رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 30 سبتمبر، 2024 0 تعليق

مصادر التشريع وأثرها في وحدة الأمَّة

  •   حينما تمسكت الأمة بمصادر التشريع الصحيحة قل الاختلاف والتنازع فيما بينهم فمنها أخذوا دينهم ومن بين طياتها اقتبسوا معتقدهم
  •  القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته والمنقول إلينا بالتواتر وهو الأصل الأول لأخذ العقيدة
  • الطوائف والفرق المبتدعة كان من أعظم انحرافها عن الصراط المستقيم والمنهج القويم هو مخالفة أهل السُنَّة في مصادر التشريع والتلقي
  • آل الشيخ: وحدة منهج التلقي ووحدة أدلة التشريع كانت من أسباب وحدة الأمَّة والأمَّة نهضت حين نهضت واتحدت حينما كانت متمسكة بالمصادر الأساسية للتشريع والتلقي والاستدلال
  •  المصدر الثاني من مصادر تلقي العقيدة هو السُنَّة النبويَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات والصفات الخَلقية والخُلقية
  •  أصل كل بدعة وضلالة في حياة المسلمين الإعراض عن الكتاب والسُنَّة على المستويات كافة وفي كل شؤون الحياة
  • الشثري: الأمة متى عادت إلى الكتاب والسنة صلحت أحوالها واجتمعت كلمتها وتألفت قلوبها وقويت وانتصرت على أعدائها وأورثهم الله خير الدنيا مع ما ينتظرهم من خير في الآخرة
  •  نصوص الكتاب والسُنَّة يجب ألا تخضع لأي فهم ولا يقبل فيها أي تفسير بل ينبغي أن يكون فهم السلف الصالح هو الحجة في فهم نصوص الوحيين
  • كون الفطرة مصدرًا من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السُنَّة لا يُقصد بذلك الاعتماد عليها دليلاً على مسائل الاعتقاد أو العبادات
  • الفطرة السليمة والعقل الصحيح يقودان إلى الحق ولكن العقل وحده والفطرة وحدها مهما كانا لا يمكن أنْ يتوصل بهما إلى التشريع وتفاصيل المعتقد وأمور الغيب
  •  النجدي: القرآن الكريم حُجّة عند أهل السُنَّة والجماعة في مسائل الدّين العِلمية والعملية والإنشائية والخَبرية وهو الفرقان بين الحق والباطل
  • العقل له منزلةٌ عظيمة عند أهل السُنَّة والجماعة حيث رفع الإسلام منزلته  واعتنى به عناية فائقة ومن معاني العقل المذكورة في القرآن الكريم التفكُّر والاعتبار
 

اتفق علماء أهل السُنَّة والجماعة على أنَّ العقيدة الإسلاميَّة الصحيحة تؤخذ من ثلاثة مصادر أساسية، جُمعت في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59). فالأمر بطاعة الله أمر باتباع القرآن، والأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع السُنَّة، والأمر بطاعة أولي الأمر أمر باتباع إجماع علماء الأمَّة، وهذه المصادر هي التي بنى عليها سلف الأمَّة عقيدتهم، وقام عليها منهجهم، وكانت سببًا في عزتهم.

       إنَّ هذه المصادر الثلاث للعقيدة الإسلامية الصحيحة جمعت الأمَّة على إطار عقدي واحد، فقل الاختلاف والتنازع فيما بينهم، فمنها أخذوا دينهم، ومن بين طياتها اقتبسوا معتقدهم، فهذا الدين العظيم واضح المعالم لا غموض في منابعه، ولا خفاء في مصادره.  

1- أولاً: مصادر التلقي والتشريع

نستعرض هنا بالتفصيل المصادر الأساسية للتشريع فهي الفارقة والفاصلة بين منهج أهل السنة والجماعة وغيرها من الفرق المنحرفة عن هذا المنهج:

المصدر الأول:  القرآن الكريم

       القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته، والمنقول إلينا بالتواتر، هو الأصل الأول لأخذ العقيدة، قال -تعالى-: {جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة: 15-16)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}(النساء: 136)، أي اعتقدوا جميع ما جاء في القرآن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي».

2- المصدر الثاني: السنة النبوية الثابتة

         وأما المصدر الثاني من مصادر تلقي العقيدة: فهو السُنَّة النبويَّة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال والتقريرات والصفات الخَلقية والخُلقية، فكل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحًا ثابتًا يجب أخذه والتسليم له؛ فالسُنَّة وحي مثل القرآن، أمرنا بالأخذ بها والتمسك بما جاء منها، قال -تعالى- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4)، وقال -سبحانه وتعالى- مخاطبًا أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}(الأحزاب:34)، والحكمة في هذا السياق هي السُنَّة النبويّة، وقال -سبحانه وتعالى- لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(النحل:44)، أي: لتبين للناس بالسنة ما نزل إليهم من القرآن، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية-: «عليكم بسنتي»، وقال أيضا «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك». لقد كانت مسائل الاعتقاد وتوضيحها من أول ما علَّمَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمَّة في سُنَّته المطهرة، وهو - صلى الله عليه وسلم - أنصح الأمَّة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة؛ لهذا كانت نصوص السُنَّة مع الكتاب هي مستند أهل السُنَّة ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد؛ فإنَّ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتج به مطلقا، بشرط صحة ثبوتها، فلا نفرق في ذلك بين الأحكام والعقائد من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.

3- المصدر الثالث: الإجماع

         فهو مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنَّه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأغلب مسائل الاعتقاد هي محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة وباطل، سواء في أمور العقيدة أم غيرها، قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فإذا اجتمع السلف الصالح في أمر من أمور الاعتقاد فإجماعهم حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة».

ثانيًا: فهم السلف الصالح

        بعد أن عرفنا المنابع الصافية التي نستقي منها عقيدتنا يجب أن نبين أن تلك النصوص من الكتاب والسُنَّة لا تخضع لأي فهم، ولا يقبل فيها أي تفسير، بل ينبغي أن يكون فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم هو الحجة في فهم نصوص الوحي؛ فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدركوا مراده، اختارهم الله -تعالى- على علم على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين. يقول الإمام الشافعي -رحمه الله- عنهم: «علموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عاما وخاصا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما جهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله»، فيجب أن نعتصم بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهذا صمام أمان من التفرق والضلال، فلنقل بما قال به السلف، ونسكت عما سكتوا عنه، وليسعنا ما وسعهم.

ثالثًا: مخالفة الفرق في مصادر التلقي

          الطوائف والفرق المبتدعة كان من أعظم انحرافها عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم، هو مخالفة أهل السُنَّة في مصادر التشريع والتلقي، فنجد مثلاً: أن بعضهم يعتقدون أن العقل مصدر من مصادر تلقي العقيدة، ونجد أنَّ فرقة أخرى تعد الكشف مصدرًا من مصادر تلقي العقيدة، ونجد أن بعض المقلدين يعدون أئمتهم مصدرًا لتلقي العقائد، وكل هذه المصادر باطلة، وإنما المصدر الذي تؤخذ منه العقائد هو القرآن والسنة، ولهذا وقعت كثير من الفرق الضالة في الانحراف بهذا السبب.  

أصل كل بدعة وضلالة

ولهذا فإن أصل كل بدعة وضلالة في حياة المسلمين هو الإعراض عن الكتاب والسُنَّة، في كل باب من الأبواب فلابد من التحاكم إلى الكتاب والسُنَّة على المستويات كافة، وفي كل شؤون الحياة.

شعار الكتاب والسُنَّة

والحقيقة: شعار الكتاب والسُنَّة، كل الناس يحبه ويدندن حوله ويردده دائمًا، لكنْ هناك فرق بين من يتمسك بالكتاب والسُنَّة حقيقة، وبين من يدعي التمسك بالكتاب والسُنَّة شعارًا فقط، فهناك فرق بين الشعار وبين الحقيقة، ولهذا فإن الطوائف والفرق المبتدعة لا يعارضون الكتاب والسُنَّة مباشرة، وإنما يفسرونها بغير معناها، أو يؤولون ويحرفون معناها، أو نحو ذلك من الطرائق التي يحتالون بها على الناس، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله في مواضع من كتبه-: «إنَّ البدعة والنفاق لا يمكن أبدًا أن يكونا باطلاً محضًا؛ لأنهما لو كانا باطلاً محضًا لعرفه كل الناس، كما أنه لا يمكن أن يكونا حقا محضًا؛ لأنهما لو كانا حقا محضًا لما صار بدعة ونفاقًا، لكنه لبس الحق بالباطل، وهذه هي صفة اليهود والنصارى التي نهى الله -عزوجل- عنها لما قال: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران:٧١).    

كلام أهل العلم

الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ

مصادر التشريع وأثرها في وحدة الأمة

        في هذا السياق بين معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية)، أنَّ العلاقة بين مصادر التشريع ووحدة الأمَّة علاقة فقهية سليمة، وبين -حفظه الله- أنَّ الأمَّة نهضت، حين نهضت واتحدت، حينما كانت متمسكة بالمرجعية في منهج التلقي وفي مصادر التشريع، يعني الحجة في مصادر التشريع التي أقرتها الأمة على اختلاف مناهجها؛ لأن وحدة الأمة كانت من أسباب وجودها وحدة منهج التلقي، ووحدة أدلة التشريع؛ لذلك إذا كان هناك في مقام الاستدلال عند تقرير الحاضر النظرة لما حولك، والنظرة للكون، والنظرة لتعامل الإنسان مع الإنسان، والنظرة لتعامل الإنسان مع الموافق، ومع المخالف، ومع دولته، وتعامله مع الكون، ومع البيئة، وما المرجعية في تحديد علاقة الإنسان بما حوله من جهة كلية؟ المرجعية في هذا الطرح هي مصادر التشريع، يعني: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والقواعد الشرعية، ومقاصد الشريعة الكلية.

د. سعد بن ناصر الشثري 

مصادر التلقي وأثرها في حياة المسلم

       من جهته حذَّر معالي المستشار في الديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري، من أنه في عصرنا الحاضر وجدت مناهج تَصُدّ الناس عن الكتاب والسُنَّة، مرةً تزعم أن دلالة الكتاب والسُنَّة ظنية وليست بقطعية، ومرةً يشككون في السنة النبوية ويطعنون فيها، ومرة يطعنون في علماء الشريعة الذين ينقلون للناس دين الله، ومرة يتكلمون في المصادر والأدلة التابعة، مؤكدًا أن الأمة متى عادت إلى كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قويت وانتصرت على أعدائها، وأورثهم الله خير الدنيا مع ما ينتظرهم من خير الآخرة من علو منزلة في الجنة ورفعة درجة فيها، فهذان المصدران (الكتاب والسنة ) متى رُجع إليهما صلحت أحوال الأمة واجتمعت كلمتها وتألفت قلوبها، كما قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وأعظم طريق للسلامة من التفرق والتنازع، العمل بهذين الأصلين والرجوع إليهما والتحكيم بهما؛ ولذا جاء في النصوص أن الله -عزوجل- جعل المؤمنين يأتلفون ويتحابون ويتعاونون كما قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.

الفرقان بين الحق والباطل

        وعن المصادر الرئيسة للتلقي عند أهل السُنَّة والجماعة قال رئيس اللجنة العلمية بجمعية إحياء التراث الإسلامي الشيخ: د. محمد الحمود النجدي: مصادر التلقي عند أهل السُنَّة هي: (القرآن والسُنَّة والإجماع والقياس)، فأما القرآن الكريم فهو حُجّة عند أهل السنة والجماعة في جميع مسائل الدين، العِلمية والعملية، والإنشائية والخَبرية، وهو الفرقان بين الحق والباطل، كما قال الله -تعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقد أمرنا الله -تعالى- بالتّحاكم إلى القُرآن، فقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10)، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49)، فالقرآن حُجّة بنفسه، قال -سبحانه-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19)، وكل مَنْ بلغه هذا القرآن فقد أُنْذِر به، وقامت عليه حُجّة الله.

الشيخ د. محمد الحمود المجدي

والسُنّة النّبوية هي كلُّ ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ أو فعل أو تقرير، فكلّ ما أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو عمل أو تقرير، فهو حُجّة، وهي المصدر الثاني للوحي، والدليل على حُجّية السُنَّة من القرآن قوله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)، وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، فالسُنَّة النّبوية حُجّة، ومَن يُطع الرسول فقد أطاع الله كما قال -سبحانه-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80)، وقال -سبحانه-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59). ولم يقل: فردوه إلى القرآن فقط. وقال -تعالى-: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) فآياتُ الله القرآن، والحِكمة هي: السُّنة وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إنّي أوتيتُ القرآنَ، ومثله معه».

الحفظ ليس للقرآن فقط

       ثم بين الشيخ النجدي أن حفظ الذكر الذي جاء في قول الله -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9)، يشمل القرآن والسُنَّة، فالحفظ ليس للقرآن فقط، بل الحفظ للقرآن وللسُنَّة؛ ولذلك قيض الله -تعالى- لهذه الأمة أفذاذًا من العلماء، أفنوا أعمارهم في علم الجرح والتعديل والأسانيد، وألفوا في ذلك وفصلوا وبينوا، وميّزوا الصحيح من الضعيف، فما راج على الأمة كلها -ولله الحمد-، أي حديثٍ باطل أو مكذوب أو ضعيف.

ثالثا- الإجْماع

       والإجماع هو ما أجْمع عليه المُسْلمون، أو هو اتفاق مجتهدي أمة محمد -[- بعد وفاته في عصرٍ من العصور على أمرٍ من الأمور، ودليل هذا الأصل وهذا المصدر قوله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115) فقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي يخالف إجماع المؤمنين، ويتبّع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، يعني غير الإجماع، قال متوعداً له: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وجاء في الحديث: «لا تَجتمع أمّتِي على ضلالة». رواه ابن ماجة والطبراني فهذا من الأدلة على أنّ الإجماع حُجّة، أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة، لو كانت تجتمع على ضلالة ما كان الإجماع حُجّة.

رابعاً: القياس

       والقياس في اللغة: هو التقدير والتّسوية وعند أهل العلم: هي طريقة في الاسْتدلال، فيستدل الفقيه المجتهد بعلة الحُكم الثابت بالنصّ أو الإجماع، على حُكم أمْرٍ غير معلوم الحُكم، فيُلحقُ الأمرَ المَسكوت عنه في الشّرع، بحكم المنْصوص على حُكمه، إذا اشتركا في علّة الحُكم وهو الأصل الرابع من أصول الاستنباط بعد القرآن والسنة والإجْماع والقياس حُجّة عند جمهور أهل العلم؛ لأنّ نصوص الوحي مَحدودة، والحوادث متجددة لا انتهاء لها، وقد استدلوا عليه بأدلة كثيرة منها: قول الله -تعالى-: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:2). وبقوله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).

مصادر أخرى للتلقي

ثم أشار الشيخ النجدي أنَّ هناك مصادر أخرى للتلقي، دلّت عليها النصوص، وهي مصادر ثانوية: وهي العقل الصحيح، والفطرة السليمة، وهي تابعة للقرآن والسُّنَّة والإجماع.

العقل الصحيح

       والعقل له منزلةٌ عظيمة عند أهل السُنَّة والجماعة؛ حيث رفع الإسلام منزلته، واعتنى به عناية فائقة، ومن معاني العقل المذكورة في القرآن الكريم: التفكُّر، والاعتبار، والتَّذكُّر، والتَّدبر، والنَّظر إلى مخلوقات الله -تعالى-، فالعقل مصدر من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة، به تُفهم النصوص، وتُستنبط الأحكام، وتُخَرَّج الفروع على الأصُول، وتُسْقَط النُّصوصُ على الوقائع، وتعطيلُ العقل يعني انتفاءَ أهليةِ الإنسان؛ فالعقل شرطٌ أساس للتكليفات الشرعية؛ إذ يسقط عن الإنسان غيرِ العاقل التكليفُ الشرعي، وكذلك أهليته للفتوى والفقه والعلم والقضاء، وأهل السُنَّة لم يُغالوا في العقل مغالاة غيرهم؛ حيث عرفوا حدوده فالتزموها ولم يتعدوها، وجعلوه تابعًا لنصوص الوحي، وليس العكس كما عند غيرهم؟ فالنص عند أهل السُنّة مقدَّم على العقل؛ ولذا قالوا: «لا اجْتهاد مع نص».

الفطرة السليمة

       وأما الفطرة السليمة فدليلها مأخوذ من قول الله -تعالى-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبديلَ لخَلْق الله ذلك الدِّينُ القَيّم} (الروم: 30)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ». رواه البخاري ومسلم، والمقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» هي ما أُخِذَ عليهم في أصلاب آبائهم من الإقرار بالتوحيد، وأنَّ الولادة تقع عليها حتى يحصل التغيير بالأبوين، والمراد من الحديث: أنَّ الله -تعالى- فَطَرَ الناس على دين الإسلام، ولكن هذه الفطرة قد تُغيَّر وتُبدَّل بحسب التنشئة والتّربية للمولود.

الفطرة ليست دليلا على مسائل الاعتقاد

        وأكد الشيخ النجدي على أن كون الفطرة مصدرًا من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السُنَّة، لا يُقصد به أنهم يعتمدون عليه دليلاً على مسائل الاعتقاد أو العبادات، فالفطرة لا تصلح لذلك على الإطلاق، ولم يقل بهذا القول أحد، غاية ما هنالك: أنَّ الفطرة الموجودة في كلِّ إنسان، تجعله قابلاً لاعتناق الحق والإيمان به؛ لأنه متوافق مع طبيعتها وما جُبلت عليه، فالفطرة السليمة والعقل الصحيح يقودان إلى الحق، ولكن العقل وحده، والفطرة وحدها، مهما كانا لا يمكن أنْ يتوصل بهما إلى التشريع وتفاصيل المعتقد وأمور الغيب.  

أمور الاعتقاد مبناها على التسليم

       لا يخفى على كل ذي عقل أنَّ أمور الاعتقاد مبناها على التسليم بما جاء عن الله ورسوله، ظاهرًا وباطنًا، ما عقلناه من ذلك وما لم نعقله، ويجب أن نحصر وظيفة العقل في تدبر آيات الله -تعالى-، ومعرفة محاسن العقيدة والشريعة التي جاء بها الإسلام، ولنعلم أنه إنما هو آلة لفهم النصوص الشرعية واستخلاص المعاني المرادة منها، ولنتيقن أن العقل يحتاج دائمًا إلى تنبيه الشرع وإرشاده إلى الأدلة، ولنتجنب كل دعوة للاعتماد على محض العقل، فإنه سبيل للتفرق والتنازع، وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال؛ فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك