رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 18 سبتمبر، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف – قصة موسى -عليه السلام- والخضر (6)

 

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، وأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.

     تحدثنا في الحلقات الماضية عن مشاهد القصة فكان المشهد الأول بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: (مجمع البحرين)، ثم تحدثنا عن المشهد الثالث وكان بعنوان: الحوادث الغامضة، واليوم نستكمل المشهد الرابع وهو بعنوان: (الحِكَم الخفيَّة).

2- أبوة مؤمنة وبنوة كافرة

     قال الله -تعالى-: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا»، الإيمان هبة من الله -عز وجل-، فقد عَلِم الله أزلًا أن هذا الغلام سيكفر حينما يبلغ رغم أن أبويه مؤمنان، فليس في الإيمان نسب ولا واسطة، كما حكى القرآن عن زوجة نوح -عليه السلام-: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم:10)، وقال عن ابنه: «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (سورة هود)، وفي المقابل: كانت زوجة فرعون مؤمنة، قال الله -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم:11).

الهداية بيد الله

     من هنا نعلم أن الهداية بيد الله، فإذا وجدنا أن أقرب الناس إلينا لم يُرزق هذه الهداية، فلنوقن أنَّ لله في ذلك حِكَمًا، وأن الهداية لابد أنْ يستقبلها مَحِلٌ صالح وأرضٌ مهيأة، وليست بالرغبة ولا بالتمني، كما قال الله -عز وجل- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص:56).

الله أعلم بقلوب العباد

     فالله أعلم بقلوب العباد، وهو مطلع على السرائر، وهو أعلم بمَن يتقي، وبمَن يعصي، كما ذكر الله حال المشركين المكذبين فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (سورة الأنفال).

الأموال والأولاد قد يكونون فتنة

      ونعلم أيضًا: أن مِن الأموال والأولاد ما قد يكون فتنة لنا، قال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:28)، وقال -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن:15)، فقد عَلِم الله -عز وجل- أن هذا الغلام سيصير فتنة لأبويه بعد ما يكبر، فكم مِن أولاد وأبناء تسببوا في فتنة آبائهم! وكم مِن بناتٍ شجعن أمهاتهن على التبرج بعد ما كبرن! وكم مِن أبناء تسببوا في قطيعة رحمٍ لآبائهم وأمهاتهم! وكم مِن أبناء جلبوا لأهليهم المتاعب والمصائب حتى أنهم تمنوا أن لو فقدوهم، أو لم يكونوا قد رُزقوا بهم من البداية!

الإنسان لا يعلم أين الخير

     فالإنسان لا يعلم أين الخير على الحقيقة، فقد يتمنى الولد، فإذا فيه شقاؤه وتعاسته، وقد يشتهي البنت فإذا فيها مذلته ومهانته، ولكن يجب على الإنسان أن يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وليكثر من قول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة البقرة)، فإنه مِن خير الدعاء، وأنفعه وأجمعه.

تسرية عن قلب كل إنسان

     وفي الآية تسرية عن قلب كل إنسان لم يُرزق الولد، أو كل مَن فقد ابنه بموت أو مرض أو غيره، فلعل الله قد رحمه من العذاب والشقاء بموته صغيرًا، وربما عافاك من الفتنة في دينك ودنياك، فإنه مِن المؤكد أن والدي الغلام قد حزنا على فقده، ولكن شهود الحكمة الإلهية في مثل هذه الحوادث من أفضل ما يعين الإنسان على مجاوزة مصابه، والتسامي على آلامه، فعلِّق قلبك بربك، وأحسن به الظن، فما أراد الله لنا إلا الخير مهما غابت الحِكَم عن أنظارنا.

القتل للغلام حدث بوحيٍ مِن الله

     وغني عن الذكر: أن هذا القتل للغلام حدث بوحيٍ مِن الله، ولا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك ويدَّعي أن هذا وحي أو إلهام مِن الله! بل لا يفعل ذلك إلا الدجّالون الكذّابون الذين يدَّعون معرفة الغيب والاتصال بالوحي، وما هو إلا وحي الشياطين والأبالسة ممن يرومون نشر الفساد والضلال والشر بين الناس، وقد كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأله: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْتُلُ مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ أَحَدًا؟»، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَنْتَ فَلَا تَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الْغُلَامِ حِينَ قَتَلَهُ، وَتُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الْكَافِرَ، وَتَدَعَ الْمُؤْمِنَ».

3- الكنز المدفون

     قال الله -تعالى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وفي هذا دليل: على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته نفعهم في الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور:21)، ولم يذكر الله نوع الصلاح الذي كان مِن والدهم، ليفتح الباب لفعل أي نوع من الصلاح حتى لا تقصر همة بعضهم بتصور خاص عن الصلاح فيحجِّرون واسعًا، فليكثر الوالدان من الأعمال الصالحة فأثر ذلك ينعكس على الأبناء في الحياة وبعد الممات، وقد ورد عن سعيد بن المُسَيب -رحمه الله- أنه قال لابنه: «لأزيدن في صلاتي مِن أجلك، رجاء أن أحفظ فيك» ثم تلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف: 82).

مما يؤسف عليه في هذه الأيام

     أن ينهمك الوالدان في تأمين مستقبل أولادهم الدنيوي فقط، ويقصِّرون في تأمين مستقبلهم بعد مماتهم بتنشئة أبناء صالحين يدعون لهم ويترحمون عليهم، كما ذكر القرآن الدعاء للوالدين في قوله -تعالى-: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح:28)، وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم:41)، وكما أمرنا الله -عز وجل- بالترحم على والدينا فقال -عز وجل-: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء:24)، فاصنع لنفسك كنزًا مِن البرِّ والتقوى والصلاح، يعثر عليه أولادك مِن بعدك، لكي تستمطر بسببه على قبرك الرحمات.

4- الحكمة الإلهية

     قال الله -تعالى-: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، ختم الخضر كلامه عن أسرار ما قام به من أفعالٍ بتقرير الحكم الإلهية، فبعد ما أوضح لموسى -عليه السلام- الحِكَم الكامنة وراء تلك الأفعال، أكَّد عليه أنه لم يقم بهذه الأمور من تلقاء نفسه، وإنما كانت هذه الأفعال بوحي من الله للخضر حيث أمره بالفعل وأطلعه على الحكمة منه، وهذا الأمر لا يتحقق لأحدٍ بعد الخضر، فلا يجوز لأحدٍ أن يدَّعي علم الغيب، أو يزعم أن له اتصالًا خاصًّا بالله -عز وجل-، يتلقَّى منه التكليفات والأوامر؛ لأن هذا الادّعاء يصادم ما نصت عليه الشريعة من انقطاع الوحي والرسالة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعلى مذهب من يقول: إن الخضر نبي، فقد انقطعت النبوة كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وعلى مذهب مَن يقول بولايته وأنه عبد صالح، وليس نبيًّا مرسلًا، فمثل هذه الولاية الخاصة لن نعرفها عن أحدٍ إلا مِن خلال الوحي أيضًا، كما عرفنا خبر الخضر من خلال القرآن والسُّنة، كما أن الولاية الربانية لا تكون إلا فيما يوافق الشرع، وتحصل على يد مَن عُرف عنهم الاستقامة وصلاح الشأن، أما إذا ادّعى أحدٌ أن له علمًا لدُنِّيًّا خاصًّا كما كان للخضر علم خاص، فهو دجالٌ ضالٌ يكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم .

فوائد من المشهد

- مما يُسرِّي عن المؤمن في أوقات البلاء أن الحياة قصيرة، فهذا الملك الذي يغتصب سفن الناس مهما طال ظلمه فلن يعمِّر في الحياة أكثر من عمره المقدَّر، وسيرحل تاركًا خلفه كل شيء.

- لم يأمر الله -عز وجل- الخضر أن يواجِه الملك الظالم، وأن يخلِّص الناس من شره، وهذا يدلنا على أنه في بعض الأحيان قد لا نتمكن من مواجهة الظالم، وقد لا يكون لدينا القدرة الكافية على ردعه؛ فليس مِن الحكمة وقتها أن نتصدى له، بل قد نحتال من أجل أن ندفع الضرر عن أنفسنا دون مواجهته.

- قصة السفينة جاءت لتعلمنا كيف نأخذ بالأسباب، وإلا فمعلوم أن الله قادر على أن يهلك الظالم بكلمة، ولكن الله -عز وجل- أجرى هذه الأحداث بهذه الطريقة، حتى نتعلم نحن كيف نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا في حياتنا.

- قصة السفينة تعلمنا كيف نجري الموازنات الدقيقة التي قد نلجأ إليها في ظل اختلال ميزان القوى بيننا وبين أعدائنا، فقد يلجأ بعض العلماء أو العقلاء في موقفٍ ما إلى خرق جزءٍ مِن السفينة بأنفسهم، حماية للسفينة كلها، فلا يحتمل بعض الناس منهم هذا الفعل، وربَّما اتهموهم وطعنوا في أمانتهم وديانتهم، ولو عقلوا وتدبروا، لعلموا أن مثل هؤلاء العقلاء يحفظ الله بهم الأمة من الضياع في ظل موازناتٍ صعبةٍ وخياراتٍ مُرَّة، كما اضطر الخضر إلى خرق سفينة المساكين رغبةً في حمايتها مِن الضياع بالكلية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك