مع تصاعد الخلافات بين شريكي الحكم في السودان انفصـال الجنـوب الدامي وعودة الحـرب يدقان أبواب السودان
من يلحظ اللهجة الانفصالية العالية لمسؤولي حكومة جنوب السودان وتهديدهم بإعلان الانفصال من جانب واحد أو من داخل برلمان الجنوب ولاسيما مع اقتراب موعد الاستفتاء على ميلاد دولة جديدة في جنوب السودان أو بقاء البلاد موحدة والمقرر أن يعقد في التاسع من يناير القادم، يشعر أن مسألة انفصال الجنوب رغم وجود عوائق شديدة في طريقها أصبحت قريبة من أي وقت ممكن.
إن حكومة الجنوب التي تتمتع بعلم ونشيد خاصين وعملة مستقلة وتمثيل أجنبي لم تعد تعبأ بكلمة الوحدة من قريب أو بعيد بل وصارت منذ فترة تتصرف كأنها دولة مستقلة لا تتشاور مع المركز في الخرطوم في قضية من القضايا حتى إن وزارة الوحدة القابع مقرها في الخرطوم صارت بدون وظيفة.
ولعل تربص كبار المسؤولين بالجبهة الشعبية لتحرير السودان بخروج تصريحات من الفريق طاهر عثمان الطاهر رئيس المفوضية العليا للاستفتاء عن احتمالات تأجيله لفترة قصيرة لأسباب وصفها بالفنية واللوجيستية، يكشف ما يدور في عقولهم من سعي لتكريس الانفصال؛ فقد أكد زعيم الجبهة والنائب الأول للرئيس السوداني سِلفاكير أن مثل هذه التصريحات تبدد الشراكة بين الشمال والجنوب ملمحًا إلى إمكانية إعلان استقلال جنوب السودان من جانب واحد في حالة إصرار المؤتمر الوطني على العبث باتفاق نيفاشا، لافتًا إلى أن عدد المؤيدين للانفصال بين الجنوبيين أصبح يتزايد بشكل مطرد، وتابعه الأمين العام للجبهة «باقان أموم» بالإشارة إلى عدم القبول بأي شكل من الأشكال بهذا التأجيل، مشيرا إلى أن هذا التأجيل يدفع بخيارات عديدة لواجهة الأحداث من بينها إعلان الانفصال من جانب واحد من داخل برلمان الجنوب، وهو تقليد ليس جديدًا في السودان فقد أعلن عام 1955م في البرلمان السوداني عن استقلال البلاد.
معارضة وخروقات
غير أن هذا التهديد واجه معارضة شديدة داخل الحزب الحاكم في السودان، حيث اعتبره مسؤولون كبار داخل المؤتمر الوطني غير قانوني كونه يخالف اتفاق السلام الذي أنهى الحرب وأعطى الجنوبيين حق تقرير المصير، فبنود الاتفاق لا تتحدث في أي نص من نصوصه إلا عن الاستفتاء كخيار وحيد للانفصال أو استمرار الوحدة، فضلاً عن أن تعالي الصوت الانفصالي لدى قادة الجنوب يعد مخالفة كذلك لبنود الاتفاقية التي تحدثت عن ضرورة بذل الطرفين جهودًا لجعل خيار الوحدة هو الأكثر إلحاحًا لمواطني الجنوب، بل واعتبرت حكومة الخرطوم نفسها غير معنية بأي خطوة أحادية يعلنها الجنوبيون، وهو ما يشير إلى تصاعد التوتر بين الطرفين بشكل قد يجعل الانفصال ذا طابع دموي يعيد انطلاق أطول حرب أهلية وقعت في أفريقيا رغم وجود إمكانية لإعلان هذا الاستقلال الأحادي إذا حظيت الخطوة بدعم ومباركة أمريكية.
ولم تقف الخلافات بين شريكي الحكم عند هذا الحد، حيث تبادل الطرفان الاتهامات بتبديد عائدات البلاد من النفط بأكثر من 16 مليار دولار وتعزيز قدراتهما العسكرية تحسبًا لانفجار الحرب فيما بينهما، حيث ترددت أنباء عن قرب تسلم حكومة الجنوب لما يقرب من 16 طائرة مقاتلة استعداد لرد أي اجتياح من قبل الشمال لأراضي الجنوب أو السعي لتسوية بعض المشكلات بالقوة إذا عجز التفاوض عن إيجاد حلول لها، ومنها ترسيم الحدود وقضية أبيي التي فشل الطرفان في إيجاد تسوية لها فلوحت حكومة الجنوب بالعودة إلى محكمة العدل الدولية لتفسير حكمها فيما يتعلق بالمنطقة الغنية بالنفط، فضلاً عن بقاء قضايا دون حسم مثل المياه وأوضاع قبائل المسيرية العربية التي تتمسك بحقوق الرعي التاريخية لأبقارها في أرض الدينكا إذا ضرب مراعيها الجفاف وهي قضية خطيرة في ضوء رفض المسيرية التخلي عن أسلحتها المستخدمة في رعاية قطعانها في حالة انتقالها لأراضي الدينكا.
وفي ظل هذه الأجواء المتوترة يؤكد جميع المهتمين بالشأن السوداني علي أن انفصال الجنوب عن الشمال في دولة مستقلة هو الخيار الأكثر توقعًا واحتمالاً برغم المخاطر الضخمة التي يمكن أن يجلبها الانفصال على الشمال وعلى الجنوب، وربما على دول عديدة في القارة الأفريقية، بل أن الأمر الأكثر قسوة أن طرفي الصراع يعدان أنفسهما الآن لقبول خيار الانفصال وسط مخاوف متزايدة من احتمالات تجدد الصدام أو انتشار الفوضى، خصوصًا في الجنوب نتيجة نزاعات عرقية وقبلية ومخاوف عميقة من اشتعال صراعات مسلحة بين قبائل الدينكا المهيمنة على حكومة الجنوب وبين قبائل النوير والشلوك المناهضة بشدة لهذه الهيمنة والمتخوفة من مصير مظلم لها في حالة الانفصال، وهي صراعات خلفت خلال هذا العام فقط أكثر من ألف قتيل مما يكشف عن إمكانية انزلاق الأوضاع إلى طابع دموي ومدمر في حالة الانفصال وفق التركيبة السياسية الحالية في الجنوب.
مواقف صادمة
بل إن الأمر الصاعق أن الحزب الحاكم أو لنقل أجنحة نافذة داخله أصبحت أكثر تأييدًا لانفصال الجنوب والتخفف من أعبائه الاقتصادية والاجتماعية وعدم إهدار مليارات الدولارات على تأهيل مناطقها ولاسيما أن مناطق عديدة داخل الشمال والغرب والشرق قد اكتشفت بها ثروات نفطية قد تعوض السودان عن انفصال المناطق الجنوبية الغنية بالنفط، بالإضافة إلى أن هذه الأجنحة ترى ضرورة الحفاظ على الطابع العربي والإسلامي للبلاد وليذهب الجنوب للجحيم، متجاهلين التبعات الخطيرة بالانفصال على وحدة السودان وإمكانية تكرار «سيناريو» الانفصال في دارفور بعد تلويح حركة العدل والمساواة بالمطالبة بحق تقرير المصير ووجود نفس المشكلة مع جبهة الشرق، ناهيك عن مخاطر هذا الانفصال على دول مجاورة تواجه مشاكل عرقية مماثلة مثل إثيوبيا التي لا تعاني صراعا عرقيًا بين التيجرانيين والأمهرا والأورومو والصوماليين في الأوجادين.
ومما يزيد من تعقيد الأزمة حالة الصمت المريب من قبل الدول والجامعة العربية على مساعي الجنوب للانفصال وعدم وجود دور عربي قوي لجعل الوحدة أكثر إغراء للجنوبيين سواء تنمويًا أو سياسيًا، فمنذ مدة لم نلحظ اهتمامًا عربيًا بانفصال الجنوب، بل أن الصورة تزداد قتامة حينما ندرك أن أكثر من عاصمة عربية تتعامل مع الانفصال منذ فترة غير قصيرة على أنه أمر واقع، بل تقدم دعمًا لحكومة الجنوب لإيجاد نوع من الأرضية له داخل الدولة الوليدة، حتى إن مصر وهي المتضرر الأول من الانفصال - حال حدوثه - بذلت محاولات خجولة للحفاظ على وحدة السودان عبر دعوة طرفي الصراع إلى ورش عمل بالقاهرة طرحت خلالها صيغة علمانية للسودان تلغي تطبيق الشرعية الإسلامية، غير أن هذا الخيار لم يجد آذانا صاغية حتى في أوساط الشماليين الذين خرجت إشارات من بينهم تؤكد عدم قبولهم بالمساس بالشرعية حتى لو كان الثمن انفصال الجنوب.
محاولات خجولة
الجهود المصرية الخجولة للحفاظ على وحدة السودان ومنع ولادة دولة جديدة قد تعطي مبررًا قانونيًا لدول الحوض لإعادة النظر في اتفاقية 1959 التي أمنت لمصر حصة تقدر 55 مليار متر مكعب لم تجد حتى تأييدًا بين النخب المصرية، حيث اعتبرها السفير عبد الله الأشعل نائب وزير الخارجية المصرية السابق محاولة غامضة هدفها رغبة النظام في ذر الرماد في العيون والتأكيد على أنه بذل كل ما في وسعه للحفاظ على وحدة السودان، غير أن انه اصطدم بمواقف متباعدة ومتشددة من قبل طرفي الصراع؛ مما سيعطي مبررًا للنظام للتعامل مع الأمر من منظور «براجماتي»، ضاربًا بأهمية وحدة السودان للأمن القومي المصري عرض الحائط.
ويرى الأشعل أن المشكلة تمثلت في أن طرفي الصراع لم يضعا خيار الوحدة في مقدمة أهدافهما، حيث أمضيا مدة طويلة في الصراع السياسي فيما بينهما حول تفسير نقاط اتفاق السلام، وكذلك ظهرت خلافات فيما يتعلق بمصير أبيي وبترول الجنوب ومصير مفوضية الانتخابات التي لم يقع الاختيار على منصب الأمين العام لها رغم اقتراب موعد الاستفتاء، مشيرًا إلى أن التركيبة الحالية لحكومة الجنوب تكشف سيطرة الطابع الانفصالي عليها وهو ما ظهر جليا في تمسكها بنسبة 50% +1 كنسبة للتصويت على خيار الانفصال رغم أن استفتاءات عديدة رفعت نسبة تأييد الانفصال ما بين 55 و65 % باعتبار أن قضية الانفصال مصيرية تستلزم تأييد أغلبية واضحة.
ورجح نائب وزير الخارجية المصري السابق أن يكون مستقبل انفصال الجنوب السوداني غامضًا، فالدولة الوليدة لا تمتلك أدنى إمكانيات الدولة الحديثة، فلا توجد مؤسسات أو مدارس أو مستشفيات، فضلاً عن افتقادها لميناء بحري يتولى تصريف ثرواتها النفطية مما سيجعلها تشكل عبئًا على دول الجوار المتوجسة بشدة من إمكانية تكرار «سيناريو» الانفصال بها.
نظام فيدرالي
كلام السفير الأشعل عن الصعوبات التي تواجه الدولة الوليدة في جنوب السودان يتقاطع مع إبداء أكثر من دولة من دول الجوار مخاوفها من تداعيات الانفصال لاسيما أن مشكلة التهميش التي يعانيها الجنوبيون تتكرر في عشرات من الدول الأفريقية؛ مما يعد سابقة قابلة للتكرار تهدد الدولة الوطنية في القارة السمراء مما جعل هذه الدول تتريث في تحديد موقفها من احتمالات الانفصال، بل إن بعضها طالب عواصم القرار الدولي بالتدخل لفرض نظام فيدرالي أو كونفيدرالي في السودان، بدلاً من مواجهة عواقب وخيمة للانفصال، ولكن يبدو أن الردود الغربية لم تكن ملائمة لرغبات هذه الدول حتى الآن على الأقل.
ومن البديهي الإشارة إلى أن العامل الأمني قد فاقم من مخاوف العديد من القوى الإقليمية والدولية من تداعيات الانفصال في ظل اهتراء المؤسسات الأمنية للدولة المتوقعة في الجنوب، فضلاً عن قربها من الصومال الذي ترفع فيه القاعدة أعلامها ومن اليمن التي تواجه صعوبات أمنية مماثلة وهو ما سيوفر بيئة مناسبة لـ «القاعدة» للتسلل للجنوب في ظل الحرب المتوقع اندلاعها بين قبائل الجنوب؛ مما سيشكل تحديًا أمنيًا لواشنطن خصوصًا أن احتمال انتشار فيروس الانفصال والفوضى إلى دارفور سيفسح المجال للقوى الراديكالية للوصول للإقليم وتوجيه ضربات قاضية للقوات «الهجين» بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وهي تهديدات قد تحمل واشنطن بحسب بعض المراقبين على تغيير موقفها من الانفصال، خصوصًا أن المتوقع أن ترى النور قريبًا مصنفة ضمن الدول الفاشلة لمدة ليست بالقصيرة، غير أن هذا الخيار يبدو صعبًا حتى الآن.
عودة إلى الوراء
وفي نفس السياق يرى اللواء وجيه عفيفي سلامة الخبير الإستراتيجي أن تزايد احتمالات انفصال الجنوب قد يعيد عقارب الساعة في السودان إلى الخلف في ظل عدم اكتراث الجنوبيين بوحدة البلاد لدرجة أنهم أطلقوا تهديدات بإعلان أحادي له لمجرد التلويح بإمكانية تأجيل الاستفتاء عدة أشهر، وهو ما يكشف عن نوايا الحركة الشعبية لاختطاف هذا الاستفتاء وتزويره مما يتطلب يقظة من حكومة الخرطوم.
وتابع اللواء سلامة: إن مجمل التطورات في السودان تشير إلى اكتساء الانفصال بطابع دموي واحتمال اشتعال مواجهات عسكرية ولاسيما أن هناك قضايا مثل أبيي يراهن الكثيرون على وجود نية لدي الطرفين لفرض الأمر الواقع فيها بقوة السلاح، فضلاً عن احتمال اشتعال الصراع الدامي بين قبائل الجنوب فيما بينها، مشيرًا إلى أن هدف الغرب من انفصال الجنوب واضح ويتمثل في قطع الصلات بين العالم العربي والدول الأفريقية حيث كان السودان بـ «موزاييكه» العرقي والديني يمثل قناة مهمة بين الطرفين.
وأوضح الخبير الإستراتيجي أن قطار الانفصال انطلق في جنوب السودان ولن يستطيع أحد إيقافه في ظل غياب إرادة عربية أو حتى من حكومة الخرطوم للحفاظ على هذه الوحدة، ووجود نوع من التوافق بين القوى الدولية لتقسيم السودان واستخدام
هذا «السيناريو» في عدد من دول القارة لإخضاعها واستنزاف ثرواتها باعتبار أن تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ هما حجر الزاوية في الإستراتيجية الغربية.
لاتوجد تعليقات