معا نتطور-طلب العلم الإلكتروني: وسيلة شرعية أم بدعة حضارية؟ (3)
جامعة المدينة العالمية من أوائل الجامعات للتعليم عن بعد في العالم الإسلامي
تحقيق: وائل رمضان
استكمالاً لما بدأناه في العدد السابق من حوار مع الهيئة الإدارية لجامعة المدينة العالمية لاحظنا أن الجامعة حرصت على أن تضم في هيئتها الإدارية والاستشارية نخبة متميزة من المشايخ والعلماء المعروف عنهم سلامة العقيدة وصحة المنهج، فضلاً عن الكفاءة الأكاديمية والمهنية.. ولكن هل انتشار مثل هذا النوع من التعليم ولاسيما فيما يخص العلوم الشرعية هل يعتبر ظاهرة صحية على المدى البعيد؟ وهل يمكن لمثل هذه الجامعات إخراج طالب علم مؤهل من الناحية الأكاديمية ينافس أقرانه من خريجي الجامعات التقليدية مثل جامعة الأزهر وغيرها من الجامعات المتخصصة في العلوم الشرعية؟.. هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على كل من الدكتور/ عبدالله شاكر، والدكتور/ محمد يسري المستشارين الأكاديميين بالجامعة، الدكتور بسام الشطي رئيس قسم العقيدة والتفسير بكلية الشريعة.
طريقة التعليم
في البداية شرح الدكتور عبدالله شاكر رئيس جماعة أنصار السنة بمصر أسلوب وطريقة التعليم عن بعد، مشيرا إلى أنها بدأت في الغرب؛ وذلك لسد فجوات البعد الجغرافي في قارات وبلاد شاسعة، وكان من التوفيق أن يستفيد طلبة العلم الشرعي حول العالم من هذه الطريقة التقنية الحديثة، والتي تسهل الحصول على العلم الشرعي بطريقة تفتح مجالات واسعة للاستفادة العلمية، وذلك لشرائح مختلفة في مجتمعاتنا الإسلامية، الأمر الذي يبشر بخير كثير على المدين المتوسط والبعيد بإذن الله تعالى.
وأضاف: لابد أن نقرر أن هذا النوع من التعليم هو نوع جديد، والأصل في طلب العلوم الشرعية أن تتلقى بصفة مباشرة وأن يجلس الطالب بين يدي شيخه ومعلمه، وأن يتزاحم الطلبة بالركب في مجالس العلماء, ولكن هذا إذا تعذر فإن القاعدة الفقهية تقول: الميسور لا يسقط بالمعسور، ولقد رأينا فائدة مشهودة للاستفادة من أشرطة التسجيل والأشرطة المصورة لدروس العلماء حول العالم، فإذا أمكن نقل صوت العالم وصورته إلى الطلبة بشكل حي مباشر، وأمكن للطالب أن يسأل أستاذه وأن يجيبه الشيخ في الحال، فإن هذا يضيق الفجوة بين التلقي المباشر والتعليم عن بعد، بما تتحقق معه الفائدة العلمية والنفع العظيم، وليس بمستغرب الآن أن تنشأ كليات عملية كالطب والصيدلة عبر هذه الوسائط الإلكترونية التي تنقل وقائع الدرس النظري والعملي صوتاً وصورة.
> ولكن هل لغياب التوجيه المباشر للمعلم في هذه العملية التعليمية الأثر السلبي على جودة تلك العملية؟
< بناء على ما سبق في السؤال الثاني فإن غياب الحضور الشخصي بين يدي الشيخ والمعلم لا يعني انقطاع التواصل والتوجيه المباشر؛ ذلك أنَّ الأستاذ يتواصل مع طالبه عبر الشبكة العنكبوتية وربما عبر الهاتف ووسائل التواصل المختلفة، ومن خلال ذلك يتحقق لهذه العملية التعليمية جودة تفوق طرق التعلم الذاتي، والتفقه المباشر عن طريق الكتب وحدها.
> ما الضوابط التي يمكن لهذه الجامعات أخذها في الاعتبار لضمان جودة العملية التعليمية؛ حتى لا نفاجأ بعد فترة من الزمن بكم هائل من الخريجين الغير المؤهلين من حملة مثل هذه الشهادات؟
< ككل عملية تعليمية لا بد من معايير وضوابط حاكمة لضمان الجودة، وفي التعليم عن بعد يمكن رصد أهم الضوابط، وذلك على النحو التالي:
(1) التزام الطالب بالتواصل المستمر مع برنامجه التعليمي بما يضمن عدم تسربه، ودوام الاتصال بأستاذه عن طريق الاستماع إلى المحاضرات الصوتية، وتنفيذ الواجبات الأسبوعية، والنقاش المستمر من خلال منتدى كل مادة دراسية، والالتزام بمواعيد البحوث الفصلية والاختبارات الدورية والنهائية.
(2) دوام متابعة التطورات التقنية المعاصرة لدعم عملية التعليم عن بعد، وسهولة التواصل بين الأستاذ وطالبه، ولقد تيسرت برامج ووسائل تقنية عديدة تعمل على دعم هذا اللون من التعليم الإلكتروني.
(3) العناية الفائقة بجودة المادة الصوتية المقدمة للطالب من ناحية علمية تقنية، وقد أسندت جامعة المدينة العالمية المقررات العلمية لأكبر أساتذة التخصصات الشرعية واللغوية في العالم الإسلامي، الأمر الذي يضمن جودة المادة العلمية التي تقدم لطالب الجامعة، كما تقدم المادة بطريقة مكتوبة تعطي الطالب ملخصاً فنيًّا مطوراً للمادة المسموعة ليجتمع له المكتوب مع المسموع، ويتبع كل درس بمجموعة من الأسئلة والأنشطة العلمية والتفاعلية المهمة.
(4) أهمية أن يتم تقييم الطالب علميًّا من خلال مجموعة أنشطة تفاعلية وبحوث وتدريبات علمية وعملية، بالإضافة إلى الاختبارات النصفية والنهائية بما يضمن وصول المعلومات إلى الطالب بشكل صحيح.
(5) أهمية إنشاء وحدة للبحوث وتطوير العملية التعليمية، ومتابعة التقويم لمراحل العملية التعليمية ودراسة مخرجاتها، واختبار مدى نجاح هذه الطريقة في تحقيق أهداف التعليم عن بعد، وفي جامعة المدينة يتولى المستشارون الأكاديميون هذه المهمة بما يعزز إيجابيات التعليم عن بعد، ويتلافى ما قد يبدو من سلبيات.
خريجو الجامعة
سألنا الدكتور/ محمد يسري بحكم أنه من المستشارين الأكادميين بالجامعة:
> ما تقييمكم لتجربة جامعة المدينة العالمية بصفتكم أعضاء باللجنة الاستشارية للجامعة، وهل يمكن للجامعة أن تحقق رسالتها والأهداف المرسومة لها؟
< بناء على الخطوات الواعدة التي حققتها الجامعة، فإنَّ مستقبلًا مبشرًا بخير كثير ينتظر هذه الجامعة الفتية بإذن الله تعالى، ومن فضله تبارك وتعالى فقد اجتمعت على إنجاح هذه التجربة شخصيات علمية وأكاديمية مرموقة وعلى أرسهم معالي مدير الجامعة أ. د/ محمد بن خليفة التميمي عميد البحث العلمي بالجماعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وسعادة نائب مدير الجامعة أ. د/ أحمد الشيحة، إضافة إلى عمداء الكليات ورؤساء الأقسام المختلفة أصحاب الفضيلة، والله نسأل أن يكتب للجميع التوفيق والسداد.
> وفيما يخص الاعتراف بخريجي الجامعة من الجهات الرسمية، هل تعتبرون هذه عقبة يمكن أن تؤثر على مسيرة الجامعة ؟
< لقد تأسست هذه الجامعة الفتية في عاصمة علمية مرموقة وهي «كوالالمبور»، وقد حظيت هذه الجامعة بفضل الله تعالى باعتراف وتوثيق الحكومة الماليزية في أول تجربة للتعليم عن بعد، وعليه فإنَّ خريج هذه الجامعة سيمنح شهادة حكومية رسمية من دولة لها اعتبارها في الصناعة العلمية المعاصرة؛ بما يفتح للطالب مجالًا واسعًا للعمل في مختلف الجهات والهيئات على مستوى العالم الإسلامي، ومن جهة أخرى فإنَّ جامعة المدينة العالمية ستسعى للتعاون المشترك مع سائر الجامعات المناظرة في العالم الإسلامي؛ بما يحقق اعترافًا مشتركًا وتوثيقًا علميًّا للشهادات الممنوحة لخريجها بإذن الله تعالى.
انتقال الكفاءات
وكان لزامًا علينا أن نسأل أهل الاختصاص من الأساتذة الأكاديميين الذين مارسوا العملية التعليمية في أروقة الجامعات التقليدية؛ لنقف معهم على حقيقة مثل هذا النوع من أنواع التعليم، فتوجهنا ببعض الأسئلة إلى الدكتور الفاضل/ بسام الشطي، رئيس قسم العقيدة بكلية الشريعة جامعة الكويت، وسألناه:
> بداية ما رأيكم في هذا النوع من أنواع التعلم في ظل غياب التوجيه المباشر من المعلم الذي هو أساس في العملية التعليمية والتربوية؟
< التعليم عن طريق الكمبيوتر والشبكات العنكبوتية له مميزات كثيرة، فقد جلب عددا كبيرا ممن يود التعليم ولا يوجد عنده وقت للسفر أو مال للإنفاق على التعلم، وأتاح الفرص لربات البيوت من الأمهات للالتحاق بركب التعليم العالي وقطار الدراسات العليا، وساعد في افتتاح جامعات؛ لأن تكاليفه يسيرة وسهلة وفي متناول اليد، وقلل حجم المباني الضخمة، ووفر على الطالب تكاليف الكتب والشحن، وسهل متابعة الطالب مع أستاذه عبر البريد الإلكتروني، وقصر مدة انتقال الكفاءات من الأساتذة من دولة إلى أخرى؛ فهو في مكتبه يستطيع عمل الدروس والمحاضرات والمشاركات، وربط الثقافة مع عدة دول لا تصلها إلا بشق الأنفس، ووفر إجراءات الإقامات وعدم الالتزام بوقت محدد بل على مدار الساعة، وتلقي الإجابات والأسئلة والتكاليف والواجبات والأبحاث مطبوعة، ويمكن مناقشة الطالب وتستطيع الالتقاء المباشر فالمعلم يرى الطلاب وهم يرونه، ويقلل الأعذار الطبية وغيرها.
> بصفتكم أستاذا أكاديميا في كلية الشريعة، هل ترى أن هذا النوع من الجامعات يمكن أن يكون بديلا عن الجامعات التقليدية؟
< أعتقد أن المستقبل سيكون لهذه الجامعات ولكن بشرط الإخلاص والثقة والرقابة؛ لأن هناك جامعات قائمة على نفس المنهج وهي تجارية؛ فلا يؤدي المعلم رسالته بشكلها الصحيح، ويتخلف كثيرا عن ساعات المحاضرات، ولا يعنى بمتابعة الطلاب بالشكل الصحيح وهي الصفة الغالبة، وهذا ما ينقله الطلبة عن هذه الجامعات.
> أخيرًا.. ما هو الفارق الجوهري بين هذا النوع من التعليم وبين التعليم في الجامعات التقليدية؟
< أعتقد أن الطالب لا يحصل على نفس المعلومات التي يحصل عليها أقرانه في الجامعات التقليدية؛ لأن رؤية المعلم مباشرة والالتزام بالوقت ومتابعته وجهًا لوجه والاحتكاك مع الطلاب والتعاون لهما مميزات كثيرة تكاد تكون مفقودة في مثل هذا النوع من التعليم.
وأيضًا الرقابة الإدارية كبيرة وعلى أعلى مستوى، وثبت أن المعلم يلتزم بها التزامًا كبيرًا، إلا أن هذا لا يعتبر قادحًا في مثل هذا النوع من الجامعات التي توفر فرصة لشريحة كبيرة لا تجد الوقت والجهد والمال لدراسة العلوم الشرعية.
الطلبة المتميزون
وكانت محطتنا الأخيرة لقاء مع أحد الطلبة المتميزين؛ حيث لم تتح له الفرصة للدراسة الأكاديمية من قبل إلا من خلال هذه الجامعة، إلا أن الله وفقه لطلب العلم الشرعي على أيدي علماء ومشايخ الدعوة السلفية في مصر، فدرس علم الحديث على يد الشيخ/ مصطفى العدوي، والفقه والتفسير والأصول والعقيدة على يد الشيخ عبد العظيم بن بدوي الخلفي، وغيرهما من علماء ومشايخ الدعوة حفظهم الله، فكان لهم الأثر بعد فضل الله في تميزه في طلب العلم وخاصة في علم الحديث؛ وعن تجربته في جامعة المدينة سألناه:
> بداية نريد تعريفا ببطاقتك الشخصية وبطاقتك الجامعية؟
< اسمي خالد عبد العال أحمد عبد العال، من جمهورية مصر العربية، محافظة الدقهلية، من مواليد 10/12/1976، أدرس في جامعة المدينة العالمية في الفرقة الأولى، تخصص الحديث وعلومه.
> ما هي الدوافع التي جعلتك تلتحق بجامعة المدينة العالمية ؟
< من تلك الدوافع: أن جامعة المدينة العالمية – وفق الله القائمين عليها – تهتم بالعلوم الشرعية اهتماماً طيباً، وذلك واضح من خلال المواد المقررة في الجامعة، فهي مقررات تأصيلية، ترقى بالطالب إلى الحصول على العلم المنشود، أضف إلى ذلك أنها سلفية المنهج، وذلك من خلال ترسيخ عقيدة السلف الصالح، والتحذير من العقائد المنحرفة، والتي قد تُدرس في جامعات عريقة؛ فالكتب منتقاة، والمدرسون أيضاً مصطفون، وذلك واضح في وضع المقررات، وطريقة المدرسين في التدريس.
وأيضاً: التعليم في الجامعة لا يعد انتساباً؛ لأن هناك ترابطاً واتصالاً بين الطلبة والجامعة، فالطالب يستمع إلى المحاضر عبر التقنيات الحديثة ويسأل أستاذه، ويسأله أستاذه، وهناك حضور وغياب، وواجبات وأنشطة، ونحو ذلك، وكأن الطالب موجود في مبنى الجامعة وتحت سقفها.
وأيضاً: هناك امتحان يسمى: نصف الفصل، وآخر يسمى: نهاية الفصل، هذان الامتحانان لابد فيهما من حضور الطالب إلى قاعة الاختبار المعدة من قبل القائمين على شؤون الطلبة، وهناك أرقام جلوس، ولجنة مراقبة، وتأتيه الأسئلة في أوراق رسمية من قبل الجامعة، ويجيب عنها بقلمه في الزمن المقرر للامتحان، كما لو كان منتظماً في مدرسة أو جامعة محلية رسمية للدولة.
> من خلال تجربتك في طلب العلم الشرعي على أيدي المشايخ، هل وجدت فرقاً بين التلقي المباشر على يد الشيخ، وبين التعليم الإلكتروني في الجامعة؟
< نعم هناك فرق، وكلاهما يتميز عن الآخر بأشياء, أما الدراسة الأكاديمية في الجامعات، فمن ميزاتها:
أولاً: التأصيل في أنواع من علوم الشريعة، كالنحو، والصرف، والبلاغة، والفقه، والتفسير، والسيرة، والحديث، ونحو ذلك، بخلاف الدراسة على شيخٍ متخصصٍ في مادة أو مادتين.
ثانياً: الحصول على شهادة شرعية، وهذا أمر أصبح الآن من الأهمية بمكان؛ فإن الكثيرين الآن لا يعترفون بالدراسة على أيدي مشايخ، وإنما يريدون شهادة شرعية، وقد رأينا كثيراً من الناس يقدمون فلاناً من الناس لأنه من ذوي الشهادات، وقد يكون فلان الذي ليس معه شهادة أعلم وأفضل من حاملي الشهادات الجامعية، وعندنا أمثلة من الواقع شاهدة على ذلك، فالشيخ الألباني – رحمه الله تعالى - ليس معه شهادة شرعية، ومع ذلك فهو مجدد العصر في علم الحديث، وقد اعترف له بذلك قرناؤه أمثال الشيخين ابن باز، وابن عثيمين – رحم الله الجميع - فالطالب الآن في حاجة إلى شهادة جامعية حتى يستطيع تبليغ دعوة الله إلى الناس، بل إنني أرى أنه من الواجب الآن على طلبة العلم الحصول على تلك الشهادات، وهذا من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لاتوجد تعليقات