رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 14 فبراير، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف (8)

ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة وذكرنا منهم مشهدين، وهما: الطليعة الواعدة، وجوف الكهف، والمشهد الثالث وهو البعث بعد النوم، واليوم نستكمل الحديث عن المشهد الرابع وهو: العودة إلى الكهف، وذكرنا من رسائله: المهمة الكاشفة، التكريم الدنيوي، واليوم نتكلم عن المشيئة أولا، والتغيير في ظل غياب الفتية.

4- المشيئة أولًا

     قال الله -تعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}.

     كما هي عادة كثيرٍ مِن الناس في التعامل مع الأمور المبهمة والقضايا المُشكلة، النقاش الطويل والجدال العقيم، مع أنَّ الأدلة قد تكون منعدمة، والمعلومات غائبة، والقرائن غير كافية، ومع ذلك يتجادل الناس لأجل أنهم مدفعون في الأغلب بشهوة الكلام، والرغبة في الإدلاء بالرأي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى؛ وإلا فعلى أي شيءٍ استند مَن قال: إن مجموعهم أربعة أو إنهم ستة أو ثمانية، الكثير منهم يُدلي برأيه كما وصف القرآن: «رَجْمًا بِالْغَيْبِ».

الأدب المطلوب تطبيقه

     ثم أرشدنا القرآن الكريم إلى الأدب المطلوب تطبيقه في مثل هذه الأحوال، وهو: الترفُّع عن المراء والجدل؛ لأن عمرَ الإنسان وجهده أعظم من أن يُنفَق في مناقشات جدلية لا طائل من ورائها، فوقت المسلم أغلى وأثمن من ذلك، ثم أرشد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله -عز وجل-؛ فإنَّه: «لما أبرَّ الله وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذي وعده المشركين أن يبيِّن لهم أمر أهل الكهف، فأوحاه إليه وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذنٍ مِن الله.

     وأمره أن يذكر نهي ربه، ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى، ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم، والمعنى: وقل لهم: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ».

تعليم وتأديب للنبي - صلى الله عليه وسلم 

     وفي هذا الموطن تعليم وتأديب للنبي الكريم ألا يجزم بحصول شيء من علم الغيب دون أن يقدم المشيئة بين يدي كلامه، وفي صلح الحديبية: بشَّر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة بالعمرة مع تقديم المشيئة، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (الفتح:27)، لذلك ورد النهي بألا يعزم الإنسان بالفعل في الأمور المستقبلة دون أن يسبقه بمشيئة الله؛ وذلك لما فيه من الكلام على المستقبل الذي لا يدري: هل يفعله أم لا؟ وهل يدركه أم لا؟ كما أن في الجزم بالفعل دون تقديم المشيئة ردًّا للفعل إلى مشيئة العبد دون التنبه إلى أن المشيئة كلها لله، فضلًا عما في ذِكْر المشيئة من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه.

5- التغيير في ظل غياب الفتية

     قال الله -تعالى-: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}: قدَّر الله -عز وجل- أن يتغير المجتمع إلى الأصلح في ظل غياب أصحاب الرسالة؛ ثلاثة قرون غاب فيها الدعاة، ليس نفيًا خارج البلاد، ولا حبسًا خلف جدران السجون، ولكنهم غابوا عن الحياة بما تحملها مِن مظاهر، غابوا حسيًّا ومعنويًّا، ومع ذلك قيَّض الله دعاة آخرين حملوا مشعل الإصلاح ورسالة الدعوة.

درس بليغ

     إنه درس بليغ لكل مَن يرى مِن نفسه محورًا أو ركنًا من الأركان التي لا يُستغنى عنها، ولا ينبغي أن تظل مكانها؛ فإن إبراهيم -عليه السلام- نادى في الصحراء -كما أمر ربه تبارك وتعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (الحج:27)، ولم يكن حوله أحد، ولم تقم عنده حياة، ولكنه أدَّى ما عليه، وحمل الله عنه هذا النداء، فأسمعه لمَن شاء مِن خلقه.

     ومرت السنون؛ وإذ بالصحراء التي نادى فيها إبراهيم -عليه السلام- تكتظ عن آخرها، وتمتلئ بالوفود التي لا تنقطع على مدار الساعة، فمَن أسمَعَ هؤلاء؟! ومَن الذي ألقى في روعهم حب هذه الأماكن التي يأتون إليها مِن أماكن بعيدة، ويبذلون مِن أجلها كرائم أموالهم؟! إنه الله -عز وجل.

أيها الداعية لا تحزن

     فلا تحزن أيها الداعية إذا لم يستجب لك الناس، وإذا أداروا لك ظهورهم، فإن دعوتك باقية، وسيحملها الله عنك إلى مَن يسمعها ويتأثر بها؛ ذلك: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12)، كما أنه يجب عليك أن تتحلى بالصبر الجميل، فأعمار الدعوات والأمم ليست بالفترات القصيرة، وربما انقضى عمرك وانتهى أجلك، وأنت ما زلت في طور التمهيد للدعوة والتأسيس لها، فلا تجزع إذا طالت بك المسيرة، ولم تنعم برؤية ثمارها.

     وتذكر أن قوم أهل الكهف استغرقت رحلةُ التغيير معهم أكثر من ثلاثة قرون، وتذكر أن قوم نوح -عليه السلام- استغرقت رحلة تغييرهم أكثر من تسعة قرون، ومع ذلك لم تكن النتيجة النهائية على المستوى المرجو والمتوقع، فانشغل بتصحيح نيتك وتصويب عملك، ودَع عنك أمر النتائج.

 

 

فوائد من المشهد

- بعث الله في أجساد الفتية الحياة بعد هذا النوم الطويل؛ لا ليعمروا في الحياة، ولكن ليؤدوا مهمة محددة، هي: إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت، فقدَّر الله ببعثهم من نومهم إصلاح عقيدة الناس في أمر البعث.

- قدر الله -عز وجل- أن يتغير المجتمع إلى الأصلح في ظل غياب أصحاب الرسالة ثلاثة قرون غاب فيها الدعاة عن الحياة بما تحملها مِن مظاهر؛ فغابوا حسيًّا ومعنويًّا، ومع ذلك قيَّض الله دعاة آخرين حملوا مشعل الإصلاح ورسالة الدعوة، وفي هذا درس بليغ لكل مَن يرى مِن نفسه محورًا أو ركنًا من الأركان التي لا يُستغنى عنها، ولا ينبغي أن تظل مكانها.

- ليس مِن لوازم النصر أن يحضر الداعية مشاهد الانتصار الختامية، بل يكفيه فقط أن يموت على الطريق حتى ولو مات في الكهف.

- إن النصر له أجل مكتوب ووقت مقدَّر، كما أن للأفراد أجلًا مكتوبًا، وعمرًا محددًا، وقد يتوافق هذا الأجل مع ذاك القدر وقد لا يتوافق، فنوح -عليه السلام- مكث في قومه داعيًا إلى الله لما يقرب من ألف عام، ومع ذلك لم تُقر عينه بإيمانهم، قال -تعالى-: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.

- لا تحزن أيها الداعية إذا لم يستجب لك الناس، وإذا أداروا لك ظهورهم، فإن دعوتك باقية، وسيحملها الله عنك إلى مَن يسمعها ويتأثر بها؛ ذلك {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}، كما أنه يجب عليك أن تتحلى بالصبر الجميل؛ فأعمار الدعوات والأمم ليست بالفترات القصيرة، وربما انقضى عمرك وانتهى أجلك، وأنت ما زلت في طور التمهيد للدعوة والتأسيس لها، فلا تجزع إذا طالت بك المسيرة ولم تنعم برؤية ثمارها.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك