رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 13 يناير، 2014 0 تعليق

معـــالـــم في الوسطية والاعتدال 3- الوسطية في الدعوة إلى اجتماع الكلمة


إن الدعوة إلى اجتماع الكلمة تلقى الرواج والفرحة عند المخلصين والغيورين، الذين يحملون هَمَّ الأمة المسلمة في كل عصر، وقد أمر الله سبحانه وتعالى باجتماع الكلمة، وحذَّر من الفرقة والاختلاف، واتباع كل ذي رأي رأيه؛ لأن هذا يفضي إلى الوهن وتسلُّط الأعداء.

والاجتماع قد أمر به النقل والعقل والعرف والواقع:

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران: 103)، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿31﴾مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(الروم: 31 - 32، وقال جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(الأنعام: 159)، فبّرأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الانتساب إلى أهل الفرقة في الدين.

     وقال جل وعلا: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال: 46)، وقال سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(الشورى: 13)، وذمّ الله أهل الفرقة بعد أن جاءهم العلم، وبيّن أن سبب ذلك بغي بعضهم على بعض، فقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}(الشورى: 14)، وحذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقة، فقال: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانا...» وقال: «يد الله مع الجماعة». وكان صلى الله عليه وسلم  حريصاّ على إصلاح ذات البين، وجعل فسادها ذهاباً للدين، فقال: «وإياكم والحالقة» قالوا: وما الحالقة؟ قال: «فساد ذات البين»، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأغلق الباب أمام كل ما يفرق الصفوف، ويفضي إلى تنافر القلوب، ولو كان في عبادة، فقال منكراً على معاذ لما أطال الصلاة: «إن فيكم منفِّرين»، وقال منكراً على أبي ذر عندما سبَّ غلامه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وذهب إلى بني عبد الأشهل ليصلح بينهم، وسارع في جمع الأنصار عندما بلغه أن بعض صغارهم قالوا يوم حنين: «يغفر الله لرسول الله: إنه يعطي قريشا غنائمنا، وإن سيوفنا لتقطر من دمائهم...» وشبه المؤمن للمؤمن بالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» فهذه سنن قولية وعملية منه صلى الله عليه وسلم في السعي إلى جمع الكلمة، والحذر من كل ما يفضي إلى فُرقة.

     وقد حرص علماء السنة على هذا الأصل العظيم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكل ما يؤول إلى الفرقة والوهن حذّروا منه، ودعوا الناس إلى الاعتصام بالأمر العتيق، وتسَّمْوا بأهل السنة والجماعة، مما يدل على أنهم يدعون إلى الأمرين، فيدعون إلى السنة في اجتماع وقوة، وإلى الاجتماع على السنة والبصيرة في الدين، فهم أهل سنة وجماعة، وأهل اتباع واجتماع، وأهل تمسُّك وتماسك، وأهل كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، فلم يقع هذا الشعار عند هذه الطائفة من فراغ، ولا وقع اتفاقاً دون قصد وإدراك لمدلوله، وما يُحترز به منه، فإنه احتراز من أهل البدعة والفرقة، والسنة إذا أُخذتْ من جميع جوانبها كانت باباً للاجتماع والائتلاف والقوة، وإذا أُخذت من جانب مع إهمال جوانب أخرى كانت سببا في الفُرقة والضلالة، كما حصل للأمم السابقة الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والذين ضلوا بعد هُدًى كانوا عليه.

     ومع أن الدعوة إلى اجتماع الكلمة من أجَلّ الطاعات، إلا أنها يجب أن تكون منضبطة بضوابط شرعية حتى تؤتي أُكُلها، وتُحمد عاقبتها ؛فإن هناك من إفراط في ذلك ومن فرّط، والحق الذي عليه علماء أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط.

وبالاستقراء للواقع المعاصر وجدت دعاة الاجتماع على أربعة اتجاهات:

- الأول: دعاة الماسونية: الذين ينادون بحرية الأديان، وعدم النظر إلى الدين عند اجتماع الكلمة، فينادون باجتماع اليهودي والنصراني والوثني والمسلم اجتماع أخوَّة ومودة، ويصرّحون بطرح الدين وراء الظهر، أو أن كل طائفة تحتفظ بدينها لنفسها، وأن الاختلاف في الأديان لايؤثر في الأخوة والتناصر!!

     ولاشك أن هذا المذهب مصادم لأصل دين الإسلام القائم على قاعدة الولاء والبراء بالضوابط الشرعية، والتفاصيل الفقهية، ومع ذلك فقد أثبتت التجارب والمواقف أن اليهود وغيرهم لايتنازلون عن عقائدهم وثوابتهم، وأنهم يروِّجون هذا المذهب لتحقيق مصالحهم فقط، فهؤلاء الدعاة ينظرون إلى المسلمين نظرة ريْب وعداء، بل نظرة احتقار وازدراء، ومنهم من يمثل دور الصديق للمسلمين، والحقيقة أنه مع العدو الظاهر على رأْي واحد في إنهاك المسلمين، وابتزاز ثرواتهم، وتمييع قضيتهم وحقوقهم، وتشويه عقائدهم وأصولهم، فياليت قومي يفقهون!!

- الثاني: وطائفة أخرى لكنها من جملة المسلمين، بل تنتمي إلى أهل السنة والجماعة: بلغ بها الحماس بدون ضابط شرعي إلى الدعوة إلى الاجتماع بمجرد الانتماء إلى الإسلام، والنطق بشهادة أن لا إله إلا الله، فنادوا بالتآخي مع الرافضة الإمامية، وغضوا الطرف عن كل معتقداتهم، ونسوا أو تناسوا تاريخهم مع الإسلام والمسلمين، وقالوا: ربنا وربهم واحد، ونبينا ونبيهم واحد، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، ومصحفنا واحد... الخ فلماذا نختلف معهم؟

     ومع أننا لو سلمنا -إرخاءً للعنان- بصحة هذه الوحدة الفكرية ؛ لما لزم من ذلك الدعوة إلى التآخي والتآلف والتناصر، ونسيان المعتقدات الأخرى، والتاريخ المظلم لهذه الطائفة حتى ننظر شهادة العمل والواقع بصحة هذه الشعارات أم لا؟! فكيف إذا كان هناك تصريح من بعض أئمتهم بكلمات تدل على انحراف في كثير من هذه الدعاوي التي تزعم الوحدة الفكرية؟َ! فهذا صاحب الأنوار النعمانية (2/ 278) يقول: «ووجه آخر لهذا لا أعلم إلا أني رأيته في بعض الأخبار، وحاصله: أنّا لم نجتمع معهم يعني مع أهل السنةـ على إله، ولا على نبي، ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب، ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا، ولاذلك النبي نبينا» ا هـ من  (علماء الشيعة يقولون) وثائق مصورة من كتب الشيعة إعداد مركز إحياء تراث آل البيت ص27.

- وكلامهم في أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم الذي يلزم منه الطعن في الرسول والدين أكثر من أن يُذكر.

- وكلامهم في تحويل القبلة من الكعبة المشرفة إلى كربلاء، وأن الحج إلى مشاهدهم وعتباتهم أفضل من الحج إلى البيت الحرام، انظر (بروتوكولات آيات قم حول الحرمين المقدسين) (ص118ـ154).

- وكلامهم في أن المصحف محرّف لايوثق به، انظر نصوصا عنهم بذلك في (الشيعة الاثنا عشرية وتحريف القرآن) ص9وما بعدها.

     فهذه وغيره يجعل صاحب الحق لا يضع يده في يد هذه الطائفة بالتآخي والتناصر المطلق، وإذا انضم إلى ذلك ما عُلِم من تواطئهم مع أعداء الإسلام على أهل الدين الصحيح عبر التاريخ علمنا فساد قول هذه الطائفة، وإذا انضم إلى ذلك عدمُ صدقهم فيما اتفقوا عليه مع دعاة التقريب من أهل السنة ونقضُهم لما أبرموه معهم، واستمرارهم في نشر مبادئهم وعقائدهم، واتخاذ هذه المؤامرات التقريبية تخديرا ودغدغة لعواطف أهل السنة ليتموا برامجهم الفكرية وخططهم الفعلية في نشر مذهبهم ؛ كل ذلك يزيد صاحبَ الحق قناعة بفساد هذا القول، لاسيما بعد مرور هذه العقود من الزمن على دعوى التقريب، والمستفيد فيها الرافضة الإمامية، لا أهل السنة الذين خدعوا بعواطف تجعلها العقائد الراسخة عند الرافضة سراباً، وهباءً منثوراً!!

- الثالث: قوم اتخذوا من الدين بعضه، ووالوْا وعادَوْا عليه، وجعلوا مناط الولاء والبراء موافقتهم على هذا البعض وتلك الآراء أو مخالفتهم، فمن وافقهم عليها فله الولاء الكامل، ومن خالفهم فيها أوفي بعضها فإنهم يتبرؤون منه براءة تامة، مع أن هذه المسائل ليست من أصول الدين وثوابته العامة، وغايتها أن تكون من المسائل الاجتهادية التي يسع فيها الخلاف للمختلفين، فضلاً عن أن يكون الحق في خلاف قولهم، فخالفوا الحق تأصيلاً وتنزيلا، واستدلالا حالا ومآلا.

     وهذه الطائفة سلكت مسلكاً حزبياً مقيتا، ومن لم يكن معهم فهو ضدهم، ومن خالفهم في شيء لم يعترفوا له بعد ذلك بشيء، وسلكوا مسلك من قال: من لم يكن معنا فهو ضدنا، وأفرادهم في ذلك على درجات متفاوتة ؛إلا من رحم الله وهذا الاتجاه ينقسم إلى قسمين: قسم بالغوا في تكفير المجتمعات وولاة الأمور، والتهييج عليهم، وإشاعة مثالبهم، فآلت الأمور إلى فتنة التفجيرات والاغتيالات، شاؤوا أم أبوا.

     وقسم اشتغل بالطعن في الدعاة إلى الله، وولغ في تصنيف الناس بهوى وجهل، وعدَّ مخالفيه -وإن كانوا أهدى منه سبيلا وأقوم قيلا- أضر وأخبث من اليهود والنصارى وغيرهم، وجعلوا الاشتغال بزلات الدعاة على أسوأ تقدير أفسد للأمة من كيد الصهاينة المحتلين، والملاحدة الشيوعيين، والرافضة الماكرين، والنصارى المتسلطين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد عمل دعاة هذا الاتجاه عملهم في صفوف الأمة، وأثخنوا في تماسكها، وكشفوا عورتها، وأبدوا سوأتها، وسلَّطوا عدوها عليها، وجعلوا بأس الأمة بينها، فالله المستعان، وعليه التكلان!!

ومعلوم أن هذا مسلك أهل البدع الذين يوالون ويعادون على المسائل الاجتهادية لا الجمل الثابتة في الدين.

- الرابع: وهم أهل الحق عبر العصور: وهم الذين عقدوا الولاء والبراء على أصول الدين المحكمة المجمع عليها، سواء كان الخلاف في هذا الأصل يفضي إلى التكفير، أم إلى التفسيق، فمن آمن بأصول الدين وما أجمع عليه أهل الحق  فهو منهم، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإن خالفهم في المسائل الاجتهادية وإن كثرت مادام الخلاف فيها سائغًا، ويكتفون ببيان الحق للمخالف وغيره، لكنهم لا يجعلون مسائل العفو أي ما يسوغ فيها الخلاف من مسائل العقوبات والتشنيع، فإن هذا لا يكون إلا مع من خالف في الأصول بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وأيضاً فلم يقبلوا تنازلاً عن الأصول، فلم يضخموا صغيراً، ولم يحقروا عظيما.

     وبهذا بقي تماسكهم عبر القرون قائماً؛ لأن صفوفهم لا تتصدع بمجرد أي خلاف؛ إذ إنهم ينظرون إلى رتبة المسألة المختلف فيها بين مسائل الدين وينظرون في المخالف: ما الحامل له على الخلاف؟ وينظرون في القرائن التي تحف المقام، ثم ينظرون: هل الأرجح إعلان الخلاف أم إسراره؟ وهل الأرجح والأنفع للأمة التعجيل بنشر الخلاف، أم تأجيله، أم طيه؟ وهم في هذا كله مقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تجلى بهذا: كونُهم أهل سنة وجماعة، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع حفاظهم على الجماعة، وتجسد بلا خفاء: أنهم أهل العلم والحلم والفهم، وأنهم أهل الدين الصحيح، وأن طريقتهم امتداد لدعوة الحق وأهله عبر القرون، وأنهم أسعد الناس بنصوص الوحيين، ومنهج الأئمة، وأنهم أرعى الطوائف لمقاصد الشريعة، وتقدير الأمور بقدرها، بخلاف غيرهم الذي عظم ما ليس بعظيم، وفرط في الأمر الذي لايسع أحداً التفريط فيه!!

فأنت ترى الإفراط والتفريط في الاتجاهات الثلاثة الأولى، والتوسط في الاتجاه الرابع، والتوفيق بيد الله.

     وإذا كان اجتماع الكلمة والاعتصام بالحق وتماسك الصفوف من أعظم أصول الدين، فإن الإفراط أوالتفريط في ذلك وخيم العاقبة، ولذا كان التوسط ولزوم الجادة في ذلك من أعظم القربات، وأكرم المآلات، والله أعلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك