رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 29 ديسمبر، 2015 0 تعليق

{معذرة إلـى ربكـم}

يربط بعض الناس بين الدعوة إلى الله -تعالى- وحصول الاستجابة والهداية؛ فحيث يظن أنه يستجاب له يقوم بذلك، وعندما يتوهم أنه لا فائدة من ذلك يترك النصح والإرشاد.

والشرع المطهر يبين لنا أن المطلوب من المكلف هو القيام بما طلب منه دون توقف على حصول النتائج؛ فالنتائج بيد الله -تعالى- والمكلف ليس مطالبا بها، إنما المطلوب منه العمل كما قال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم}، وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة: 105)

وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه[ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ».

     قال النووي: «المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول».

مقاصد الدعوة

فمن مقاصد الدعوة إلى الله -تعالى- الخروج من عهدة التكليف، وقيام الحجة على المدعو بأن تبرأ ذمة الداعية إلى الله أمام ربه -سبحانه- بأداء ما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     وقد دل على هذا الأمر قوله -سبحانه- في قصة أصحاب السبت:{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}(الأعراف: 164-165).

أهل هذه القرية

     قال ابن كثير: «يخبر -تعالى- عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك، وأنكرت واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}، أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم قالت لهم المنكرة:{معذرة إلى ربكم}، قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره: هذا معذرة، وقرأ آخرون بالنصب أي: نفعل ذلك {معذرة إلى ربكم} أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،{ولعلهم يتقون} يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم».

     وقال الطبري: « قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم: عظتنا إياهم معذرة إلى ربكم، نؤدي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {ولعلهم يتقون} يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه، فينيبوا إلى طاعته، ويتوبوا من معصيتهم إياه، وتعديهم على ما حرم عليهم من اعتدائهم في السبت».

     وقال ابن عاشور: «والمعذرة - بفتح الميم وكسر الذال - مصدر ميمي لفعل (اعتذر) على غير قياس، ومعنى اعتذر أظهر العذر - بضم العين وسكون الذال -، والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخذ بذنب ليظهر أنه بريء مما نسب إليه، أو متأول فيه، ويقال: عذره إذا قبل عذره وتحقق براءته، ويعدى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ.

صلحاء القوم

     فالمعنى: أن صلحاء القوم كانوا فريقين؛ فريق منهم أيس من نجاح الموعظة، وتحقق حلول الوعيد بالقوم لتوغلهم في المعاصي، وفريق لم ينقطع رجاؤهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار، فأنكر الفريق الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة، واعتذر الفريق الثاني بقولهم:{ معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن، والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعا بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط، ليكون لهم عذرا عند الله إن سألهم: لماذا أقلعتم عن الموعظة؟ ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة».

وقال ابن سعدي: «وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمروالنهي».

     ومن -رحمة الله تعالى- بعباده أنه لا يعاجلهم بالعقوبة حتى تقوم الحجة عليه، وينقطع عذرهم؛ فالله تعالى يحب الإعذار، ففي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحبُّ إليه المِدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة».

وفي لفظ لمسلم من رواية ابن مسعود: «من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل».

الإعذار

قال النووي: «فالعذر هنا بمعنى الإعذار والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة؛ ولهذا بعث المرسلين، كما قال سبحانه وتعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا}».

وقال عياض: «المعنى بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}».

ومما يؤيد هذا الأصل قوله تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.

قال الشنقيطي: «ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله -جل وعلا- لا يعذب أحدا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره، فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار».

وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}

إرسال الرسل

قال الشنقيطي: «فصرح في هذه الآية الكريمة بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار» .

وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين، بينها في آخر سورة طه بقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}(طه: 134).

وأشار لها في سورة القصص بقوله: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}(القصص: 47).

وقوله جل وعلا: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون}

قال ابن عاشور: «هو شأن عظيم من شؤون الله -تعالى- وهو شأن عدله ورحمته، ورضاه لعباده الخير والصلاح، وكراهيته سوء أعمالهم، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدم إليهم بالإنذار والتنبيه» .

وقال الشوكاني: «والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده؛ لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم».

قال ابن سعدي: «والله -تعالى- أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله -تعالى- فإن الله -تعالى- لا يعذبه».

     والحجة كما تقوم بإبلاغ الرسل الكرام، كذلك تكون بقيام أتباعهم بالدعوة إلى الله -تعالى- وإبلاغ المدعوين أحكام الدين على الوجه الذي تقوم به الحجة، وتزول الشبهة، وينقطع به العذر؛ لأن الأمة شريكة لنبيها في الدعوة كما قال تعالى:{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني وسبحان الله و ما أنا من المشركين}(يوسف: 108).

 وقال تعالى:{كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}(آل عمران: 110).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك