رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: يعقوب طالب العبد الهادي 23 أبريل، 2017 0 تعليق

معالم نبوية في التعامل مع المخطئ

 

يعقوب طالب العبدالهادي

جبل الله النفس البشرية على الوقوع في الخطأ والزلل والذنب، وهذه طبيعة لا محيد للإنسان عنها بحال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، ولا يقف الأمر على وقوعه في الخطأ فحسب، بل جبله أيضاً على تكرار الخطأ وتنوعه، روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال فيما يحكي عن ربه -عز وجل- قال: «أذنب عبدي ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك».

     وقد وقع الخطأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم  من بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وعالجه صلى الله عليه وسلم  بحسب ما تقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة، مع ما أوتي من رأفة ورحمة وشفقة تجاه أمته، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).

     لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم  المنهج الواضح والبين للتعامل مع المخطئ، وإليك أخي القارئ تلك النماذج المشرقة، والمعالم الواضحة؛ من مشكاة النبوة في تعامله مع المخطئين، حتى نستفيد من هذا الهدي في حياتنا، ونسلك هذا المنهج مع من يقع في الخطأ، وحريٌ بنا أن نطبق هذا المنهج النبوي مع إخواننا إذا وقعوا في الخطأ، ومع أهلنا وأولادنا إن وقع منهم التقصير والزلل.

الرفق واللين مع المخطئ

     فالعنف والشدة والغلظة لا تنفع مع المخطئ إلا في حالات معينة ومخصوصة، قال الله -تعالى- مخاطباً نبيه، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- لما قال له اليهود: السام عليك؛ ردت عائشة عليهم بقولها: وعليكم السام واللعنة، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم  إلا أن بيّن لها التعامل الصحيح معهم، مع علمه صلى الله عليه وسلم  بشدة حقدهم وكرههم وأذيتهم له، إلا أنه قال: «مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله». قالت عائشة: يا رسول الله، أوَ لم تسمع ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قد قلت: وعليكم»، فلم يكن لينتقم لنفسه قط، وإنما حرص على ألا يقابل السوء بسوء، واكتفى بقوله: «وعليكم» فلم يعتدِ عليهم بقول أو فعل، وهذا تعامله مع أشد الناس عداوةً له، فكيف بالموافق.

     ومن الرفق: احتواء المخطئ والتلطف معه، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه. فقال: «ادنه». فدنا منه قريباً، فجلس، فقال صلى الله عليه وسلم : «أتحبه لأمك؟ أفتحبه لابنتك؟ أفتحبه لأختك؟ أفتحبه لعمتك؟ أفتحبه لخالتك؟» وما زاد الفتى على قوله: لا والله جعلني الله فداءك. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم  يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء من الحرام.

     فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم  ليزجر هذا الشاب أو يوبخه لأجل تلك الخواطر والأفكار، بل حرص على أن يتدرج معه شيئاً فشيئاً، ويقنعه بخَطر قوله، وشناعة طلبه، واستخدم معه أيضاً أساليب عدة، فوضع صلى الله عليه وسلم  يده على صدره، ودعا له بالمغفرة وطهارة القلب وتحصين الفرج؛ فكل هذه الأسباب لابد أن يتنبه إليها الدعاة والمصلحون؛ حتى يتحقق المقصود.

حسن التوجيه والتعليم

     لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم  على أن يبلغ الرسالة على أكمل وجه، وفي أجمل صورة، وأفضل وسيلة؛ فهو صلى الله عليه وسلم  أسوة في توجيهه وإرشاده وتعليمه، ولابد أن يراعي المصلحون والمربون حسن التوجيه والتعليم؛ فالحق قد يكون ثقيلاً على النفس البشرية، ولابد أن يُلطف بالقول الحسن الجميل، وقد تجلى هذا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم :

     فمن ذلك: ما رواه معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله، ما، أي: «نهرني» أو «عبس في وجهي»، كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن».

     فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصواب برفقٍ ولين وشفقة، وهذا لعظيم خلقه، ورأفته بحال ذلك الرجل؛ فلم يعنفه ولم يوبخه لأجل خطئه، بل تلطف معه في تعليمه، وقرّب له الصواب في توجيهه، فأرشده إلى تعظيم قدر الصلاة، مع الإشارة اللطيفة إلى خطئه بالتلميح دون التصريح، فما أعظمه من نبي، وما أكرمه من معلم!

عدم التوبيخ أو التثريب بعد الخطأ

     فإذا وقع المخطئ في الخطأ وأقرَّ به ورجع عنه، فليس من المناسب لومه وعتابه، فيقال له: قد فعلت وفعلت! لأن في توبيخ المخطئ وعتابه عوناً للشيطان عليه، ومدخلاً لأن يعاود الخطأ مرة أخرى، وقد جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم  بيان شيء من ذلك، كما وقع لأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم  لما سمع بانتصار النبي صلى الله عليه وسلم  وظهور أمره، وهو قد هجا النبي صلى الله عليه وسلم  وسبّه قبل ذلك، فلما أسلم؛ لم يقف النبي صلى الله عليه وسلم  عند ذلك، بل قال له: «لا تثريب عليكم». ومعنى ذلك: لا تأنيب ولا عتب ولا عيب عليكم، ولن يُذكر هذا الذنبُ في حقكم.

     ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم  أُتي برجل قد شرب، قال: «اضربوه». قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان».

فالشيطان يريد تزيين المعصية للعبد حتى يحصل له الخزي، فكأن في دعائهم عليه بالخزي قد حصلوا مقصود الشيطان، فمع كونهصلى الله عليه وسلم  يقيم عليه حدّ شربِ الخمر؛ إلا أنه لم يتعدّ هذا الأمر إلى أن يُدعى عليه، فيفرح الشيطان لذلك.

الدعاء له بالهداية والصلاح والمغفرة

     إن الدعاء من أنفع الأسباب وأقواها لحصول المطلوب والمقصود، وقد خفي هذا المعنى عن كثير من الناس اليوم في جانب الإصلاح الاجتماعي؛ وذلك أن المصلح مهما بذل من أسباب الإصلاح إلا أن التوفيق بيد الله سبحانه، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56)، ولهذا كانت الحاجة ماسةً مع بذل الأسباب إلى الدعاء للمخطئ بالهداية والصلاح، والتوفيق والفلاح.

     وقد اتضح هذا الأمر جلياً في منهج النبي صلى الله عليه وسلم  في دعوته، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، فمن ذلك: دعاؤه لقومه لما أدموا وجهه: «رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون»، وقال: «اللهم اهد دوساً وائت بهم»، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم  للشاب: «اللهم طهر قلبه، وحصن فرجه».

ستره وعدم التشهير به وفضيحته

     إذا علم الواحد منا خطأ أحد من الناس فالواجب علينا ستره وعدم فضيحته لا سيما إن لم يجاهر بهذا الخطأ؛ فـ«من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة»، ثم لا يفرح بوقوع الذنب؛ لأن هذا نوع من الشماتة بالناس، والواجب سؤال الله العافية والسلامة، بخلاف من يترصد الأخطاء والزلات من الناس، وينتظرها ويترقبها، فإذا وقعت فرح بها أشدَّ الفرح، وصار يطوف بها وينشرها هنا وهناك!!

     والمتأمل في قصة ماعز بن مالك رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم  مقراً بذنبه، معترفاً بخطئه، تائباً من زلـله؛ يجد أنه صلى الله عليه وسلم  حرص على ستره ودَرء الحَدِّ عنه بقدر المستطاع، ويؤكده ما جاء في بعض الروايات قوله صلى الله عليه وسلم : «ألا تركتموه! لعله يتوب فيتوب الله عليه؟»، وقال للرجل الذي أشار إلى ماعز بأن يقرَّ للنبي صلى الله عليه وسلم : «لو سترته بثوبك كان خيراً لك». مع كونه صلى الله عليه وسلم  قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم  حاول ستره وردّه، فما بال بعض الناس اليوم لا يسترون أقلّ الأخطاء، ولا يغفلون عن أتفه الأسباب.

التريث في الحكم والتماس العذر

     قد يتسرع بعض الناس في إطلاق الأحكام على الناس دون برهان ولا تثبت، فبمجرد وصول الخبر إليه يبدأ بإلصاق التهم والحكم على الناس، وقد يكون هذا الذي يتحدث عنه برئياً مما قيل عنه، أو أن الأمر لا يستحق كل هذا التهويل، أو أن يُفهم منه شيءٌ لم يقصده؛ فالواجب عند وصول الأخبار: التثبت والتريث، والتماس العذر، والتأويل على أحسن المحامل لا أسوأها.

     فمن ذلك: ما وقع في قصة الإفك، فقد أشاع المنافقون الإفك في حق أمنا عائشة رضي الله عنها، وانتشر الخبر في المدينة، وانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مصدق ومكذب ومتوقف، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يتسرع في تصديق هذا الخبر، وبقي أربعين يوماً حتى نزل الحكم القطعي من الله -عز وجل- في تبرئة عائشة رضي الله عنها.

     وبعد.. إن المتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم  مع المخطئ؛ يجد أنه صلى الله عليه وسلم  لم يكن لينتصر لنفسه أو لينتقم، بل كان رحيماً رفيقاً شفيقاً بأمته، حتى صار ذلك سبباً في قبول دعوته عند المخالف قبل الموافق، فلنقتفِ أثر هذا النبي الكريم، ولْنَتَّبع هديه في تعاملنا مع الناس، ولنجعل تلك القواعد النبوية هي حياتنا، فهو قدوتنا وأسوتنا في كل شيء، والحمد لله رب العاملين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك