
مشاهد وعبر – من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف
ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد تحدثنا في الحلقات الماضية عن المشهد الأول من تلك القصة وكان بعنوان: (الطليعة الواعدة)، وتضمن هذا المشهد عددا من الرسائل وهي، آيات الله الدامغة، والشباب اليقظ، والرحمة الخاصة، والتشريف العلوي، والانطلاقة الفتية، واليوم مع المشهد الثاني وهو: في جوف الكهف.
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا الجزء من القصة يدور حوارٌ بين الفتية حول ضرورة الفرار بدينهم من الفتن؛ حيث عجزوا عجزًا تامًّا عن إحداث تغيير في المجتمع الذي عَلَت فيه راية الكفر الصريح، وأصبحوا غير مُمَكَّنين من إقامة شعائر دينهم، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن، أن يفر العبد خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها من الأحوال التي يرجى من ورائها تحقيق النفع ونشر الهداية.
الظاهر من سياق القصة
إنَّ واقع هؤلاء الفتية يختلف عن واقع غلام الأخدود؛ فقد كان قتل غلام الأخدود سببًا في دخول الناس في الإيمان، وقد قال الناس جميعًا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ»، عندما رأوه يُقتل بالطريقة التي أرشد الغلام الملك إليها، ولكن واقع المجتمع هنا أنَّه منغمس في الكفر؛ بحيث لا يؤثر فيه قتل بضعة نفر مرقوا عن الدين -في ظنهم- وخرجوا عن ملة الجماعة، والله أعلم هل كان فرار هؤلاء الفتية بإلهامٍ مِن الله أم باجتهادٍ منهم وفق ما عايشوه من ظروف الواقع وموازين القوى؟
ولا يخفى أن مفارقة الأهل والأوطان، والانتقال إلى العيش في كهفٍ في جوف الصحراء ليس بالأمر الهين؛ بل يحتاج إلى عزيمة قوية، وتضحية كبيرة، وثبات، وتمسك بالعقيدة، وهذا ما وفَّق الله فتية الكهف إليه.
وإذا استصحبنا ما ذكره بعض المفسِّرين من أنَّ هؤلاء الفتية كانوا أبناء ملوك أو أغنياء لعلمنا مقدار الفتنة التي أصابت هؤلاء الشباب؛ فلو لم يكن لديهم إيمانٌ عميقٌ بالله -تعالى- لما صبروا على حياة الكهوف بعد أن عاشوا حياة القصور!
ومن جميل لطف الله ورحمته بهم: أنه سلَّط عليهم النوم، فلم تذكر لنا الآيات معاناتهم في الصحراء؛ حيث لا طعام ولا شراب، ولا أمن، ولكن القرآن تجول بنا داخل الكهف ليدلل على علامات حفظ الله للفتية ورعايته لهم في أثناء نومهم، وكأن الله سخر الكون لخدمتهم وحمايتهم.
1- العزلة الاضطرارية
قال -تعالى-: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، الظاهر أن هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة بعد التأكد من عدم قدرتهم على إقامة شعائر دينهم، وعدم تمكُّنِهم من إحداث أثر في المجتمع، فلم يأخذ الفتية قرارًا بالاعتزال لمجرد أن وجدوا مِن قومهم ممانعةً لدعوتهم، فوجود الشرّ لا يسوغ للإنسان أن يعتزل المجتمع، ولكن الواجب عليه أن يعتزل ما هم عليه مِن الشرِّ؛ ذلك أن اعتزال الشر نفسه فرضٌ على كل أحدٍ، ولا عُذر لأحدٍ أن يفعل الشرَّ بزعم أنه يريد أن يكونَ مع الناس، أو أنَّ الناس يضغطون عليه، أو أنَّه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهًا.
شروط الإكراه الشرعي المعتبر
ومِن شروط الإكراه الشرعي المعتبر: أن يكون عاجزًا عن التخلُّص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهًا، كما قال الله -عز وجل-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء:140)، وقال -عز وجل-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:68)، وقد اعتزل إبراهيم عليه السلام قومه، فقال -تعالى-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم).
وكذلك اعتزل نبينا - صلى الله عليه وسلم - قريشًا لما آذوه وجَفَوه، ودخل الشِعْبَ، وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى أرض الحبشة، ثم لحقوا به الى المدينة بعد أن أعلى الله كلمته، وهذا أيضًا اعتزال عن الكفار بعد اليأس منهم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتزل المسلمين، ولا مَن توقع إسلامه مِن الكفار.
أما إذا تمكن الإنسان من نشر الخير، فلا بد أن يخالط الناس حتى يدعوهم إلى الهداية والصلاح؛ وإلَّا فلو أن كل شر ظهر في مكانٍ ما، تركه أهل الصلاح واعتزلوه، فمتى يظهر الحق؟! وعلى يد مَن تنتشر الدعوة؟!
والأنبياء جميعًا قد أقاموا زمانًا في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعليًا مستعلنًا ظاهرًا في الناس، وهم يدعون الناس إلى الله -سبحانه وتعالى- وإلى نبذ الشرك والأوثان، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أُنْقِذ أحد مِن الشرك، ولو كان الرسل أول ما واجهوا الشرك والكفر رحلوا وفارقوه، لما اهتدى أحد من أقوامهم، فلا بد أن يعيش الدعاة بين الناس حتى يبلغوهم دعوة الحق.
2- الفرار الواجب
قال الله -تعالى-: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}: نتعلم من فتية الكهف منهجية الإيواء إلى الكهف وقت اشتداد الفتن وتسلط الظالمين؛ فلم يكن الفرار في هذا الوقت نوعًا من الجبن أو الضعف، ولكنه كان مِن أجل الحفاظ على الدعوة الوحيدة من أن تُستأصل في مهدها، وقد قصَّ علينا القرآن أمر الله -عز وجل- لبني إسرائيل عندما خافوا من بطش فرعون، فقال -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس:87)، وهذا نوع من الإيواء إلى الكهف يناسب طبيعتهم وظروف بيئتهم، وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عندما تمكن من الانسحاب بالجيش في سرية مؤتة، ولم يوافق النبي -صلى الله عليه وسلم - على تسمية ما فعلوه فرارًا مذمومًا، فقال مدافعًا عنهم: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللهُ».
من هنا نعلم أنه ليس هناك في الشرع شيء يُسمَّى مواجهة الرصاص أو القوة الغاشمة بصدورٍ عاريةٍ! فالشريعة لم تشرع للناس أن يموتوا مِن أجل الموت فقط، دون إحداث نكاية أو تحقيق نصر، بل إن دماء المؤمنين غالية، ولا يجيز الشرع لأحدٍ أن يريقها بلا ثمن.
موقفان مهمان من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم
ولتتأمل في موقفين مهمين من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنستلهم منهما هذا المنطلق التأسيسي في فقه التعامل في أوقات الاستضعاف.
- أما الأول: فهو موقف سمية -رضي الله عنها- وهي تُعذَّب في صحراء مكة حتى قتلها أبو جهل بحربة في موضع عفتها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر عليها ويراها وهي تعاني من شدة العذاب والألم مع زوجها وابنها، فلا يزيد عن قوله: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ».
- أما الثاني: فهو موقف المرأة المسلمة التي كانت تبيع في سوق المدينة، فاحتال يهودي خبيث ليكشف سوأتها، فغافلها وربط طرف ثوبها حتى إذا قامت انكشفت عورتها، وقد كان رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أن جرَّد جيشًا لتأديب اليهود في غزوة بني قينقاع.
سؤال مهم
- السؤال هنا: ترى ما الفرق الحاسم والجوهري الذي جعل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في الموقف الأول لامرأةٍ ضعيفة تُعذَّب أمام عينيه: «صبرًا»، ثُمَّ جعله في الموقف الثاني يقيم حربًا، مع أن المقارنة الظاهرية تقول: إنَّ الموقف الأول أكثرُ إجرامًا وأشد ألمًا على النفس من الموقف الثاني؟!
إجابة قاطعة
الإجابة القاطعة: إنها موازين القوى المتفاوتة بين القدرة والعجز، والقوة والضعف، وإلَّا فهل يمكن لأحدٍ أن يتهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالتخاذل أو التواني عن نصرة المسلمة الضعيفة؟! كلَّا وحاشاه - صلى الله عليه وسلم .
هذا مثال للضوابط الشرعية التي يأنف منها بعض المتهورين، عندما تُكبِّلهم تلك الضوابط عن اختياراتهم السياسية أو توجهاتهم المتطرفة، مع أنها ضوابط موافقة للعقل البشري السليم، والدليل على ذلك أنهم لا يسعهم إلا التسليم بهذه الضوابط في مواقف أخرى، وهنا تبدو الازدواجية والانتقائية مع قواعد الشرع وأدلته.
منهجية الإيواء
الحياة تحتاج إلى قدرٍ مِن العزلة المؤقتة تخلو فيه بربك، وتجدد فيه إيمانك، وتحاسب نفسك على ما فات، وترتب أوراقك لما يأتي، وإلا فمشاغل الحياة كفيلة بأن تلتهم منك عمرك دون أن تشعر، حتى مَن يشغل وقته بالدعوة والحركة من أجل تعبيد الناس لربهم لابد له من خلوة يستجمع فيها أنفاسه، ويشحن فيها قلبه بالوقود الإيماني المتجدد؛ لذلك كان يحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تحقيقًا لبعض هذه الأهداف.
لاتوجد تعليقات