مشروعية النقاب في الكتاب والسنة والمذاهب الفقهية الأربعة(2-2)
نستكمل مابدأناه في الحلقة السابقة من مشروعية النقاب في الكتاب والسنة والمذاهب الأربعة، وقد أشرنا في السابق أقوال الحنفية والمالكية وسنذكر في حلقتنا هذه أقوال الشافعية والحنابله، وهي كالآتي:
ثالثًا: مذهب الشافعية
1- قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في «المنهج»: «وعورة حُرَّة غير وجه وكفين.. «قال الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على الكتاب السابق عند قوله: «غير وجه وكفين: وهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها عند النساء المسلمات مطلقًا وعند الرجال المحارم، فما بين السرة والركبة. وأما عند الرجال الأجانب فجميع البدن. وأما عند النساء الكافرات، فقيل: جميع بدنها، وقيل: ما عدا ما يبدو عند المهنة» اهـ (حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 411).
2- وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي (تحفة المحتاج بشرح المنهاج 3 / 113 115، المطبوع بهامش حاشيتي الشرواني والعبادي) في «فصل تكفين الميت وحمله وتوابعهما»: «يُكفن الميت بعد غسله بما لَهُ لُبْسُهُ حيًا... ثم قال: وأقله ثوب يستر العورة المختلفة بالذكورة والأنوثة» اهـ.وقد كتب الشيخ الشرواني (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 3 / 115) في حاشيته على تلك العبارة: «فيجب على المرأة ما يستر بدنها إلا وجهها وكفيها، حرَّة كانت أم أمة. ووجوب سترهما في الحياة ليس لكونهما عورة، بل لكون النظر إليهما يوقع في الفتنة غالبًا. شرح: م ر، أي شرح شمس الدين بن الرملي رحمهما الله تعالى.
3- وذكر ابن قاسم العبادي في (حاشيته على تحفة المحتاج 3 / 115) نحو ذلك على العبارة نفسها، فقال: «فيجب ما ستر من الأنثى ولو رقيقة ما عدا الوجه والكفين. ووجوب سترهما في الحياة ليس لكونهما عورة، بل لخوف الفتنة غالبًا. شرح: م ر» اهـ.
4- وقال الشيخ الشرواني: «قال الزيادي في شرح المحرر: إن لها ثلاث عورات: عورة في الصلاة، وهو ما تقدم، أي كل بدنها ما سوى الوجه والكفين، وعورة بالنسبة لنظر الأجانب إليها: جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد، وعورة في الخلوة وعند المحارم: كعورة الرجل» اهـ أي ما بين السرة والركبة (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2 / 112).
5- وقال أيضًا: «من تحققت من نظر أجنبي لها يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم» اهـ (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6 / 193).
6- وقال الشيخ زكريا الأنصاري: «وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين» فكتب الشيخ الشرقاوي في حاشيته على هذه العبارة: «وعورة الحرة.. أي: في الصلاة. أما عورتها خارجها بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها حتى الوجه والكفين ولو عند أَمنِ الفتنة» اهـ (تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 1 / 174).
7- وقال الشيخ محمد الزهري الغمراوي (أنوار المسالك شرح عمدة السالك وعدة الناسك ص 217): «ويحرم أن ينظر الرجل إلى شيء من الأجنبية، سواء كان وجهها، أم شعرها، أم ظفرها، حرة كانت أم أمة...» ثم قال بعد أربعة أسطر: «فالأجنبية الحرة يحرم النظر إلى أي جزء منها ولو بلا شهوة، وكذا اللمس والخلوة، والأَمة على المعتمد مثلها، ولا فرق فيها بين الجميلة وغيرها...». ثم قال في الصفحة التي تليها: ويحرم عليها أي المرأة كشف شيء من بدنها، ولو وجهها وكفيها لمراهق أو لامرأة كافرة» اهـ.
8- وقال الشيخ محمد بن عبد الله الجرداني (فتح العلام بشرح مرشد الأنام 1 / 34 35): «واعلم أن العورة قسمان: عورة في الصلاة، وعورة خارجها، وكل منهما يجب ستره» اهـ.وبعد تفصيل طويل نافع قال تحت عنوان: «عورة المرأة بالنسبة للرجال الأجانب، وما فيه من كلام الأئمة، وحكم كشف الوجه»: «وبالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها بدون استثناء شيء منه أصلًا.. ثم قال: ويجب عليها أن تستتر عنه، هذا هو المعتمد، ونقل القاضي عياض المالكي عن العلماء: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنها، وقيل: وهذا لا ينافي ما حكاه الإمام من اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، أي كاشفاتها؛ لأن منعهن من ذلك ليس لوجوب الستر عليهن، بل لأن فيه مصلحة عامة بسدِّ باب الفتنة. نعم، الوجه وجوبه عليها إذا علمت نظر أجنبي إليها؛ لأن في بقاء الكشف إعانة على الحرام. أفاد ذلك السيد أبو بكر في حاشيته على «فتح المعين» نقلًا عن «فتح الجواد». وضعَّفَ الرملي كلام القاضي، وذكر أن الستر واجب لذاته. ثم قال: وحيث قيل بالجواز كره، وقيل: خلاف الأَولى. وحيث قيل بالتحريم وهو الراجح حرم النظر إلى المُنَقَّبة التي لا يبين منها غير عينيها ومحاجرها، أي ما دار بهما، كما بحثه الأذرعي، لا سيَّما إذا كانت جميلة» اهـ (فتح العلام بشرح مرشد الأنام 1 / 41 42)، ونحوه في مغني المحتاج (3 / 129).
9- وقال الشيخ تقي الدين الحصني (كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (1 / 181): «ويُكره أن يصلي في ثوب فيه صورة وتمثيل، والمرأة منتقّبة إلا أن تكون في مسجد وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر، فإن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد حرم عليها رفع النقاب. وهذا كثير في مواضع الزيارة كبيت المقدس، زاده الله شرفًا، فليُجتنَب ذلك» اهـ.
10- وقال الشيخ محمد بن قاسم الغزي: «وجميع بدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وهذه عورتها في الصلاة، أما خارج الصلاة فعورتها جميع بدنها» اهـ (فتح القريب في شرح ألفاظ التقريب (ص 19).
11- وقد أجاز فقهاء الشافعية للمرأة المُـحْرِمة بالحج أو العمرة ستر وجهها عند وجود الرجال الأجانب؛ بل أوجبه بعضهم. قال العلامة الرملي الشهير بالشافعي الصغير: «وللمرأة أن ترخي على وجهها ثوبًا متجافيًا عنه بنحو خشبة وإن لم يُحتَج لذلك لحرٍّ وفتنة.. ولا يبعد جواز الستر مع الفدية حيث تعيَّن طريقًا لدفع نظر مُحرَّم. وقد كتب الشبراملسي في حاشيته عليه: «قوله: ولا يبعد جواز الستر، أي: بل ينبغي وجوبه، ولا ينافيه التعبير بالجواز؛ لأنه جوازٌ بعد مَنع، فيَصدُق بالواجب» اهـ (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ومعه حاشية الشبراملسي (3 / 333).
12- وقال الخطيب الشربيني: «وإذا أرادت المرأة ستر وجهها عن الناس أَرْخَت عليه ما يستره بنحو ثوب متجافٍ عنه بنحو خشبة، بحيث لا يقع على البشرة». «وقد كتب البجيرمي في حاشيته على هذا القول: «فيه إشارة إلى وجوب كشف وجهها ولو بحضرة الأجانب ومع خوف الفتنة، ويجب عليهم غض البصر، وبه قال بعضهم. والمتجه وجوب الستر عليها بما لا يمسُّه» اهـ (حاشية البجيرمي على الخطيب (2 / 391).
13- ونقل الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي (أوجز المسالك إلى موطأ مالك 6 / 197) نقلًا عن: شرح الإقناع، في «باب تخمير المحرم وجهه» عن «شرح الإقناع» قوله: «وإذا أرادت» ستر وجهها عن الناس أَرْخَت عليه ما يستره بنحو خشبة، بحيث لا يقع على البشرة. وفي حاشيةِ البجيرمي: قوله: «إذا أرادت»، فيه إشارة إلى وجوب كشف وجهها أي في حالة الإحرام ولو بحضرة الأجانب، ومع خوف الفتنة، ويجب عليهم غض البصر، وبه قال بعضهم. والمتجه في هذه وجوب الستر عليها بما لا يمسُّه» اهـ.
رابعًا: مذهب الحنابلة
1- قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: «كل شيء منها، أي من المرأة الحرة، عورة حتى الظفر» اهـ (زاد المسير في علم التفسير 6 / 31).
2- وقال الشيخ يوسف بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في (مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام ص 120): «ولا يجوز للرجل النظر إلى أجنبية، إلا العجوز الكبيرة التي لا تشتهى مثلها، والصغيرة التي ليست محلًا للشهوة، ويجب عليه صرف نظره عنها. ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت» اهـ.
3- وقال الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 309): «والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها»؛ لقول النبي [: «المرأة عورة» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وعن أم سلمة أنها سألت النبي[: «أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة. «إلا وجهها»: لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة. ذكره في «المغني» وغيره.
«قال جَمْعٌ: وكفيها» واختاره المجد، وجزم به في «العمدة» و«الوجيز»؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. «وهما» أي: الكفان «والوجه» من الحرة البالغة «عورة خارجها» أي الصلاة «باعتبار النظر كبقية بدنها» كما تقدم من قوله [: «المرأة عورة» اهـ.
4- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (الروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي، مع حاشية العنقري 1 / 140): «وكل الحرة البالغة عورة حتى ذوائبها، صرح به في الرعاية. اهـ إلا وجهها فليس عورة في الصلاة. وأما خارجها فكلها عورة حتى وجهها بالنسبة إلى الرجل والخنثى، وبالنسبة إلى مثلها عورتها ما بين السرة إلى الركبة» اهـ.
5- وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى (الفروع 1 / 601، 602): «قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية. ونقل أبو طالب: ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خُفَّها؛ فإنه يصف القدم، وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكـمّها زرًا عند يدها». اختار القاضي قول من قال: المراد بــ {مَا ظَهَرَ} من الزينة: الثياب؛ لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسَّرها ببعض الحلي، أو ببعضها؛ فإنها الخفية، قال: وقد نصَّ عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر» اهـ.
6- وقال الشيخ يوسف مرعي (غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى 3 / 7): «وحرم في غير ما مرَّ، أي من نظر الخاطب إلى مخطوبته، ونظر الزوج إلى زوجته، وغير ذلك قصدُ نظرِ أجنبية، حتى شعر متصل لا بائن. قال أحمد: ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خُفَّها فإنه يصف القدم. وأُحبّ أن تجعل لكمّها زرًا عند يدها» اهـ.
7- وقد أجاز فقهاء الحنابلة للمرأة المُـحْرِمة بحج أو عمرة ستر وجهها عند مرور الرجال الأجانب قريبًا منها. قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي (المبدع في شرح المقنع 3 / 168)، وانظر أيضا: الروض المربع (1 / 484): «والمرأة إحرامها في وجهها» فيحرم عليها تغطيته ببرقع، أو نقاب، أو غيره؛ لما روى ابن عمر مرفوعًا: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القُفَّازين» رواه البخاري. وقال ابن عمر: إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه. رواه الدارقطني بإسناد جيد.
فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها جاز أن تُسدل الثوب فوق رأسها على وجهها، لفعل عائشة. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وشَرَط القاضي في الساتر ألا يصيب بشرتها، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها، وإلَّا فَدَت لاستدامة الستر، وردَّه المؤلف بأن هذا الشرط ليس عند أحمد، ولا هو من الخبر، بل الظاهر منه خلافه؛ فإنه لا يكاد يسلم المسدول من إصابة البشرة، فلو كان شرطًا لبُيِّن» اهـ باختصار.
8- وقال الشيخ إبراهيم ضويان (منار السبيل 1 / 246، 247) أثناء كلامه عن محظورات الإحرام: «... وتغطية الوجه من الأنثى، لكن تُسدل على وجهها لحاجة؛ لقوله[: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» رواه أحمد والبخاري، قال في الشرح: فيحرم تغطيته، لا نعلم فيه خلافًا إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه، فيُحمَلُ على السدل؛ فلا يكون فيه اختلاف. فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريبًا منها سدلت الثوب من فوق رأسها، لا نعلم فيه خلافًا. اهـ لحديث عائشة: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله [، فإذا حاذَونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه». رواه أبو داود والأثرم» اهـ.
الْخُلاصة
يستنتج من تلك النصوص التي سقناها من المصادر المعتمدة عند كل مذهب من تلك المذاهب الأربعة، ما يلي:
1- وجوب ستر المرأة جميع بدنها، بما في ذلك وجهها وكفاها عن الرجال الأجانب عنها. وقد رأى بعض أهل العلم أن الوجه والكفين عورة لا يجوز إظهارهما لغير النساء المسلمات والمحارم؛ استنادًا إلى الحديث الصحيح: «المرأة عورة» ورأى بعضهم الآخر أنهما غير عورة، لكنهم قالوا بوجوب سترهما لخوف الفتنة نظرًا لفساد الزمن. فانعقدت خناصر المذاهب الأربعة على وجوب سترهما، وحرمة كشفهما؛ لذا نقل الإمام النووي، والتقي الحصني، والخطيب الشربيني، وغيرهم عن الإمام الجويني إمام الحرمين اتفاقَ المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه. انظر: روضة الطالبين (7 / 21)، وكفاية الأخيار (2 / 75)، ومغني المحتاج (3 / 128، 129).
2- دَلَّت النصوص التي سقناها عن المذاهب الأربعة على وجوب ستر المحرمة وجهها بغير البرقع والنقاب عند بعضهم، وعلى جواز ستره بغيرهما عند مرور الرجال الأجانب بها عند بعضهم الآخر، وما ذلك إلا لصيانتها من نظراتهم رغم كونها محرمة؛ ولهذا قال الحافظ ابن عبد البر (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 15 / 108): «أجمعوا أنَّ لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها - أي وهي محرمة - بنحو خمار إلا ما ذكرنا عن أسماء» اهـ.
لاتوجد تعليقات