رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 10 يناير، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

 


 

ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد بدأنا في الحلقة الماضية عن المشهد الثاني من تلك القصة الذي كان بعنوان: (في جوف الكهف)، وذكرنا بعض الرسائل في هذا المشهد وكان منها العزلة الاضطرارية، والفرار الواجب، واليوم نستكمل تلك الرسائل.

(3) الرحمة الواسعة

     قال الله -تعالى-: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، ما أجمل شعور الإنسان وهو يحسن الظن بربه -عز وجل-، ويشعر بعظيم مننه وواسع فضله وكرمه! فرغم وجود الفتية في جوف كهف ضيق، إلا أنهم شعروا فيه بسعة وسكينة وراحة، وتأمل في كلمة: «يَنْشُرْ»؛ لتوحي لك بالاتساع والرحابة، حتى يكاد يُخيَّل إلى السامع أنهم يعيشون في قصرٍ منيفٍ، وفناءٍ واسعٍ، والكهف ضيق مظلم، فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله -سبحانه وتعالى-؛ ذلك أنَّهم لما تركوا حياتهم المُنَعَّمة لله، وعظَّموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيرًا مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيرًا منه، ونشر لهم من رحمته، ووسَّع الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة.

حال اليقين والثقة بالله

     هؤلاء هم الفتية الذين ابتهلوا إلى الله قبل ذلك في دعائهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، والآن انتقلوا من حال الدعاء والطلب إلى حال اليقين والثقة بالله أنه سيفعل ذلك، ولا شك أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ويسَّر لهم كل سبب، حتى الكهف الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يُمكِن من الرعاية والتعايش؛ لذلك قال الله -تعالى-: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}.

أي: حفظهم الله من الشمس، فإذا طلعت تميل عنهم يمينًا، وعند غروبها تميل عنهم شمالًا، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها، وفي الوقت نفسه هم في مكان متسع من الكهف، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم التأذي بالمكان الضيق، ولا سيما مع طول المكث، وذلك مِن آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم.

(4) قانون الهداية

     قال الله -تعالى-: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، فلا سبيل إلى نيل الهداية إلا مِن الله -عز وجل-، فهو الهادي المرشد الذي يتولى العبد ويتولى شأنه بالإصلاح، ويرشده إلى الهداية وإلى أسباب التوفيق والخير في دنياه وأخراه، فمَن أضله الله فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وهذا نظير قول الله -عز وجل- في سورة الإسراء: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} (الإسراء:97)، وهذه الآية تمثِّل قانونًا من قوانين الله في الكون؛ فالهداية مِن الله -عز وجل-، وقد جعل الله لها أسبابًا خاطب بها العباد، فمَن سلك سُبُل الهداية نال جزاء ذلك رحمة وتوفيقًا وإسعادًا، ومَن هجر طُرُق الهداية وسَلَك سبل الغواية والفساد، فقد خسر هذه الولاية وحُرم هذه الرعاية، وصار في عداد الضالّين التائهين الذين تَسَلَّط عليهم الشيطان فأبعدهم عن طريق الله، وطردهم من كنفه وتوفيقه.

الشق الأول من هذا القانون

والشق الأول من هذا القانون يتمثل في قوله -تعالى-: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}، فلا تتعال على غيرك بما مَنَّ الله به عليك، ولا تغتر أيها المهتدي بشيء من الطاعات وفقك الله إياه، وتمثَّل قول الصحابة في غزوة الخندق وهم ينشدون على لسان عبد الله بن رواحه - رضي الله عنه -:

اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا

                            ولا تَصدَّقنْا ولا صَلَّيْنا

فأَنزِلَنْ سَكينةً علَيْنا

                     وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا

الشق الثاني من هذا القانون

     أما الشق الثاني من هذا القانون فيتمثل في قوله -تعالى-: «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا»، وهذا أيضًا من مواطن شكر النعمة وشهود فضل الله عليك، فالهداية ليست ذكاءً منك ولا إمكانيات ذاتية لك، فكثير مِن الخلق أكثر منك ذكاءً، وأوسع منك عقلًا ولم يُوفقوا للهداية، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف:26).

(5) العناية الربانية

     قال الله -تعالى-: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، الله -عز وجل- يحفظ أولياءه بجنودٍ من عنده -عز وجل-، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس:9)، وقال -تعالى- مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وكما حوَّل العصا لموسى -عليه السلام- إلى ثعبان التقم ما فعله سحرة فرعون فقال -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الأعراف:117)، وقال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء:69)، فقوانين الكون الطبيعية يعطِّلها الله -عز وجل- إذا شاء، كرامة لعباده المؤمنين.

حفظ الله لهؤلاء الفتية

     وفي هذه القصة نجد: أن الله حفظ هؤلاء الفتية بأن جعل الشمس تدخل عليهم عند الشروق وعند الغروب، فتضيء لهم الكهف دون أن تحرق أجسادهم، ثم إنه قلَّب أجسامهم يمنة ويسرة حتى لا تأكلها الأرض، وجعل الكلب على هيئته المعتادة في التهيؤ والتحفز حتى لا يقترب أحدٌ مِن الكهف، ومع كل هذا جعل هيئتهم مرعبّةً لمن يراهم، فجعل أعينهم مفتوحةً شاخصة البصر كأنهم ينظرون بحدة، والحقيقة أنهم نائمون!

خلاصة الأمر: أن الله سخَّر الكون لخدمتهم، وهيَّأ لهم مِن الظروف ما جعله سببًا في حفظهم ونجاتهم.

درس بليغ

     ورغم أن الله -عز وجل- قادرٌ على تحقيق هذه النتائج بلا أسبابٍ، إلا أنه جعل لكل شيء سببًا، فجعل مَيَلان أشعة الشمس سببًا في حفظ أبدانهم من الاحتراق، وجعل تقليب أجسامهم سببًا في حفظها من التآكل، وجعل الكلب سببًا في الحراسة، وجعل في شخوص أبصارهم سببًا في وقوع الرعب لمن ينظر إليهم، وهذا درس بليغ لكل مَن يقرأ هذه القصة، فما على العبد إلا أن يأخذ بالأسباب المتاحة، والله -عز وجل- يتولى أمر النتائج.

قدرة الله -عز وجل

وقد كتب الله على هؤلاء الفتية المؤمنين هذه النومة رحمةً بهم، وإنجاءً لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة تدل الناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله -سبحانه وتعالى- على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت -سبحانه وتعالى- للناس وليبيِّن لهم مآل المتقين، وحفظه -سبحانه وتعالى- لهم من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون.

إثبات كرامات الأولياء

     وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء بأنواع القدرة والتأثير، فإن الله -سبحانه وتعالى- أبقاهم هذه المدة الطويلة من غير أن تبلى أجسادهم أو تفسد، وهذا من أدلة إثبات كرامات الأولياء، والكرامة هي: ما يُكرم الله به عبده المؤمن المتَّبِع لشرعه -سبحانه وتعالى- مِن أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون إكرامُه من خوارق العادات، بل أعظم ما يكرم به العبد: أن يُكرَم بالتوفيق إلى طاعة الله -عز وجل-، وأن يلهم رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه.

     والله -سبحانه وتعالى- قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة من أنواع العلوم، ومن أنواع القدرة، وأعظم ذلك: أن يكون موفقًا بقوة من الله -سبحانه وتعالى- إلى طاعته، وهو معنى الحديث الشريف: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، وفي رواية أخرى: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»، فالله -عز وجل- يعينه بقوةٍ مِن عنده -سبحانه وتعالى-، وتكون هذه الجوارح وهذه القوة مصروفة في مرضاته -سبحانه وتعالى.

 

فوائد من القصة

-  فتية الكهف جعل الله مِن قصتهم عبرة للأجيال بعدهم في أن التغيير بيد الله والهداية من عند الله، فالدعاة إلى الله ينالون من خلال الدعوة شرف اللقب وشرف المهمة، ولكن الله وحده هو مالك القلوب، وبيده الأمر كله.

- مفارقة الأهل والأوطان، والانتقال إلى العيش في كهفٍ في جوف الصحراء ليس بالأمر الهين؛ بل يحتاج إلى عزيمة قوية، وتضحية كبيرة، وثبات وتمسك بالعقيدة، وهذا ما وفَّق الله فتية الكهف إليه.

- من جميل لطف الله ورحمته بفتية الكهف: أنه سلَّط عليهم النوم، فلم تذكر لنا الآيات معاناتهم في الصحراء حيث لا طعام ولا شراب، ولا أمن، ولكن القرآن تجول بنا داخل الكهف ليدلل على علامات حفظ الله للفتية ورعايته لهم في أثناء نومهم، وكأن الله سخر الكون لخدمتهم وحمايتهم.

- نتعلم من فتية الكهف منهجية الإيواء إلى الكهف وقت اشتداد الفتن، فلم يكن الفرار في هذا الوقت نوعًا من الجبن أو الضعف، ولكنه كان من أجل الحفاظ على الدعوة الوحيدة من أن تُستأصل في مهدها.

- فرار فتية الكهف يعلمنا: أنه ليس هناك في الشرع شيء يُسمَّى مواجهة الرصاص أو القوة الغاشمة بصدور عارية! فالشريعة لم تشرع للناس أن يموتوا من أجل الموت فقط، بل إن دماء المؤمنين غالية، ولا يجيز الشرع لأحدٍ أن يريقها بلا ثمن.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك