مظـاهرات لبنــان- أزمة نفايات أم أزمة سياسات؟
أزمة النفايات ليست مفاجئة، وإنما هي مظهر من مظاهر أزمة النظام السياسي في لبنان
يعاني لبنان من انقسامات سياسية عميقة تعكس الانقسامات الإقليمية لهذا البلد
منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990، لم يوجه أي اهتمام للاستثمار في البنية التحتية، وكانت البلاد في حالة خراب إلى وقتنا الحالي
(طلعت ريحتكم)، بهذا الشعار توجهت الجموع الغاضبة في لبنان إلى السياسيين والمسؤولين عن أزمة النفايات المتفاقمة في البلاد منذ أكثر من شهر دون حل، وإذا كانت الروائح النتنة للنفايات حركت هذه الجموع، فإن رائحة الخلل في المؤسسات السياسية كان لابد أن تحرك تلك الجموع منذ فترة أبعد من ذلك، فليست أزمة النفايات وغيرها من الأزمات سوى مظهر من مظاهر الأزمة السياسية الضخمة في لبنان.
جبال من النفايات
قرابة الشهر وأنوف سكان بيروت مسدودة من الرائحة الكريهة لأكوام القمامة التي فاضت بها أرصفة مدينتهم بعد تراكمها وعدم جمع عمال النظافة لها، مثيرين بذلك استياءً حاداً إزاء الجهات البيئية والصحية المعنية، وبدأت جبال النفايات بالتراكم على أرصفة المدينة وفي ساحاتها بسبب عدم توفر مكبّ تُنقل أكوام القمامة والنفايات إليه، يأتي ذلك بعد أكثر من شهرين ونصف من إعلان وزير البيئة محمد مشنوق عن نية السلطات إغلاق المكبّ المعتمد سابقاً والمعروف بـ(مطمر الناعمة)، بحلول 17 يوليو الماضي، ولكنه لم يتم الإعلان عن موقع بديل يمكن الاستعاضة به إلى الآن.
حلول مؤقتة
واقترح بعض المسؤولين كرئيس بلدية بيروت بلال أحمد حلولاً مؤقتة من شأنها تجنيب المدينة وسكانها كارثة بيئية وصحية وشيكة، فكان مقترحه أن تُشحن أطنان من قمامة بيروت وتُكدّس في مكان خارج العاصمة إلى حين إيجاد مكبّ آخر لفرزها وطمرها فيه، غير أن مقترحه قوبل برفض العديدين ممن رأوا في حله المؤقت تهديداً بتلويث مناطق أخرى، وكنساً لأوساخ بيروت تحت سجاد الآخرين، فسدّ العشرات منهم الطريق العام الذي يصل العاصمة بمختلف أنحاء البلاد، ولم يجد آخرون سوى الإحراق وسيلة وحيدة لمواجهة أكوام القمامة والروائح الكريهة التي تصدرها تحت شمس الصيف اللاهبة.
(طلعت ريحتكم)
ويبدو أن اتخاذ المحتجين أمام مقر الحكومة من (طلعت ريحتكم) شعاراً، ومطالبتهم رئيس الوزراء تمام سلام بالاستقالة، دليل على ربط الناس بين مشكلتين تستلزمان حلاً سريعاً: النفايات التي تزكم أنوف الناس، والأزمة السياسية التي تشل مفاصل البلاد، حتى وصل السخط لدى بعض اللبنانيين من سياسييهم إلى القول على شبكات التواصل الاجتماعي: إن أكوام النفايات ما هي إلا محاصيل ما زرعوه بالأمس في صناديق الاقتراع.
تعهد تمام سلام
وبعد أن تصاعدت حدة الأزمة إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن اللبنانية، تعهد رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام بمحاسبة المسؤولين عن (استخدام القوة المفرطة) في المواجهات بين القوى الأمنية والمحتجين على أزمة القمامة، وقال سلام: إن المواجهات «لن تمر من دون محاسبة»، غير أنه لم يحدد الجهات المسؤولة عما حدث.
وكانت صدامات عنيفة ومتكررة قد وقعت بين الشرطة والمحتجين في بيروت وأوقعت العديد من المصابين جراء تلك المواجهات، واعتبر رئيس الوزراء اللبناني أن لبنان يمر بـ«لحظات عصيبة» مشيرًا إلى أن ذلك نتيجة تراكم من التعثر والغياب على الصعيد السياسي، وأشار إلى أن المشكلة الأكبر في لبنان هي أزمة النفايات السياسية.
حالة خراب
هذه الأزمة وغيرها من الأزمات ليست مفاجئة، فهي مظهر من مظاهر أزمة النظام السياسي في لبنان، فمنذ نهاية الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما في عام 1990، لم يوجه أي اهتمام للاستثمار في البنية التحتية، وكانت البلاد في حالة خراب وكذلك الخدمات الأساسية إلى وقتنا الحالي.
حقائق وأرقام
ويكفي ذكر بعض الحقائق الرئيسة لإظهار مستوى الخلل الذي عانت منه لبنان منذ فترة ليست بالقليلة، فلبنان بلا رئيس منذ أكثر من 450 يوما؛ حيث استقال ميشيل سليمان من منصبه بوصفه رئيساً للبلاد في مايو 2014 ولم يخلفه أحد حتى الآن في تولي المنصب، وفشلت الجلسة البرلمانية الـ27 لاختيار رئيس في أغسطس الحالي مثلما أخفقت الجلسات السابقة، ويعاني لبنان من انقسامات سياسية عميقة تعكس الانقسامات الإقليمية لهذا البلد، فقد عجز النواب المتحالفون مع قوة فاعلة أو أخرى في المنطقة، عن اختيار رئيس لهم، وهو دور بسلطات تنفيذية ضعيفة يتولاه مسيحي في نظام حكم يقوم على تقاسم سلطة بين الطوائف.
برلمان معطل
وكما تعطلت الانتخابات الرئاسية، تعطل عمل البرلمان، ومددت فترة النواب مرتين، مع تجاهل الدعوة لإجراء انتخابات، كما عجزوا عن الاتفاق على استمرار التشريع قبل انتخاب رئيس أم لا، وكانت النتيجة حدوث شلل في البرلمان لأكثر من عام، وما تبقى عبارة عن حكومة عاجزة، تجتمع جلسة بعد جلسة، لمناقشة ما إذا كان قرارها ينبغي أن يجري تبنيه من خلال توافق أو أغلبية بسيطة في غياب رئيس الدولة الذي يملك حق رئاسة جلسات الحكومة، وبذلك تكتمل دائرة الشلل المؤسسي وقد كلف هذا الخلل السياسي لبنان، وهو بلد مثقل بالديون، الكثير بما في ذلك منح ومساعدات دولية تقدر بنحو مليار دولار، وامتدت الأزمة مؤخرًا إلى مناصب رئيسية أخرى في البلاد.
تجديد للفراغ السياسي
ويبدو في الأفق أن حالة الفراغ السياسي التي تعيشها لبنان تأبى أن تنحل، بعد أن اتخذ وزير الدفاع بانفراد قرارًا بتمديد فترة منصب القائد الحالي للجيش الذي من المقرر أن تنتهي في سبتمبر المقبل، ما يعني عمليًا تأجيل الأزمة لمدة عام آخر، وذلك بعد أشهر من خلافات في الحكومة حول تعيين قائد جديد والتي لم تفلح في التوصل إلى نتيجة.
التمديد علامة الفشل
وبحسب الصحافي في جريدة النهار، نبيل بو منصف، فإن “التمديد علامة على الفشل العام، وأن الحكومة هي أكبر الخاسرين في تلك المعركة، وما يقصده هو أن اللجوء لخيار تمديد فترات المناصب بدلاً من تعيين قادة جدد يعد واحداً من علامات عدم قدرة النخبة السياسية على حل خلافاتها والاستمرار في إدارة شؤون الدولة حتى ولو في حدها الأدنى.
خلاصة القول: أنه مهما بلغ حجم أزمة النفايات الحالية أو غيرها من الأزمات في لبنان، فيبقى الموقف السياسي هو الأكثر تأزما وأكثر إثارة للقلق، ويعد الأزمة الحقيقية التي تعانيها لبنان في الوقت الراهن.
لاتوجد تعليقات