مـاذا نـعـرف عـن الســرطــان؟
يعمل جسم الإنسان تماماً كالمجتمع أو النظام البيئي. فأفراده هم الخلايا، يتكاثرون بالانقسام، ويتعاونون فيما بينهم في تجمعات تسمى بالأنسجة. ولكي نفهم كيف يقوم الجسد بتنظيم هذه الأنسجة والعلاقات فيما بينها، علينا أن نُسقط العوامل نفسها التي تؤثر على أفراد أي مجموعة منظمة اجتماعياً، مثل دراسة ولادة الخلية ووفاتها وموطنها في الجسد وحدودها الجغرافية والتغير في حجم الأنسجة الخلوية داخل جسم الإنسان، كما علينا أن نأخذ في الحسبان عامل التنافس فيما بينها بما يسمى (الانتخاب الطبيعي). وعادة، يغيب عن أذهاننا عامل التنافس بين الخلايا في النسيج الواحد؛ إذ إن القاعدة في التعامل بين خلايا النسيج الواحد هي التضحية وليس التنافس.
تقسّم خلايا الجسم إلى نوعين، خلايا جنسية، وهي الأمشاج التي تَدخل في عملية التلقيح لغرض التكاثر، وخلايا جسدية، وهي كل الخلايا الأخرى سوى الخلايا الجنسية. وهذه الأخيرة لا تترك أي نسل، فهي تعيش وتتكاثر وتموت من أجل المحافظة على الخلايا الجنسية التي ستنتقل للأجيال القادمة.
في الكائنات متعدِّدة الخلايا، تتعاون الخلايا لتبقى على قيد الحياة. وهذا على عكس الكائنات أحادية الخلية التي تتنافس لتعيش. وفي جسم الإنسان، يوجد ما يقارب 100 تريليون خلية، البلايين منها تعاني يومياً طفرات واختلالات على مستوى الجزئيات. هذه الاختلالات قد يؤدي تراكمها خلال السنوات إلى إنتاج خلية خارجة عن النظام الاجتماعي. وهذه ببساطة، هي الخلية السرطانية.
نستطيع أن نُعرِّف السرطان بأنه: مجموعة من الأمراض التي تتميز خلاياها بالعدائية (النمو والانقسام من غير حدود على حساب خلايا أخرى)، وقدرة هذه الخلايا المنقسمة على غزو أنسجة مجاورة وتدميرها، أو الانتقال إلى أنسجة بعيدة في عملية نطلق عليها اسم (النقيلة). وهذه القدرات هي صفات الورم الخبيث، على عكس الورم الحميد الذي يتميز بنمو محدود وعدم القدرة على الغزو أو على الانتقال أو النقيلة.
1- العدائية: التكاثر وغزو الأنسجة الأخرى
من أهم العوامل التي تحدِّد خطورة المرض هي قدرة الخلية السرطانية على التكاثر بطريقة خارجة عن النظام الذي يحكم جيرانها في النسيج، وقدرتها على تجاوز الحيِّز الذي توجد فيه بغزو مناطق أخرى وأنسجة أخرى. فمثلاً قد تكون الخلية مضطربة جينياً، ولكنها لا تتكاثر بشكل يهدِّد النسيج. فهذا لا يجعلها تشكِّل خطراً حقيقياً. أو قد تتكاثر، ولكن ضمن الحيِّز المكاني لموطنها. فهذا أيضاً يجعلها أقل خطورة من تلك التي تنتشر خارج الحيِّز الذي تعيش فيه بما يسمى بالنقائل، وفي هذه المرحلة يسمى الورم ورماً سرطانياً.
2- يحمل المرض آثاراً تدل على مكان نشأته
بما أن الخلية السرطانية ليست إلا خلية طبيعية ولكنها تعرضت لاضطرابات جينية شديدة، فمن المتوقع أن نجد فيها بعض الخصائص التي تعود إلى شكلها الأصلي الطبيعي. فمثلاً، إن خلية تحمل صفات الخلايا الصبغية تعود إلى الخلايا الصبغية، وخلايا غددية تعود إلى الغدد المخاطية، وهكذا.. وبهذه الطريقة وغيرها يصنِّف الأطباء درجة الورم السرطاني. فمن الملاحظ أن التشابه بين الخلية السرطانية والخلايا الأصلية يتفاوت بدرجة كبيرة، فبعضها يحافظ على قدر كبير من الخلية الأصلية، وبعضها يفقده تماماً.
3 – معظم السرطانات تنشأ من خلية واحدة
عادة ما يُكتشف الورم في مرحلة يكون فيها عدد الخلايا قد تجاوز الملايين، ولكن باستخدام تقنيات حديثة لتحليل الشيفرة الوراثية للورم، يجد العلماء أن الورم نشأ من خلية واحدة، كانت الطفرات الوراثية والاختلالات الجينية قد تراكمت فيها حتى اكتسبت القدرة على أن تظهر وتقاوم الخلايا في جوارها أو أن تقاوم الجهاز المناعي، وبعد أن قامت بالتكاثر حتى كونت الورم بحجمه القابل للملاحظة.
4 – العامل الحقيقي في تحويل الخلية من طبيعية إلى سرطانية: الطفرات الجينية
إن الاختلالات الجينية ليست إلا طفرات طفيفة في الشيفرة الوراثية تنقلها الخلية بالتكاثر لعدد أكبر من الخلايا. ونلاحظ هذا في ظواهر محددة مثل الاختلاف الملحوظ في التركيب الجيني للورم عن باقي الخلايا الطبيعية، والعوامل المثبت أثرها في سرطنة الخلايا مثل الإشعاعات المسرطنة والكيماويات المسرطنة التي تقوم بحذف أو تغيير مباشر في الحمض النووي.
5 – طفرة واحدة لا تكفي
لو افترضنا أننا نقوم بدراسة خلية لا تتعرَّض لأي عوامل مسرطنة سواءً كانت إشعاعات أم كيماويات مسرطنة، فما هو معدل التطفر الذي نتوقعه في كائن متعدد الخلايا معقَّد مثل الإنسان (100 تريليون خلية)؟
يحصل الانقسام الخلوي بمعدل يقارب 100 تريليون مرة في حياة الإنسان. وفي كل انقسام تكون هنالك احتمالية ثابتة للتطفر الذي يحدث نتيجة السرعة الهائلة لنسخ الشيفرة الوراثية، ومن ثم نقلها إلى نواة جديدة لتكون لدينا الخلية الجديدة. وتصل هذه الاحتمالية خلال فترة حياة الإنسان إلى 10 مليارات طفرة لكل جين واحد! ومثل هذا الرقم الهائل يجعلنا نسأل السؤال بطريقة أخرى: لماذا لا يحدث السرطان أكثر من المعدل الحالي؟
لابد أن تكون الإجابة أن طفرة واحدة لا تكفي. ولكن من المتوقع أنه بازدياد العمر تزيد نسبة حدوث السرطان؛ لأن الطفرات أصبحت أكثر، واقتربت من 10 مليارات طفرة لكل جين! وهذا فعلاً ما تمت ملاحظته متكرراً في كثير من أنواع السرطانات.
6 – جولات من التطفر والانتخاب الطبيعي
بما أن الورم مكون من خلايا يصل عددها إلى الملايين في مرحلة اكتشافه، فعلينا أن ننظر بقليل من التفصيل في الفروقات بين الخلايا المكونة للورم. وكما اتفقنا سابقاً بأن الورم يبدأ من خلية واحدة؛ فإن هذه الخلية تُعد الأقدم ضمن ملايين الخلايا الأخرى في الورم. ونلاحظ أن مع كل انقسام خلوي يكتسب الجيل الجديد من الخلايا طفرات بتسارع أكبر من الخلية الأولى، بسبب زيادة الاضطراب الجيني في الخلية وضعف قدرتها على تصحيح الطفرات الجينية. وهذا يجعل من خلايا الورم الجديدة النشوء – بخلاف الخلية الأم الأولى – خلايا ذات عدائية أكبر تراكمت فيها طفرات نتجت عن تفاعل الجيل الأول من الورم مع النسيج والجهاز المناعي، فهذه الطفرات تجعل الورم لا يهزم.
7 – فقد السيطرة على الموت الخلوي
والتمايز الخلوي بناءً على النقطة السابقة، فإن عدداً أكبر من الخلايا سيوفر طفرات أكثر، وبالتالي فإن فرصة الوصول إلى طفرة تجعل الورم قادراً على التغلب على باقي الخلايا ستكون أكبر. وهنا نجد أن من أهم خصائص مرض السرطان هو اكتساب طفرة لزيادة العدد الكلي لخلايا الورم، دون فقدان أيٍّ منها، وهذه الطفرة تؤدي إلى تعطيل برنامج الموت الذاتي للخلية: وهو برنامج ينطلق في حالة اكتشاف خلل كبير في المادة الوراثية للخلية، أو وجود فيروسات في الخلية؛حيث تعمل الخلية مع الجهاز المناعي لتدمير كافة مكوناتها. وبتعطيل هذا البرنامج تتسارع الانقسامات بما يزيد عدد الخلايا المكوِّنة للورم.
إلى ذلك، هناك تعطيل التخلق والتمايز الخلوي. ومن الأمثلة على التخلق، العملية التي تقوم بها خلايا الجلد السفلى باستبدال خلايا الجلد العليا بعد أن تموت وتسقط الطبقة الخارجة للجلد، حيث تتمايز الطبقات السفلى لتقوم مقام الخارجية. وبتعطيل هذه العملية تظل الخلايا محتفظة بشكل غير متخلق، ولا يسهل التخلص منها مثل طبقة الجلد الخارجية، وتزيد من العدد الكلي للورم.
بهاتين الخطوتين يكون السرطان قد اكتسب أدوات بالغة الأهمية، للوصول إلى مرحلة الخطر الكاملة.
8 – شيخوخة الخلية
بإمكان خلية مثل خلية الجلد أن تتكاثر لمرات ومرات عديدة، ولكن يبدو أن هناك عدداً من الانقسامات إذا انتهت منها الخلية، فإنها تدخل في مرحلة الشيخوخة ولا تستطيع أن تنقسم بسهولة بعدها. بينما الخلايا السرطانية عندما تُدرَس خارج جسم الإنسان تتصرف كأنها «خلايا خالدة» طالما توافر لها الغذاء، فلا تتوقف عن الانقسام بخلاف المعتاد.
إن دور شيخوخة الخلية في نشوء السرطان ليس واضحاً بعد. فالبعض يقول إنه حاجز إضافي تحتاج الخلية السرطانية لتجاوزه وهذا يجعل منه وسيلة حماية. والبعض الآخر يقول إنه على العكس من السائد يزيد من ظهور الخلية السرطانية ويعطيها فرصة للنمو في نسيج يعاني شيخوخة، وهذا قد يضيف تفسيراً للزيادة الكبيرة في معدلات حدوث السرطان لدى كبار السن.
9 – انتشار السرطان
نتحدث الآن عن أقل الخصائص فهماً لدى العلماء، والأكثر إثارة للخوف عند الناس. فلكي يقوم الورم بالانتشار، فإنه يحتاج إلى مجموعة معقَّدة من الخطوات، أولها أن يتفلَّت من مكان نشوئه، ثم يغزو باقي النسيج والأوعية الدموية أو اللمفاوية المجاورة، لتأخذه إلى أماكن أبعد؛ حيث يستعمر أنسجة جديدة. هذه الخطوات تكلف الخلايا ثمناً باهظاً؛ بحيث لا تستطيع إكمالها إلا نسبة بسيطة جداً من الخلايا، تصل نسبتها إلى أقل من واحد على ألف مليون، ولأن الورم يحتاج أيضاً إلى أوعية دموية جديدة تغذيه. ولاحظ العلماء أن الورم يفرز مواد تشكل أوعية دموية جديدة خاصة به.
العلاج الجراحي
إن التدخل الجراحي من أكثر الطرق استخداماً في علاج السرطان، ولكنه يظل غير مجدٍ في حالة انتشار المرض. ويطوِّر العلماء سبلاً جديدة لجعل التدخل الجراحي أكثر دقة في استئصال الورم فقط دون إضرار بالمنطقة المجاورة له.
العلاج الإشعاعي
يخضع ما يقارب 40% من مرضى السرطان للعلاج الإشعاعي في مرحلة ما من مرضهم. إما للقضاء على الورم أو على الخلايا المتفلتة من الورم، والتي لا يمكن رؤيتها أو استئصالها جراحياً، أو لتخفيف الآلام في الحالات المستعصية.
العلاج الكيميائي
الفكرة الأساسية من العلاج الكيميائي هي التدخل في عملية الانقسام الخلوي، ومنعه أو التأثير عليه بأدوية تؤثر على البروتينات المسؤولة عن الانقسام، أو مباشرة على الحمض النووي. ومن أكبر مشكلات العلاج الكيميائي أنه يؤثر على الخلايا الطبيعية بجانب تدميره للخلايا السرطانية؛ مما يؤدي إلى ضعف عام وتقرحات في الأمعاء والجلد وتساقط للشعر. ولهذا السبب يعمل العلماء على تطوير أدوية ذكية تؤثر على الخلايا السرطانية وحدها.
العلاج الهرموني
وتحتاج بعض الأورام إلى الهرمونات، للحفاظ على حيويتها وقدرتها على التكاثر، مثل سرطان الثدي وهرمون الأستروجين أو البروجيستيرون (هرمونات الأنوثة)، أو سرطان الخصيتين وهرمون التستوستيرون. وعبر التلاعب بمستويات الهرمونات بإمكاننا أن نؤثر على السرطان تأثيراً كبياً، وقصة دواء (تاموكسيفين) الذي استخدم لعلاج بعض أنواع سرطان الثدي، مثال على علاج هرموني أنقذ كثيرين من الموت.
العلاج المناعي
يتحدث علماء المناعة عن دور كبير لخلية مناعية تسمى (الخلايا المثبطة النخاعية) في فتح المجال أمام بعض السرطانات للتكاثر. وتركز العلاجات المناعية على تحفيز الجهاز المناعي لاكتشاف الخلايا السرطانية في مرحلة مبكرة والقضاء عليها.
العلاج الجيني
بما أن السرطان في أساسه هو اضطراب جيني وتراكم للطفرات، فالعلاج الجيني يحمل آمالاً كبيرة في المستقبل، وقد يقوم العلاج الجيني يوماً بزراعة جينات في الخلايا السرطانية للقضاء عليها، أو أن يزرع جينات تجعلها أكثر حساسية للعلاجات بمختلف أشكالها، أو يحمي الخلايا الطبيعية من التأثر بالعلاجات الكيميائية، مما يحسن نتيجة العلاج ككل.
يحمل المستقبل آمالاً واسعة في علاج السرطان، فلهذا المرض أنواع متعددة، وكل نوع يعالج بطريقة خاصة ومختلفة عن الآخر. وتركز أهم المجالات الحديثة في علاج السرطان على العلاج الفرداني؛ بحيث تصمم الأدوية والتدخل العلاجي بناء على التركيبة الجينية للمريض؛ حيث نقلل من الآثار الجانبية ونزيد من كفاءة العلاج. وتمثل الأدوية الذكية مجالاً واعداً للدراسة أيضاً، فكلما فهمنا التركيبة الجينية للخلايا السرطانية أكثر وأكثر كلما ازداد عدد الأدوية التي لا تؤثر إلا على الورم وحده دون غيره.
لاتوجد تعليقات