رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ناصر نعمه العنيزان 31 يوليو، 2017 0 تعليق

مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر- الأسباب – الآثار – العلاج (الجزء الثالث)- للشيخ عبدالرحمن بن معلا اللويحق

في الجزء الثالث والأخير من الدراسة الأكاديمية القيمة للشيخ عبدالرحمن اللويحق حول مشكلة الغلو طرح (علاج مشكلة الغلو في العصر الحاضر)، وناقش هذا الأمر على ثلاثة أقسام: (العلاج العقدي والعلمي – العلاج التربوي والاجتماعي – مناهج المعاصرين في معالجة المشكلة وتقويمها). وفي تمهيده لهذا الجزء المهم من الدراسة الذي هو الثمرة المرجوة يقول: فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه. يقول الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء:59).

     قال ابن القيم -رحمه الله-: «قوله {فإن تنازعتم في شيء} نكرة في سياق الشرك، تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين، دقه وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد عليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر الله -تعالى- بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع».

ويقول: ومقصود المناظرة: رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه؛ لأن رده بغير ما يعرفه من تكليف ما لا يطاق، فلابد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل.

     إن من مقتضيات جعل المرجع كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن نرد الأمر للعلماء العارفين بشرع الله ليتولوا معالجة هذه المشكلة، ويضعوا منهج المعالجة، فإن ذلك من أظهر مهام العلماء. ففي الحديث أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»، وإذا لم نرد الأمر إلى العلماء بالشرع صرنا إلى غرائب في تحديد مظاهر الغلو.

     لقد رأينا في واقعنا المعاصر من يعد ارتداء الحجاب من قبيل التطرف، رغم أنه فريضة محكمة، ورأينا من يعد الامتناع عن شرب الخمر في الاحتفالات العامة من قبيل التطرف رغم أن الخمر أم الكبائر، ورأينا من يعد المحافظة على الصلاة في أول وقتها من قبيل التطرف بدعوى أن العمل عبادة، وأنه لا ينبغي أن تقطع عبادة العمل من أجل الصلاة.

وإذا كان المعيار هو الكتاب والسنة، فإن من العدل والإنصاف أن نرجع إلى الحق ولو كان من قول الغلاة؛ لأنه ما من طائفة إلا وعندها شيء من الحق، والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط.

     وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل: أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم؛ إذ هم -ولله الحمد- أكمل الناس عقلاً، وأتمهم إدراكاً وأصحهم ديناً وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً وأحسنهم شريعة.

     وفي عرضه للعلاج العقدي حدد الباحث لذلك ثمانية مطالب هي: «الاعتصام بالكتاب والسنة، والالتزام بمذهب أهل السنة والجماعة، ونشر مذهب السلف، والعلم بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال، كذلك الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم، وضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومعالجة الفساد العقدي، وأيضاً حماية الدين من المستهزئين».

ومما بسطه في المطلب الأخير قوله: لقد اتضح من خلال دراسة أسباب الغلو أن منها: الاستهزاء بالدين؛ حيث أشعل ذلك الاستهزاء قلوب بعض الغيورين فاتخذوا لتغيير هذا الأمر وسائل غير شرعية.

     ولقطع هذا المورد من موارد الغلو يحتاج ابتداء إلى بث روح الإيمانية في نفوس أبناء الأمة عن طريق وسائل التربية والتعليم، ووسائل الإعلام والتوجيه والتأثير، حتى يقدروا الله -عز وجل- حق قدره، ويعرفوا للدين حرمته؛ إذ أن الاستهزاء بالله -عز وجل- ودينه ورسوله  صلى الله عليه وسلم وانتشار ذلك الاستهزاء في المجتمع عبر بعض المؤلفات أو الوسائل الأخرى لم يأت عبثاً، وإنما هو نتاج خلل في بنية المجتمع الإيمانية.

     وينضاف إلى هذا الوازع الإيماني في النفوس الوازع السلطاني، فكما سنت القوانين في كثير من البلاد الإسلامية لمنع التعرض لبعض الذوات والهيئات بالجرح والاستهزاء، فإن الأولى أن يحكم بشرع الله -عز وجل- في المستهزئين بالله وبرسوله  صلى الله عليه وسلم أو بدينه، ولقد فصلت كتب الفقه أحكام أولئك المستهزئين، وبينت العقوبات المترتبة على فعلهم.

     ومن الوازع السلطاني: أن يمنع نشر أي مقال أو مؤلف أو رسم ساخر (كاريكاتير) أو غير ذلك؛ مما فيه تعرض لذات الله -عز وجل- أو لدينه، أو لرسوله  صلى الله عليه وسلم ، أو لأهل العلم والدين بالسخرية والهزء. وحين يجتمع هذا الوازع السلطاني مع الوازع الإيماني، فإن هذه الجريمة ستختفي من المجتمع المسلم.

     أما العلاج العلمي لمشكلة الغلو، فقد حدد الشيخ أموراً أهمها: «طلب العلم الشرعي، وضبط منهج الاستدلال والاستنباط،وضبط منهج فهم الألفاظ الشرعية، كذلك التلقي عن العلماء ورعاية حقوقهم، والعلم بمقاصد الشريعة، والعلم بالتاريخ والسنن الربانية، وأيضاً العلم بمراتب الأحكام، والعلم باللغة العربية، وأيضاً العناية بمناهج التعليم».

     وعن السياسة التعليمية يقول: إن من الواجب إذا أردنا أن نسلم من ظواهر الانحراف أن تكون تلك السياسة منبثقة من دين المجتمع، فتبنى على الإسلام، وتجعل الغاية الرئيسة لها تعبيد الناس لله -عز وجل- وأما ما يتبع ذلك من إكساب الطالب المعارف والمهارات المختلفة، وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً فهو تابع للغاية الرئيسة من التعليم.

     وأكد المؤلف على دور المعلم بقوله: ما لم يكن المعلم مؤهلاً لأداء الرسالة التعليمية، فلن يكون للسياسة التعليمية والخطة الدراسية الجيدة أثر في العلمية التربوية؛ إذ إن المعلم هو حجر الزاوية في تلك العملية، ويمكن تركيز القول في الجوانب التي تستحق العناية في أمر المعلم فيما يأتي: اختيار الأكفاء من المدرسين من الجهة العلمية بأن يكون مقتدراً في تخصصه، ومن الجهة التربوية بأن يمثل القدوة الصالحة للطلاب.

كذلك إسناد تدريس كل مادة إلى المتخصصين فيها، حتى يؤدوا الرسالة التي أنيطت بهم على الوجه الأتم.

     وفي مجال العلاج التربوي والاجتماعي ذكر المؤلف نقاطاً مهمة،خصوصاً في مجال العلاج الاجتماعي، ومنها: (الحوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام اليسر والأخذ بالسماحة في التعامل مع الناس، كذلك النظر في أحوال الناس والاهتما بأعذارهم، والاعتدال في الحكم على زلات العلماء، وأيضاً قيام العلماء بواجبهم، والهجر، والرد، وأيضاً العقوبة وعلاج الجوانب الاقتصادية).

     وقال: إن من علاج الغلو قطع الظروف الداعمة لحدوثه ووجوده، ومن ذلك عدم تهيئة أي تربة لنشأة الصراع الطبقي، أو الاجتماعي الناشيء عن الظلم الاجتماعي، أو الشعور بالظلم الاجتماعي، ومعالجة ما وقع في بعض المجتمعات التي وصل بها الأمر إلى أن يجتمع في البلد الواحد والمجتمع الواحد بين أبشع مظاهر الترف والكنز في طرف، والموت جوعاً في طرف آخر.

     وحين تطبق الشريعة الإسلامية في الجوانب الاقتصادية يسلم المجتمع من تلك الظروف والصراعات المنتجة للانحرافات، ولتحقيق تراحم المجتمع وتكافله اتخذت الشريعة إجراءات ووسائل عدة من أهمها: (الزكاة، وضمان الدولة للعاجزين، والحض على العمل وتهيئة الفرص له، كذلك نظام الإرث، وتحريم الربا، وتحريم الاحتكار).

     وفي آخر فصول هذا الجزء طرح الباحث مختلف المناهج في العلاج حسب توجهات أصحابها من علماء وعلمانيين وغربيين وإعلاميين وغيرهم، فبين أن من وسائل العلماء في معالجة المشكلة تأصيل المنهج الحق، وبيان منهج السلف أهل السنة والجماعة،ويدخل في ذلك تحقيق مؤلفات علماء السلف ونشرها، وقد نشر في العقود الأخيرة عشرات الكتب بتحقيق علمي في الجامعات الإسلامية، كما قام العلماء وطلبة العلم بتأليف كتب عدة تأصيلية في قضايا الإيمان والتكفير ونواقض الإيمان وأهل الأهواء والبدع والفرق.

     كما يقوم العلماء في دروسهم بشرح كتب السلف، فثمة دروس في شرح كتاب التوحيد من (صحيح البخاري) -رحمه الله- وشرح (أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي رحمه الله، و(الشريعة) للآجري، و(السنة) للخلال، وفي شرح كتيب شيخ الإسلام بن تيمية، كما أن فتاوى أهل العلم شواهد على بيانهم المنهج الحق.

     وبسط المؤلف كذلك في باب المعالجة الأمنية والقانونية لمشكلة الغلو، فقال: إن المعالجة الأمنية ضرورة من ضرورات معالجة المشكلات التي تستهدف أمن الأمة والبلاد، هذا في الأصل، ولكننا حين نتأمل الواقع نجد أن ثمة انتقادات حادة للمعالجة الأمنية للقضايا المنسوبة إلى الغلاة؛ ففي بعض البلاد العربية والإسلامية تطرح قضايا العشوائية في القبض على الناس، والتعذيب، وطول السجن بدون أحكام صادرة، ونحو ذلك.

والحقيقة أن المعالجة الأمنية مثلها مثل أي معالجة إجرائية أخرى يختلف الحكم عليها بحسب اختلاف الإجراء الأمني المتخذ، فحين تكون الإجراءات الأمنية منضبطة بضوابط الشرع المطهر، وتكون موصلة للقضاء الشرعي فهي محمودة.

     وأما حين تكون الإجراءات الأمنية قبضاً عشوائياً على كل ذي سمعة تدل على الالتزام بالدين كإعفاء اللحى، وإهانته بغير حق، وتعذيباً للمتهمين بدون مسوغ شرعي، أو إطلاقاً للنار على الناس، ثم تكون تلك الإجراءات موصلة إلى القضاء بالقانون الوضعي الحاكم بغير ما أنزل الله، فهنا تكون المعالجة الأمنية غير مؤدية للغرض المقصود، فهي مخالفة للشرع، سائقة إلى المزيد من الغلو والأحقاد والفتن والشرور.

     ولقد وجدت أنه من الصعوبة بمكان دراسة الواقع في هذا المجال لفقد المصداقية، وعدم توفر الوسائل المعينة على الدراسة، وهذه الصعوبة لا تعفي من وضع بعض الملحوظات العامة المنتقدة لواقع المعالجات الأمنية، ولكنها ملحوظات عامة لا تستهدف الحكم على جهات محددة، أو وقائع معينة.

     وهذه الملحوظات هي: أن الاقتصار على المعالجة الأمنية خطأ واضح، كذلك فإن الاكتفاء بالمعالجة الأمنية يعمق حالة العداء داخل المجتمع الواحد، كما أن المعالجة الأمنية في الغالب تتأخر حتى ينتقل الفكر الغالي إلى عمل عدواني، والواجب أن تكون المعالجة قبل ذلك للفكر، كذلك عدم رعاية حقوق المتهم، ذلك أن المغالي في الأطوار التي يلاحق فيها أمنياً متهم، وقد جعلت الشريعة للمتهم حقوقاً، كما أن القسوة أو القوة في المعاملة يجب أن تقدر بالقدر الذي يقتضيه الحال.

وأيضاً التعميم. يقول الله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة}، وهذا يبين أن التعميم في المعاقبة مخالف للشرع.

وفي ختام رسالته القيمة كتب الشيخ عبدالرحمن اللويحق: إن لهذه المشكلة أهمية كبرى، فلها شأوٌ لم تبلغه مشكلة أخرى، فقد اهتم بها الخلق مسلمهم وكافرهم، ولكل وجهة هو موليها في الاهتمام؛ ولذلك فإن الواجب دراسة المشكلة دراسة علمية دقيقة.

وإنني في ختام هذا البحث أثني بحمد الله -عز وجل- الذي بنعمته تتم الصالحات، وإنه لقمن بكل واقف على هذا البحث أن يسدد مابه من خلل، وأن يستر ما فيه من زلل، فلقد علمت الأوائل والأواخر أنه ليس من العصمة أمان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك