل في الإسلام أعداد من الصربيين فالله تبارك وتعالى هو الهادي وهو القادر على أن يهدي من يشاء.
- حدثنا عن واقع الشباب المسلمين في بلغراد وهل تواجهون معاناة في الحفاظ على هويتهم الإسلامية وحمايتهم من الذوبان في تلك المجتمعات؟
- أريد أن أؤصل لك قاعدة مهمة جدًا، وهي أن العداوة للشباب المسلمين واحدة في كل زمان ومكان؛ لذلك فإننا نخاف على كل شاب مسلم في كل وقت وفي كل مكان، ثق أن عداوة الشيطان وعداوة أهل الكفر واحدة وهي إفساد شباب المسلمين، فالشاب الذي يعيش في بلاد عربية إسلامية ربما يشعر بنوع من الحرية والاطمئنان أنه يعيش في بلاد إسلامية، وربما يكون من يعيش في بلاد غير إسلامية أشد حرصًا على التمسك بهويته والحفاظ على أصول دينه، وأنا أقول إنه إذا استيقظت الصفوف الأولى حول الكعبة على أسس إسلامية لاستيقظ الصف الأخير الأبعد عن مركزنا الأرضي، ولاستطعنا حماية الشباب المسلمين في كل مكان.
- ماذا عن المؤسسات التعليمية، وهل لدى المسلمين مناهج مستقلة يدرسونها في تلك المؤسسات؟
- بفضل الله لدينا كلية بلغراد للدراسات الإسلامية في منطقة (نوفي بازار)، ومدارس إسلامية، والمناهج التعليمية مستقلة معترف بها، فنحن أهل سنة وجماعة، والمذهب السائد عندنا هو مذهب أبي حنيفة وكل المناهج والعلوم الإسلامية مبنية على هذه الأسس.
- ماذا عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمسلمين في بلغراد؟
- لا أخفي عليك القول فإن الأقلية المسلمة في بلغراد تعاني أوضاعًا معيشية صعبة، فمن الناحية الاقتصادية نعاني البطالة التي تضرب كل منزل مسلم في صربيا، نتيجة التمييز الديني بين الأقلية المسلمة والأغلبية الأرثوذكسية؛ مما دفع إلى تصاعد معدلات الفقر لدينا، أيضًا لا نستطيع بوصفنا مسلمين تملك مشروعات ضخمة، هذا فضلًا عن أن الحكومة الصربية خصخصت جزءًا كبيرًا من الممتلكات الاقتصادية والشركات العامة التي كنا نملك أجزاء كبيرة من أسهمها إبان العهد اليوغسلافي.
أما عن الوضع السياسي، فمسلمو صربيا لا يمثلهم في الحكومة الصربية إلا وزير واحد، ويشغل منصب وزير الأقليات من أصل 23 وزيرًا أرثوذكسيًا، وما أستطيع قوله هنا أن كثيرًا من حقوقنا السياسية مهضومة.
وعن الجانب الاجتماعي أقول لك: إنه بالرغم من كل هذه المشكلات السابقة فإننا مندمجون في المجتمع الصربي، فهي دولتنا بالأساس، وعلى الرغم من وجود تمييز ديني بيننا وبين الأرثوذكس فإننا نظهر في وسائل الإعلام بوصفنا رجال دين معًا، ونقيم العديد من المشروعات الخيرية معا.
- الأحداث الدامية التي مرت بها البلقان في فترة التسعينيات وما تعرض له المسلمون من تصفية عرقية هل ما زالت لها آثار إلى الآن عليكم؟
- مسلمو الصرب يعيش أغلبهم في أجواء عدائية، لكن ليس من جانبنا، فنحن حاولنا نسيان الماضي، لكن الأغلبية الأرثوذكسية تنظر إلينا على أننا جزء من الأتراك العثمانيين؛ ولهذا السبب نعاني في مختلف مناحي الحياة، أضف إلى ذلك أن العاصمة بلغراد كان فيها (273)مسجدًا هدمت جميعها إلا مسجدًا واحدًا، وكان أغلبها مساجد أثرية، والغريب في الأمر أيضاً أنه لا توجد لدينا مقبرة للمسلمين، فإما أن ننقل موتانا للدفن في مدينة السنيحاق وهي على أطراف صربيا، وإما ندفن الموتى في مقابر النصارى.
- كيف ترون تعاون الدول الإسلامية والعربية معكم؟
- اجعلني أكون صريحًا معك فنحن لم نجد التعاون الكافي الذي يرقى إلى مستوى الأخوة الإيمانية المطلوبة تجاهنا من جانب بعض الدول، ومع ذلك وحتى نكون منصفين فإننا أيضًا لا نستطيع أن نغفل دور الدول الإسلامية في أزمة كوسوفا الأخيرة ونعترف لهم بالجهود التي بذلوها، والدعم الذي قدموه لنا.
- كيف تنظرون إلى الثورات العربية؟
- نسأل الله أن يعم السلام في كل مكان من بلاد الإسلام، وفي مصر على وجه الخصوص؛ لأن الفتن تؤدي إلى الفتن ومستغلوها الشيطان وأعوانه، الله تبارك وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم برسالة السلام، برسالة المشاركة، برسالة المعاملة، فهو عامل الناس مهما كانت ديانتهم، وبهذه المعاملة استطاع كسب قلوب الكثيرين، وفي النهاية فالله تبارك وتعالى يهدي من يشاء وفق إرادته سبحانه.
- ما الرسالة التي تود إيصالها إلى المسلمين في الدول العربية والإسلامية حكامًا ومحكومين؟
- أنا أقول: إن على المسلمين أمانة عظيمة في تفقد الأقليات المسلمة في البلدان المختلفة؛ لأن هناك أهدافا سياسية ومؤامرات لإحداث فجوة بيننا وبينكم، ولا شك أن الهدف الأساس من هذه المؤامرات أيضًا عرقلة انتشار الإسلام ووقف مد الدعوة الإسلامية في بلادنا، وأحب أن أؤكد أنه كما أننا يجب ألا ننسى المسلمين الذين يعيشون في تل أبيب، فكذلك يجب ألا ننسى من يعيش منهم في بلغراد أو في أي بقعة من البقاع؛ ولكن مع الأسف نسيناهم، لابد أن يكون اهتمامنا بمن يصلي بجوار الكعبة كاهتمامنا بمن يصلي في أي بقعة من بقاع الأرض قل عددهم أو كثر.
لاتوجد تعليقات