رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 10 أغسطس، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف – قصة موسى -عليه السلام- والخضر (2)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، بأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

     بدأنا في الحلقة الماضية الحديث عن رحلة موسى -عليه السلام-، وقلنا: إنَّ هذه القصة وردت في سياق الرد على أهل الكتاب، وأنها تفضح منطقهم الفاسد في الربط بين معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوال وقعت في الدهر الأول، وبين إثبات صحة نبوته، كما ذكرنا أنَّ المَعْلَم الرئيس في القصة هو: ضرورة طلب العلم وأهميته وشرفه، وهو الدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب، وهو الرغبة في تحصيل العلم، ثم تحدثنا عن المشهد الأول وهو العزيمة الصادقة، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل هذا المشهد.

2- الحياة تعود إلى السمكة

     قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}، عندما حان الأجل، ووصل موسى وفتاه إلى الموضع المحدد، عادت الحياة إلى السمكة المملوحة، فقفزت في الماء مرةً أخرى! وكان هذا الأمر مِن أحد العجائب الكثيرة التي جاءت في ثنايا القصة، وهي على أي الأحوال ليست بأعجب مما سيشاهده موسى بعد ذلك خلال الرحلة، قال ابن كثير -رحمه الله-: «أمر الفتى بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يُقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء، فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع -عليه السلام-، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع -عليه السلام- وسقط الحوت في البحر».

عجائب قدرة الله

     وفي هذا المشهد يقف الإنسان متأملًا في عجائب قدرة الله، وما قدَّره الله -عز وجل- مِن أسبابٍ ظاهرةٍ، فمَن الذي أوحى إلى السمكة أن تقفز في البحر عند هذه النقطة؟! ومَن الذي أعاد إليها الحياة بعد أن تملَّحت وأصبحت جاهزةً للأكل؟! إنه الله -عز وجل-، الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تفنى معجزاته، ومع ذلك تبقى الأسباب لها دورها وفاعليتها، حتى يتربَّى الإنسان على التوكل مع الأخذ بالأسباب.

3- حسن الصحبة

     قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا}، السفر يُسفر عن أخلاق الرجال، وموسى -عليه السلام- كان يعامل فتاه كما يحب أن يتعامل، وعلى مدار الرحلة نجده يجمع بينه وبين فتاه في الخطاب، وعندما حان موعد الغذاء طلب منه إعداده ليأكلا الطعام نفسه سويًّا.

      وهكذا تكون الصحبة الصالحة، تعاون وتغافر، وتراحم وترفُّق، وتواضع، فالكبير يرحم الصغير ويحنو عليه، ويتواضع معه، والصغير يحترم الكبير ويحفظ له مكانته وقدره، ويعينه ويساعده، ويترفق في تعامله معه، والكل يعامل إخوانه باللين والرفق، والتغاضي عن الزلّات، وتحمُّل اختلاف الأذواق، والعادات والطباع.

4- ضريبة التجاوز

     قال الله -تعالى-: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}، هذا النصب لم يظهر عليهما إلا بعد أن جاوزا الحد المرسوم بمرحلةٍ يسيرةٍ، رغم أن السفر كان شاقًّا وطويلًا، ولعل الله -عز وجل- أراد أن ينبههما لذلك بإشارة خفية تجعل مِن اليسير عليهما الرجوع إلى المكان المطلوب.

     فإذا كانت مخالفة يسيرة غير مقصودة وقعت من موسى -عليه السلام- وفتاه جعلتهما يشعران بالنصب والتعب؛ فكيف بالمخالفات الجسيمة المتعمَّدة؟! وكيف بالمداومة على المعاصي والذنوب والإصرار على فعلها وكثرة تكرارها؟! وكيف بالمجاهرة بها وإعلانها وعدم الحياء من إظهارها؟!

      إنَّ حلم الله على عباده هو الذي يمنع نزول الغضب على مَن يعصيه ويخالف أوامره، ولولا هذا الحلم لهلك العصاة جميعًا، ولكن الله يمهلهم لعلهم أن يرجعوا ويتوبوا، إلا أنً هناك شقاءً وألمًا لابد لكل عاص أن يشعر به ويكتوي بناره، وهناك ضنك وضيق وشقاء، يشعر به كلُّ مَن ابتعد عن الله -عز وجل-، وهذا جزاء عادل، وعقوبة مستحقة، وإنذار للعبد حتى لا يتمادى.

5- إقالة العثرة

     قال الله -تعالى-: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}، رجع موسى وفتاه على طريقهما يقُصَّان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، والملاحظ هنا: أن موسى -عليه السلام- لم يعاتِب الفتى ولم يعنِّفه، رُغم أنه أخطأ، ورغم أهمية اللقاء، وبُعد المكان، وشدة التعب والجوع، فضلًا عمَّا يترتب على ذلك التأخير من آثار أخرى، إلا أنَّ موسى -عليه السلام- كان حليمًا على فتاه، فعفا عنه وغفر له زلَّته.

      وكما أقال موسى -عليه السلام- عثرة الفتى، أقال الله عثرته بعد قليل؛ فقد تحمَّله الخضر عندما نسي وسأله في المرة الأولى على خلاف المتفق عليه بينهما، ثُم تحمله بعد ما سأله في المرة الثانية؛ فإذا أردتَ أن يرزقك الله حسن معاملة الخلق لك فبادر بحسن معاملتك لغيرك؛ فإن صنائع المعروف لا تضيع، والجميل لا يُنسى.

فوائد من المشهد

- المَعْلَم الرئيس لقصة الخضر هو: ضرورة العلم وشرف طلبه؛ فالدافع الذي جعل موسى -عليه السلام- يسافر هذا السفر الطويل الذي وجد منه النصب والتعب هو الرغبة في تحصيل العلم.

- إن مجيء قصة موسى والخضر -عليهما السلام- بعد قصة صاحب الجنتين التي تحكي تجربة دعوية في مجتمع ينعم فيه صاحب الدعوة بحرية الحركة، وقبل قصة ذي القرنين التي تحكي تجربة دعوية أيضًا، ولكن بعد حصول التمكين والقوة والسلطان، إشارة إلى أن العلم أحد أهم المحطات على طريق التمكين، بل لا يحدث التمكين الحقيقي إلا بعد أن تُحصِّل الفئة المؤمنة القدر الواجب من العلم، وتبذل المهج في سبيله.

- رحلة موسى -عليه السلام- مع فتاه تعلمنا كيف تكون الصحبة الصالحة؟ تعاون وتغافر وتراحم، وترفُّق وتواضع، فالكبير يرحم الصغير ويحنو عليه ويتواضع معه، والصغير يحترم الكبير ويحفظ له مكانته وقدره، ويعينه ويساعده ويترفق في تعامله معه، والكل يعامل إخوانه باللين والرفق والتغاضي عن الزلّات، وتحمُّل اختلاف الأذواق، والعادات والطباع.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك