رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان.القاهرة/مصطفى الشرقاوي 17 يناير، 2011 0 تعليق

مع دخول مخطط تقسيم السودان حيز التنفيذ – دولة جنوب السودان شوكة في خاصرة العالم العربي وإسرائيل المستفيد الأول

 

إنه أمر محسوم أن يختار الجنوبيون الاستقلال عن الشمال في الاستفتاء حول تقرير المصير الذي يجري. بيد أن رد فعل حزب المؤتمر الوطني الحاكم على انفصال الجنوب الغني بالموارد، وصمود اللحمة الداخلية للحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب بعد الاستفتاء يثيران مخاوف عميقة على الصعيد المحلي، ولدى جيران السودان العرب والأفارقة، وداخل المجتمع الدولي.

     هكذا كان المشهد طوال السنوات السابقة خصوصا مع سيطرة التوجه الانفصالي على حكومة جنوب السودان بعد اغتيال الزعيم التاريخي للحركة الشعبية لتحرير السودان جون جارانج والذي كان يتطلع لسودان موحد يرأسه ويعيد تشكيل خريطته السياسية منهيًا سيطرة النخبة الشمالية على الأوضاع مدركًا افتقاد الجنوب لأبسط معالم الدولة فالأخير لا يمتلك البنية الأساسية من مدارس ومستشفيات وطرق وأجهزة أمنية قادرة على حفظ الأمن وبل إنه لكونه دولة حبيسة سيظل يعتمد لسنوات طويلة على الشمال في تصريف ونقل منتجاته النفطية باعتبار أن أغلب مصافي النفط ومعامل التكرير وخطوط الأنابيب موجودة به مع الوضع في الاعتبار أن الحاجة لبناء خطوط وأنابيب النفط إلى ميناء مومباسا الكيني تحتاج لسنوات طويلة واستثمارات ضخمة قد لا تقدم الدول الكبرى على ضخها نظرًا لتأكيد تقارير دولية أن احتياطي النفط في الجنوب ليس بالدرجة التي تسيل لعاب شركات النفط الكبرى للمخاطرة بمليارات الدولارات.

صراعات قبلية

      والواقع أن كل الدلائل تشير إلى أن جنوب السودان لن يشهد استقرارًا خلال الفترة الانتقالية أو التالية لبدء الاستقلال الفعلي في ظل الصراعات القبلية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة، فالجميع يدرك أن قبائل النوير والشلوك لن تقبل بهيمنة قبائل الدينكا نقوك على الأوضاع في الجنوب وتحولهم إلى مواطنين من الدرجة الثالثة.

      وبالتالي تزداد احتمالات اشتعال صراعات مسلحة في الجنوب خصوصًا أن الاشتباكات التي شهدتها مناطقه خلال الأشهر الماضية قد خلفت ما يقرب من 3 آلاف قتيل وهو أمر يتوقع أن تزداد وتيرته خلال المرحلة القادمة.

      ولا شك أن الأوضاع الاقتصادية المعقدة وتنامي الفقر والبطالة والأمية في الجنوب لدرجة أن أحد التقارير الصادرة عن المنظمة العربية للتربية الثقافة والعلوم قدرت أرقام الأميين بما يزيد على 95% من عدد سكانه البالغ تعدادهم حوالي 4 ملايين سيزيد من قتامة الوضع، وسيفتح الباب أمام موجة من الاضطرابات الاجتماعية والأمنية خصوصا أن أغلب الأموال التي خصصت لحكومة الجنوب من النفط السوداني والبالغة حوالي 16 مليار دولار قد ذهبت إلى دعم وتأهيل الجيش الجنوبي وشراء طائرات ودبابات وعتاد عسكري استعدادًا لجولة قتال جديدة مع الشمال، فيما وضع زعماء الحركة الشعبية نسبة كبيرة من الأموال الطائلة في حساباتهم الخاصة وهو ما تدركه قوى جنوبية عديدة لن تترك الأمر يمر مرور الكرام حتى تحصل على نصيب من كعكة الجنوب ولو بالقوة.

مسلمون مهمشون

     ولا تقتصر الفئات الرافضة لهيمنة قبائل الدينكا على النوير والشلوك فهناك المسلمون في الجنوب الذين يشكلون 25% من عدد السكان ويواجهون أوضاعًا شديدة الصعوبة حيث تمارس ضدهم أبشع أنواع التهميش الديني وتفرض عليهم العلمانية قصرًا لدرجة أن حكومة الجنوب تمنعهم حتى من الصدح بآذانهم عبر مكبرات الصوت وتوجه لهم تهديدات مباشرة بأنهم لن يسمح لهم بإدخال الدين في ممارسات سياسية، بل إن عليهم عدم التفكير جملة وتفصيلاً في تطبيق مواد الشريعة الإسلامية أو إقامة صلات مع أي تيارات إسلامية في الجنوب ناهيك عن القيود الشديدة المفروضة على المدارس الإسلامية في الجنوب وانتشار الفقر والبطالة بين صفوفهم وحرمانهم من لعب أي دور سياسي.

     بل إن حكومة الجنوب تسعى لإفساد عقيدتهم عبر العمل على فتح محلات لبيع الخمور في مناطقهم ناهيك عن انتشار دور السينما المنحلة لإفساد أخلاقهم وتصل المأساة مداها عبر السماح لمئات من منظمات التنصير في العمل بجنوب السودان حيث تتواجد هناك كافة ألوان الطيف الكنسي فهذا كاثوليكي والآخر بروتستانتي، خصوصًا منظمات شهود (ياهو وكارايتاس) وجيش مريم و(أوكسفام) وإرسالية (سانت جيمس)، والمنظور الغربي للتنصير والمعهد البابوي للإرساليات التنصيرية وهيئة رعاية الطفولة الأمريكية ومنظمتا S S M الإيطالية، وأطباء بلا حدود الفرنسية، وكلها منظمات تعمل عبر مكاتبها الموجودة في جوبا وغيرها من مدن الجنوب على تنصير المسلمين ومعهم الأغلبية الوثنية في الجنوب. 

وهم المعونات

     من البديهي الإشارة إلى أن حديث البعض عن سعي الغرب لدعم الدولة الوليدة بالمعونات والخبرة والاستثمارات أمر مشكوك فيه بقوة ولا تدعمه تجربة مماثلة، وبل العكس قد يكون الصحيح فالسعي إلى تفتيت السودان وتعميم تجربة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في العالم العربي هو الهدف الأهم من وراء دعم محاولات الانفصال، وليس إيجاد دولة قوية في الجنوب وليس أدل على ذلك من تجربة انفصال تيمور الشرقية عن إندونيسيا فقد قدم الغرب الوعد تلو الآخر للتيموريين بالرخاء والتنمية والمعونات وهو ما لم يتحقق، بل إن هذا الإقليم الذي كان يتمتع برعاية الدولة الإندونيسية غدا من أفقر البقاع في العالم وهو أمر مرشح للتكرر بقوة في جنوب السودان بل إن مواطني الجنوب عليهم النظر إلى دول جوارهم خصوصًا في إثيوبيا التي يعتبرها الغرب رأس حربة لمخططاته في القرن الإفريقي، فماذا قدم لشعبها الفقير ولدولة الجوار الإريترية.

     لذا فكل الأوضاع في الجنوب تسير في اتجاه وجود دولة فاشلة لا تتمتع بأدنى متطلبات الدولة، كما يؤكد السفير عبد الله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري السابق بقوله: نحن أمام دولة تشبه الصومال فلا بنية أساسية ولا تتوافر لها أجهزة أمنية ولا كوادر قادرة حتى على العمل بوصفهم موظفين في دواوينها ولا فريق عمل دبلوماسي قادر على تنظيم علاقاتها الخارجية ولا قوات حرس حدود قادرة على حماية حدوده ولا تماسك اجتماعي قادر على لم شملها، بل هناك خصوما أقوياء للدينكا لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه هيمنتها على مقدرات الجنوب.

كيان هش

     وتابع لا شك أن التركيبة الإثنية والاجتماعية في الجنوب تشكل قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أي وقت وهو ما قد يسمح بارتهان هذه الدولة الوليدة لعدد من دول الجوار بل إن هذه الأوضاع المضطربة قد تعطي فرصة سانحة لخلايا القاعدة النائمة للعمل انطلاقا من جنوب السودان مستغلين معاناة بعض قبائل الجنوب من التهميش والأوضاع السيئة جدًا لمسلمي الجنوب بل إن القاعدة تستغل حالة الفراغ الأمني لأداء  دور في الجنوب والانطلاق منه لتوجيه ضربات للقوات الدولية العاملة في دارفور.

     واعتبر الأشعل أن دولة الجنوب ستشكل تهديدًا كبيرًا لدول الجوار العربي فعلاقاتها المتميزة مع إسرائيل التي شكلت الداعم الأساسي للحركة الشعبية طوال سنوات طويلة ستترجم في تقديم تسهيلات عسكرية للدولة العبرية مقابل إمدادها بمختلف أنواع العتاد العسكري القادر على التصدي لأي مواجهة محتملة مع الشمال، بل إن الطرفين قد يعملان بقوة على زعزعة الاستقرار الهش في شمال السودان في مناطق مثل النيل الأزرق وجنوب كردفان، مدللاً على ذلك بتصريحات سيلفا كير ووصفه لإسرائيل بأنها عدوة الشعب الفلسطيني وليس لمواطني جنوب السودان.

تهديدات متلاحقة

     وإذا كان الأشعل قد وصف الدولة الوليدة بالفشل وحكم عليها بالاضطراب الأمني فإن الأوضاع لن تكون أفضل حالاً في شمال السودان بعد الانفصال سواء مر هذا السيناريو بهدوء أم شهد توترا واندلاع جولة جديدة من الحروب لاسيما في جبهة آبيي والتي يرفض الطرفان تقديم تنازلات فيما يخص مصيرها في ظل تمتعها بالكمية الأكبر من نفط السودان، فالأخير سيشهد أوضاعًا اقتصادية معقدة بعد خسارة نسبة كبيرة من إنتاج البلاد من النفط من انفصال الجنوب مما يؤثر بشدة على ميزان المدفوعات السوداني، وبل سيقف حجر عثرة أمام إتمام حكومة الخرطوم لعدد من المشروعات التنموية في مناطق الشرق والنيل الأزرق وجنوب كردفان ما سيفتح البلاد أمام اضطرابات سياسية واجتماعية وأمنية ستصعب من مهمة حكومة الخرطوم في مواجهتها.

     ولا تتوقف الصعوبات التي ستواجه السودان بعد الانفصال خصوصا أن الاستفتاء على مصير الجنوب لن يكون الأخير في تاريخ السودان الجديد في ظل إخفاق مفاوضات السلام الخاصة بدارفور  في الدوحة في الوصول لتسوية بل حديث بعض قادة التمرد في دارفور عن إمكانية تكرار سيناريو تقرير المصير في الإقليم المضطرب وهو أمر قد يتكرر في جنوب كردفان والنيل الأزرق في ظل ادعاءات قادة الحركة الشعبية بتبعية المنطقتين للجنوب واحتمالات دخول تل أبيب وجوبا على خط الأزمة بإشعال الاضطرابات في أطراف السودان لإضعافه وفتح الأبواب أمام احتمالات تفتيته.

     ومن الثابت أن انفصال جنوب السودان قد يغرق شمال السودان نفسه في خضم من الأزمات، فأحزاب المعارضة لن تترك الانفصال يمر مرور الكرام بل ستستغله لإثارة المتاعب للنظام، بل العمل على إسقاطه مستغلة حالة من السخط الشعبي لانفصال الجنوب وكذلك احتمالات تأزم الوضع الاقتصادي بشكل قد يعجز حكومة الخرطوم عن الوفاء بالتزاماتها المالية والتنموية؛ مما سيفاقم من الأوضاع الاقتصادية، وسيرفع من أعداد العاطلين بشكل قد يهيئ الأوضاع للانفجار خصوصًا في حالة تنفيذ المعارضة تهديدها بهبة شعبية تسقط حكومة الإنقاذ.

     وتتصاعد المخاوف من إمكانية أن تؤدي هذه الأجواء المتوترة إلى تهديد وحدة واستقرار ما تبقى من السودان فالدول الغربية لن تكتفي بانفصال الجنوب وحده بل تسعى لشرذمة السودان وتحويله إلى أربعة كيانات: الأول في الشمال، والثاني في الجنوب، فيما تتولى تطبيق السيناريو نفسه في دارفور والشرق وذلك لتفتيت أكبر قطر عربي وإضعافه وتمهيد الأجواء لتكرار النموذج نفسه في جنوب مصر واليمن وشمال العراق ولبنان، وفتح الأبواب على مصراعيه لبلقنة المنطقة فمثل هذه الأجواء ستسهل لهذه القوى تنفيذ مخططاتها والسطو على ثروات الأمة فيما ينصب جهد هذه الأمة على مقاومة مخططات التقسيم دون البحث عن سبل ناجحة لحل المشاكل المزمنة وهو أمر مشكوك بشدة في قدرتها على التصدي له في ظل غياب إرادة سياسية جماعية تستطيع توحيد كلمته وتشكيل جبهة موحدة تستطيع إنقاذ ما تبق من وحدة الأمة واستقرارها.

إجماع وطني

     ومن ثم فإن حكومة الخرطوم تواجه تحديات شديدة أقلها احتمالات الدخول في نزعات مسلحة مع الدولة الوليدة حول آبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن مشكلات الديون والجنسية وتقاسم النفط وسبل نقله وغيرها من المشاكل مثل تصاعد التوتر مع المعارضة الشمالية والإخفاق في إحداث تسوية في دارفور وهي قضايا تشكل تعقيدات يصعب على التركيبة السياسية في الخرطوم بوضعها الحالي تفكيك عناصر الخطر فيها، بل إن الأمر يقتضي من حكومة الإنقاذ كما يؤكد د.هاني رسلان رئيس وحدة السودان بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام الدعوة إلي مؤتمر وطني عام يفضي لمصالحة شعبية بين جميع الفرقاء السودانيين سواء في الشمال أم في الغرب أم مع البجا في الشرق، تترجم في حكومة توافق وطني تتولى تسوية جميع المشكلات المهددة لما تبقى من السودان.

     ولفت رسلان إلى أن ملف آبيي يشكل أبرز التحديات التي تواجه حكومة السودان، فهذه القضية كان يجب تسويتها مع قضايا أخرى قبل الاستفتاء حتى لا تترك جيوب تهدد بعودة الحرب من جديد لافتًا لاحتمال تعرض حكومة الخرطوم لضغوط دولية لتقديم تنازلات في هذه القضية وهي ضغوط لن تستطيع مواجهتها إلا مدعومة من إجماع وطني.

     وتابع يجب على حكومة الخرطوم عدم رفض أي تسوية مع المعارضة الشمالية لأن تصاعد التوتر معها سيغل يد الحكومة عن التحكم بزمام المبادرة بل يجب عليه تبني خطاب واقعي يجمع الفرقاء ولا يفتح الباب أمام سيل من الاضطرابات السياسية قد تقود السودان معها للتحول لكيانات أربعة وتهدد بتكرار السيناريو اليوغوسلافي في السودان ودول الجوار العربية وفي وقت سيتصدى الغرب بقوة لإمكانية تكرار سيناريو التفتيت إلى إثيوبيا باعتباره من أبرز حلفائه في هذه المنطقة المهمة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك