
مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر- الأسباب – الآثار – العلاج (الجزء الأول)- للشيخ عبدالرحمن بن معلا اللويحق
يعد هذا الكتاب من أوسع الكتب التي تناولت مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر، وهي في أصلها رسالة دكتوراه، قدمها المؤلف لقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وجاء في التقديم أن الغلو في الدين كان موجوداً في أتباع جميع الأديان ومنهم أتباع دين الإسلام، وكما كان الغلو موجوداً في كل الأزمنة على مدار التاريخ البشري، فإنه موجود أيضاً في الوقت الحاضر، وهو ليس مقصوراً على أتباع الإسلام كما يريد خصومه أن يوهموا الآخرين، ولكنه أصبح الآن ظاهرة عالمية، بل وتعددت أنواعه وأشكاله ودوافعه، واكتسب أهمية كبرى شغلت أذهان رجال العلم والفكر والسياسة والأمن في البحث عن أسبابه ودوافعه للعمل على علاجه والتخفيف من آثاره.
ومن هنا فإن ظاهرة الغلو في المجتمع الإسلامي اليوم ليست بدعاً ولا مستغربة؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة..» الحديث؛ ولأن الدوافع المسببة لهذا الانحراف موجودة وبقوة في العصر الحاضر.
وقد أصاب الباحث -وفقه الله- كبد الحقيقة حينما سماها مشكلة؛ فظاهرة الغلو في الدين في العصر الحاضر تمثل بالفعل مشكلة من أكبر المشكلات وأخطرها على الإسلام والأمة الإسلامية.
وقد استغل خصوم الإسلام هذا التوجه المنحرف فرموا الإسلام بأنه هو المسبب لهذا، واتهموا كل مستقيم على أمر الله ملتزم بالغلو والتطرف إما جهلاً بالإسلام، وإما تجاهلاً، وإما عداء له، وصُدِّقت هذه الفرية حتى من بعض من ينتسب إلى الإسلام.
ولعل من أهم وأفضل ما ألف في هذه القضية أو المشكلة حتى الآن هو هذا الكتاب لأسباب عدة منها: إحاطة المؤلف الواعية وإلمامه الشامل بجوانب الموضوع ومعايشته إياه على مدى أكثر من ثماني سنوات؛ إذ كتب فيه رسالتيه الماجستير والدكتوراه، وتناول في الأولى مظاهر الغلو ومفاهيم التطرف والأصولية، وتناول في الثانية الأسباب والآثار والعلاج؛ وبهذا قدم عملاً متكاملاً في هذه القضية يصدق عليه أنه عملٌ موسوعيٌّ في هذا المجال.
وفي نهاية المطاف يصف العلاج لهذا الداء، وقد صدره ببيان أسس منهج الإسلام وخصائصه في علاج المشكلة، وختمه ببيان مناهج المعاصرين في معالجتها وتقويم تلك المناهج.
وانتهى إلى أن علاج مشكلة الغلو في الدين يجب أن يكون مبنياً على الضوابط العلمية الشرعية، ولابد أن يكون العلاج مقابلاً للأسباب المتنوعة للمشكلات، كما خلص إلى نتيجة تقول: إن المعالجات المعاصرة لمشكلة الغلو تحتاج -في الغالب- إلى مراجعات شاملة؛ لأن الزلل فيها كثير.
وعن بداية الغلو في أمة الإسلام كتب الباحث بعد وقعة الجمل حدثت وقعة صفين بين علي رضي الله عنه وأشياعه ومعاوية رضي الله عنه وأشياعه، فكانت هذه المرحلة الأكثر تأثيراً في انتشار الفتن ونشوء الفرق.
ثم تتابع ظهور الفرق في تاريخ المسلمين، فخرجت المرجئة والقدرية والمعتزلة، وغيرهم، ولم ينقطع حبل هذه الفرق إلى هذا العصر ابتلاء من الله -عز وجل-: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال:42).
فكانت مشكلة الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكادت أن تكون المشكلة الأولى في العالم المعاصر.
وعن تضخيم مشكلة الغلو عند المسلمين يقول الباحث: لقد ضخمت مشكلة الغلو عن المسلمين وهوّلت في مقابل تيارات الغلو والتطرف في الديانات المختلفة؛ فالغلو الهندوسي ظاهر ظهوراً بيناً، حتى أصبحت الاضطرابات التي يشعلها الهندوس مع ما يقابلها من خسائر في الأرواح والممتلكات ظاهرة تهدد حياة المسلمين، وتضرب مقومات حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل تطال مساجدهم. وفي عام واحد هو عام 1980م بلغت الحوادث الطائفية في الهند (427) حادثاً، قتل فيها (375)، وجرح (2838)، وهذا عدد كبير,
والفلبين تعاني من الغلو النصراني الذي ذهب ضحيته الآلاف، والبوسنة عانت من الغلو والتطرف الصربي، الذي راح ضحيته عشرات الآلاف، والغلو اليهودي الذي تتعدد منظماته وجماعاته التي تسفك الدماء، وتسرق الأراضي والدور، وتمتهن حرمات المقدسات.
كل أولئك غلاة ملء السمع والبصر، ولكن يغض البصر عنهم، ويهول تيار الغلو والتطرف عند المسلمين، فأصبح مجرد ذكر (التطرف الديني) ينصرف الذهن فيه إلى المسلمين.
فالمعنيون بالتطرف في نظر الغرب هم المسلمون فقط من شعوب وحركات وجمعيات؛ فاليهود مثلاً رغم كل ما قاموا به من إرهاب وقتل وإحراق وتخريب للمسلمين وديارهم، منذ قيام إسرائيل وحتى الآن لا يعد عملهم تطرفاً دينياً! وما تقوم به حكومات مسيحية كالفلبين ضد المسلمين لم يصنفه أحد في الغرب بأنه تطرف ديني.
بل تمر أخبار التطرف اليميني واليساري في الغرب بهدوء تام في الوقت الذي يدق فيه الإعلام الغربي يومياً ناقوس خطر التطرف الديني.
ويمكن أن يعرف ذلك من دراسة التعامل الإعلامي مع حادث التفجير في مركز التجارة العالمي في (نيويورك)، الذي اتهم فيه بعض المسلمين، والتعامل الإعلامي مع حادث تفجير المبنى الاتحادي في (أوكلاهوما) بالولايات المتحدة الذي اتهم فيه بعض الأمريكيين، بعد أن تداعى الإعلاميون الغربيون والمختصون في القضايا المتعلقة بالمسلمين إلى متابعة الفعلة من (الإرهابيين المسلمين) بزعمهم.
وأرجع المؤلف أسباب الغلو إلى أمور سياسية أولها الجهل بالقرآن والجهل بالسنة والجهل بمقاصد الشريعة، وضرب لذلك الكثير من الأمثلة، وكذلك الجهل بالسنن الربانية والجهل بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال، كذلك الجهل بمراتب الأحكام وبمراتب الناس، والجهل باللغة العربية وبالتاريخ.
ثم استجلى الشيخ أهم الأسباب المتعلقة بالمنهج العلمي، التي أدت إلى الغلو، فنذكر منها: الإعراض عن العلماء – التأويل والتحريف – اتباع المتشابه – عدم الجمع بين الأدلة – التعامل المباشر مع النص والفهم الحرفي له – الاجتهاد من غير أهلية – الإغراق في الاهتمام بأحاديث الفتن – الاعتماد على الرؤى والأحلام.
ويختتم المؤلف الجزء الأول من كتابه بذكر الأسباب التربوية في بروز ظاهرة الغلو في الدين، ومنها ضعف التحصيل في العلوم الشرعية، فيقول: فالملاحظ أن السياسات التعليمية في معظم البلدان العربية لم تعط العلوم الشرعية عناية كافية؛ الأمر الذي انطبع على الخطط الدراسية والكتب المدرسية وأداء المعلمين، وقد أنتج ذلك آثاراً منها: نقص العلماء الشرعيين، وضعف العلماء الموجودين لضعف المناهج التي درسوا عليها، كذلك ضعف الحصيلة العلمية لجميع الناس.
ونقص العلم الشرعي الذي يمكن أن يحصّل في المدارس والجامعات أفضى بأقوام إلى سلبيات في التلقي خطيرة من أظهرها: الأخذ عن الكتب مباشرة، والتلقي عن غير الثقات أو المؤهلين.
وهذا الأمر وإن كان خطأ من الفاعلين أنفسهم إلا أن المسؤولية تقع أيضاً على من يتولى سياسات التعليم؛ إذ لا يضع للناس ما يشبع حاجاتهم من العلوم الشرعية.
وإذا أمعن المرء النظر الى أسباب الغلو المتعلقة بالجهل، أو بالخلل في مناهج التلقي أو الفهم يجد أن علاقتها ظاهرة بمناهج التعليم، وقصورها، ولاسيما في العلوم الشرعية.
ولقد لاحظ بعض الأساتذة المهتمين بموضوع الغلو أن الغلو يقل في أوساط المتعلمين للعلوم الشرعية، بينما يزيد في أوساط غيرهم.
ومن الأسباب كذلك أن مشكلة الهوية في المجتمع ومناهج التعليم تساعد على ترسيخ هذه المشكلة، فيدرس مثلاً تاريخ الفراعنة في بلد إسلامي في (317) صفحة وفي جميع مراحل التعليم، أما تاريخ الدولة الإسلامية منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهاية الخلافة العثمانية فيدرس في اثنين وثلاثين صفحة وفي المرحلة الإعدادية فقط.
وبذلك انخفض تدريس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم جميعها إلى عشر صفحات بينما تدرس سيرة الملك مينا وحدة من ملوك الفراعنة في تسع صفحات.
واختزل تاريخ خالد بن الوليد وفتوحاته إلى ستة أسطر في حين يدرس نابليون والغزو الفرنسي لمصر في أربع وثلاثين صفحة.
ولاشك أن ذلك جعل هوية المجتمع مزعزعة بين الهوية الإسلامية والهوية الفرعونية والهوية الغربية؛ مما أثر في إحداث مشكلة الغلو وتنميتها.
من أسباب الغلو أيضاً مشكلة الانحلال الأخلاقي، وقد ذكرت فيما مضى أمثلة من كتب اللغة الإنجليزية تساعد على الفساد والتحلل الأخلاقي؛ لذلك أثره في إحداث مشكلة الغلو.
ويثير سوء هذه المناهج والتطوير فيها والتغيير والإبدال ردود أفعال، ما ينتج عنه رغبة بعضهم في التغيير بعنف لمعالجة الأوضاع القائمة.
لاتوجد تعليقات