
مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف (7)
ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة، وذكرنا منهم مشهدين، المشهد الأول: الطليعة الواعدة، والمشهد الثاني: في جوف الكهف، واليوم نتكلم عن المشهد الرابع وهو: العودة إلى الكهف، وفيه عدد من الرسائل وهي: المهمة الكاشفة، والتكريم الدنيوي، والمشيئة أولًا، والتغيير في ظل غياب الفتية.
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا الجزء من القصة يُنهي القرآن مشهد فتية الكهف بتقرير عقيدة البعث التي كان فريق من أهل القرية يشكك في أمرها، وها هم هؤلاء الناس يرون بأمِّ أعينهم مثالًا عمليًّا للبعث بعد النوم الطويل الذي هو أشبه ما يكون بالموت، فضلا عن تقرير القرآن لحقيقة: أنَّ النصر في الجولة الأخيرة يكون للمؤمنين، فقد زال حكم الملك الكافر، وتغيَّرت عقائد الناس، فبعد أن كان المجتمع يطاردهم ليردَّهم عن دينهم أو يطلبهم للقتل، ها هم أولاء يقفون على كهفهم ليتجادلوا في الطريقة التي يُكرمون بها هؤلاء الفتية ويخلدون بها ذكرهم.
تغيُّر المجتمع
ورغم غلبة رأي أهل السلطان في نهاية الأمر، إلا أن هذا الخلاف الدائر بين الفريقين يدل على تغيُّر المجتمع بالفعل، فلم يعد هناك حديث حول: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}، ولكن الحديث يدور هنا حول مدى مشروعية بناء المساجد على القبور من أجل تكريم أصحابها، وهذا أمر مجزوم بحرمته والنهي عنه في شريعتنا؛ أما في شريعتهم فيبدو أنه كان محرمًا أيضًا؛ لأنَّ القرآن عبَّر عن هذا الرأي الذي مال إلى بناء مسجد عليهم بأنه رأي {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}؛ هذا فضلا عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ، وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا»؛ فدلَّ ذلك على أنه كان محرمًا في شريعة اليهود والنصارى أيضًا.
عودة أهل الكهف إلى المدينة
إن عودة أهل الكهف إلى المدينة بعد هذه المدة الطويلة لتذكرنا بعودة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته إلى مكة في يوم الفتح الأعظم؛ حيث خرجوا مطاردين فارين بدينهم إلى كهفهم الجديد (يثرب)، ومكثوا فيه عشر سنوات كاملة، ثم قدَّر الله لهم أن يعودوا إلى مدينتهم القديمة منتصرين فاتحين، يحطمون الأصنام، ويكسرون عروش الكفر، ولا شك أن الله رفع صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكانة العليا والمنزلة الأسمى، فعادوا يوم أن عادوا حاملين ألوية الدعوة ونشر الدين والرسالة؛ لأن المهام الثقيلة كانت في انتظارهم منذ ذلك اليوم، وقد انطلقوا -رضي الله عنهم- في ربوع الأرض بعد ذلك حتى حكموا أغلب الأجزاء المعمورة من الأرض في سنوات معدودة.
1- المهمة الكاشفة
قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. لقد بعث الله في أجساد الفتية الحياة بعد هذا النوم الطويل؛ لا ليعمِّروا في الحياة، ولكن ليؤدوا مهمة محددة، هي: إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت، فقدَّر الله ببعثهم مِن نومهم إصلاح عقيدة الناس في أمر البعث، فأيقن هؤلاء المرتابون أنَّ وعد الله حق لا شك فيه، ولا مرية، بعد ما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومِن نافٍ لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجةً على الجاحدين، وهكذا يقدِّر الله المقادير، ويسبب الأسباب؛ إقامةً للحجة على عباده، بإظهار البراهين الواضحة والآيات الكاشفة.
بقايا الحكم الوثني
ولعل هذا الارتياب من بقايا الحكم الوثني الذي ظل جاثمًا على صدورهم مدة طويلة من الزمن، ورغم أن غالبية القوم قد آمنوا بدين الفتية السماوي الذي كان يمثله وقتها شريعة المسيح -عليه السلام-، وكانت تنص على عقيدة البعث بالطبع، إلا أن الجاهلية كانت آثارها باقية فيهم، وهذا يدلنا على أهمية التخلص مِن رواسب الجاهلية عندما يَمنُّ الله على أحدنا بالهداية؛ لأن آثارها الخفية قد تعلق بنا دون أن ندري.
قصة العزير -عليه السلام
وهذا الأمر يتشابه مع قصة العزير -عليه السلام- في قول الله -عز وجل-: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:259).
فقد مرَّ عزير -عليه السلام- على هذه القرية (وهي بيت المقدس) -على المشهور بعد أن خرَّبها بختنصر وقتل أهلها- وهي خاوية ليس فيها أحد، فوقف متفكرًا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ وذلك لما رأى من شدة خرابها، قال الله -تعالى-: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}، وقد عمرت البلدة وتكامل ساكنوها ورجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله -عز وجل- بعد موته، كان أول شيء أحياه الله فيه عينيه؛ لينظر بهما إلى صُنع الله فيه، كيف يحيي بدنه؟!
فلمَّا استقل سويًّا، قال الله له -أي بواسطة الملك-: (كَمْ لَبِثْتَ؟) (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية، ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)؛ وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما فقده، لم يتغير منه شيء! لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب تعفن.
(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) أي: كيف يحييه الله -عز وجل- وأنت تنظر؟ (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي: دليلًا على المعاد (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) أي: نرفعها، فنركب بعضها على بعض، وركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وذلك كله بمرأى من العزير، فعند ذلك لما تبيَّن له هذا كله (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: أنا عالم بهذا، وقد رأيته عيانًا، فأنا أعلم أهل زماني بذلك.
2- التكريم الدنيوي
قال الله -تعالى-: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}: حدث خلاف بين القوم حول الطريقة التي يتعاملون بها مع هؤلاء الفتية، فريق منهم رأى أن يبنوا عليهم بنيانًا لتنتهي قصتهم وتُدفن معهم أسرارهم، ولا يصبحون مثارًا للجدل والنقاش، وفريق آخر: رأى أن يجعلهم ظاهرين بارزين ببناء مسجدٍ عليهم، وهؤلاء عبَّر عنهم القرآن بقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}.
المقصود بـ«الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ»
والمقصود بـ«الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ» هنا: ولاة الأمور بالمدينة، ويبدو أنهم رأوا أن يكون البناء مسجدًا ليكون إكرامًا لهم، ولكي يدوم تذكر الناس لهم، وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من الانحراف الذي طرأ على عقيدة النصارى، ونهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ذريعة إلى عبادة صاحب القبر، وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات؛ لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يُتناسَى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميت.
شريعتنا نهت عن اتخاذ القبور مساجد
واتخاذ القبر مسجدًا إنما يحصل بأن يُبنى عليه مسجد، أو أن يُقصد بالصلاة بأن يجعل كالقبلة، أو أن يُصلَى بجواره، أو أن يدخل إلى القبر للصلاة عنده؛ فكل هذه الصور من اتخاذ القبور مساجد، وكلها ليست حاصلة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن المسجد مبني قبل القبر بسنين، ولما احتاج الناس إلى التوسع ظلوا يتوسعون من جميع الجهات إلى أن وسعوا من الجانب الذي فيه القبر، فاتسع المسجد من حول القبر ولم يشمل القبر، والناس لا يتمكنون من الدخول إلى الحجرة ليصلوا في داخلها.
والغرض المقصود من ذلك هو: تغير المجتمع في نظرتهم للفتية من كونهم آبقين مارقين إلى عدهم أولياء صالحين، وكعادة أهل الكتاب في الميل إلى الإفراط، أرادوا أن يعظموهم، ويكرموا مقامهم بتشييد مسجدٍ على قبرهم.
لاتوجد تعليقات